المشاركات

عرض المشاركات من نوفمبر, 2025

(30) سورة البقرة - التوبة في ميزان القرآن: من الزلة إلى الطهارة الروحية

  المقدمة: الحمد لله رب العالمين، خلق الإنسان في أحسن تقويم، وابتلاه بالاختيار ليميز الخبيث من الطيب، والصادق من المدّعي، والصابر من الجازع. والصلاة والسلام على سيدنا محمد ﷺ، الذي جاءنا برسالة الهداية والرحمة، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين. إن الإنسان بطبيعته ضعيف، معرض للخطأ والزلل، يتقلّب بين الطاعة والمعصية، وبين القرب والبعد عن الله تعالى. لكن من أعظم مظاهر رحمة الله بعباده أنه لم يغلق أمامهم باب العودة إليه، بل فتح لهم باب التوبة على مصراعيه، وجعله بابًا دائمًا لا يُغلق إلا عند انقضاء الأجل أو قيام الساعة. فالتوبة ليست مجرد لفظٍ يقال أو شعورٍ بالندم العابِر، بل هي تحوّل داخلي شامل، وانتقال من حال الغفلة إلى حال اليقظة، ومن ظلمة الذنب إلى نور الرجوع إلى الله. ولأن التوبة من أعظم المقامات الروحية التي يسلكها المؤمن في طريقه إلى ربه، فقد تكررت معانيها وقصصها في القرآن الكريم، لا لمجرد السرد، بل للعبرة والتربية والتزكية. فنجد أن الله تعالى عرض علينا نماذج مختلفة للتوبة، شملت أنبياء وأممًا وصحابة، لكلٍ قصته وظروفه، ولكن العبرة واحدة: أن باب الرجوع إلى الله مفتوح، وأ...

(29) سورة البقرة - لماذا لا تُرى ذاتُ الله في الدنيا؟ وما حكمة المنع وبِشارة النظر في الآخرة

المقدّمة   : الحمد لله القدّوس السلام، الواحد الأحد، والصلاة والسلام على سيّدنا محمدٍ خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين . يتناول هذا الدرس سؤالًا عقديًّا عظيمًا : لماذا لا يمكن رؤية الله في الدنيا، مع أن النفوس تتشوّف إلى القرب منه سبحانه؟ ننطلق من الآيتين المحوريتين: طلبُ موسى عليه السلام الرؤية فقيل له: ﴿لَن تَرَانِي﴾، وتجلي الربِّ للجبل فصار دكًّا؛ وطلبُ بني إسرائيل الرؤية جهرًا فأخذتهم الصاعقة ثم بعثهم الله لعلّهم يشكرون. هاتان الحادثتان تكشفان عجز البنية الدنيويّة المحدودة عن احتمال أنوار الجلال الإلهي، وأن الرؤية كرامةٌ مؤجَّلةٌ لدار البقاء لمن زكّى نفسه وثبَت على التوحيد: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ . سنبيّن الحكمة: أن الإنسان مُؤتَمنٌ على روحٍ مقدَّسةٍ ونفسٍ مبتلاة؛ فإذا هُذِّبت النفس بميزان الوحي، والتزم العبدُ الحلالَ واجتنب الحرام، وأخلص العبادةَ لله وحده، رُفع يوم القيامة إلى مقام القرب والنظر. وسنقف مع علاقة الرُّوح والنَّفْس بالتزكية، وكيف تكون الشهادتان والعمل الصالح طريقَ الكرامة العظمى. الهدف أن يخرج القارئ بفهمٍ را...

 (28)سورة البقرة – عاقبة من يأمر بالخير ولا يعمل به – بين القول والعمل في ضوء القرآن والسنة"

    المقدمة : يتناول هذا الدرس التحذير الشديد الذي ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية من التناقض بين القول والعمل، وهو خُلُقٌ يجرّ على صاحبه مقتَ الله وعذابه . يبدأ الدرس ببيان توبيخ الله تعالى لأهل الكتاب في قوله : ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ﴾ [البقرة: 44]، وفيه ذمّ لمن يدعو إلى الخير ولا يلتزم به. ثم يُضرب المثل بالنبي شعيب عليه السلام الذي قال لقومه : ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ﴾ [هود: 88]، ليؤكد أن الداعية الصادق هو الذي يبدأ بنفسه قبل غيره . كما يوضح قوله تعالى : ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [الصفّ: 3]، أن القول بلا عمل من أعظم ما يُبغضه الله، وأن النفاق يبدأ من وعدٍ لا يُوفَى وكلمةٍ بلا فعل . ويروي الحديث الشريف في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال : “ يُؤتَى بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى …” وذلك عقابٌ لمن كان يأمر بالمعروف ولا يأتيه، وينهى عن المنكر ويقع فيه . كما يورد التشبيه القرآني في سورة الجمع...

(27) سورة البقرة - الركوع مع الراكعين – السرّ الروحي في الخضوع الجماعي لله تعالى

المقدمة : أيها الإخوة والأخوات، إنّ الصلاة ليست مجرد حركاتٍ يؤديها الجسد، بل هي سلوكٌ روحيّ يربط العبد بخالقه في كل قيامٍ وركوعٍ وسجودٍ. ومن بين أوامرها العظيمة قوله تعالى : ﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾، التي تكررت في سورتي البقرة و آل عمران ، لتُشير إلى أن الركوع ليس عبادةً فردية فحسب، بل هو مظهرٌ من مظاهر الوحدة الروحية والاجتماعية للمؤمنين، إذ يجتمعون في صفٍّ واحدٍ، متواضعين أمام عظمة الخالق، متساوين لا يُفرّق بينهم مالٌ ولا جاه . فالركوع معناه الحقيقي ليس الانحناء بالجسد فقط، بل هو انحناء القلب وخضوع الروح لله، وإقرارٌ بأن الكبرياء له وحده، وأن كل مخلوقٍ — مهما علت منزلته — عبدٌ خاضعٌ لعظمة الله . ولهذا جاء الخطاب حتى لمريم عليها السلام، وهي الزاهدة العابدة المنقطعة في المحراب، فقال الله لها : ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾، أي كوني جزءًا من جماعة العابدين، لأن العبادة الحقة لا تنعزل عن الجماعة . إنّ في الركوع مع الراكعين درسًا في التواضع، وإزالةٍ للكبر، وتذكيرًا للإنسان بمقامه أمام خالقه، ليعيش متوازنًا بين عبادةٍ صادقة...