(30) سورة البقرة - التوبة في ميزان القرآن: من الزلة إلى الطهارة الروحية

 المقدمة:


الحمد لله رب العالمين، خلق الإنسان في أحسن تقويم، وابتلاه بالاختيار ليميز الخبيث من الطيب، والصادق من المدّعي، والصابر من الجازع. والصلاة والسلام على سيدنا محمد ﷺ، الذي جاءنا برسالة الهداية والرحمة، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.


إن الإنسان بطبيعته ضعيف، معرض للخطأ والزلل، يتقلّب بين الطاعة والمعصية، وبين القرب والبعد عن الله تعالى. لكن من أعظم مظاهر رحمة الله بعباده أنه لم يغلق أمامهم باب العودة إليه، بل فتح لهم باب التوبة على مصراعيه، وجعله بابًا دائمًا لا يُغلق إلا عند انقضاء الأجل أو قيام الساعة. فالتوبة ليست مجرد لفظٍ يقال أو شعورٍ بالندم العابِر، بل هي تحوّل داخلي شامل، وانتقال من حال الغفلة إلى حال اليقظة، ومن ظلمة الذنب إلى نور الرجوع إلى الله.


ولأن التوبة من أعظم المقامات الروحية التي يسلكها المؤمن في طريقه إلى ربه، فقد تكررت معانيها وقصصها في القرآن الكريم، لا لمجرد السرد، بل للعبرة والتربية والتزكية. فنجد أن الله تعالى عرض علينا نماذج مختلفة للتوبة، شملت أنبياء وأممًا وصحابة، لكلٍ قصته وظروفه، ولكن العبرة واحدة: أن باب الرجوع إلى الله مفتوح، وأن الذنب مهما عظم، فإن رحمة الله أعظم منه، بشرط الصدق والإخلاص وتحمل تبعات الخطأ.


وفي هذا الدرس سنتأمل مفهوم التوبة من خلال ثلاث قصص عظيمة وردت في القرآن الكريم والسيرة النبوية، وهي: توبة آدم عليه السلام وزوجه بعد الوقوع في المعصية، وتوبة الثلاثة الذين خُلّفوا عن غزوة تبوك، وتوبة بني إسرائيل بعد عبادتهم للعجل. وسنحاول من خلال هذه النماذج أن نفهم أبعاد التوبة، وآثارها، وسنن الله فيها، وكيف تكون طريقًا للطهارة الروحية، لا مجرد وسيلة لمحو الذنوب فقط.


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أيها الإخوة والأخوات في المجموعة!

الحمد لله العلي العظيم، نحمده ونشكره، ونسأل أن يصلي ويسلم ويبارك عددًا لا يُحصى على نبينا وخاتم المرسلين محمد ﷺ، وأن يرضى عن جميع الصحابة الكرام أجمعين.


موضوعنا اليوم هو التوبة، وسنتحدث عنها بالاستناد إلى ثلاث قصص وردت في القرآن الكريم:

القصة الأولى عن آدم وزوجه عليهما السلام حينما تابا توبة صادقة وخالصة بعد خطئهما؛

والقصة الثانية عن قوم نبي الله موسى عليه السلام الذين عبدوا العجل ثم تابوا توبةً نصوحًا؛

والقصة الثالثة عن ثلاثة من الصحابة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك في عهد نبينا محمد ﷺ، وقد ورد ذكرهم في سورة التوبة حيث قَبِل الله توبتهم.

وسنحاول من خلال هذه القصص الثلاث أن نتأمل الحكمة البالغة والمعاني العميقة للتوبة في كتاب الله تعالى.


وقبل أن نبدأ بتحليل هذه القصص الثلاث، لا بد أن نتعرّف على مفهوم التوبة بشكل شامل.

إن ربنا سبحانه وتعالى له اسم من أسمائه الحسنى هو التوّاب — أي الذي يقبل التوبة من عباده.


فكل ما في هذا الكون من مخلوقات هو من خلقه جل جلاله، وقد خُلقت هذه المخلوقات في إطار الزمان والمكان، ولذلك فهي محدودة ومقيّدة، ولا بد أن يكون فيها النقص والقصور، إذ لا كمال إلا لله وحده.

فالله تعالى منزّه عن كل قيد وحدّ ونقص، وهو وحده الحرّ، الكامل، المتعالي فوق كل ما سواه، لا يعتريه عيب ولا يحدّه وصف.


أما الإنسان، فقد خُلق له الاختيار، ولهذا فهو يخطئ كثيرًا حين يختار طريقه دون هدى من الله، فيقع في الخطأ، بل وقد يرتكب الذنوب والمعاصي.

فالإنسان حين يسعى لإشباع شهواته الجسدية والنفسية أو لإرضاء ميوله ورغباته في كل جانب من جوانب إنسانيته، إن لم يكن له نور من الهداية الإلهية يرشده، فإنه حتمًا سيضلّ ويتبع هواه، ويقع في الخطأ والذنب.


لقد خلق الله تعالى المخلوقات كلها لتكون آياتٍ دالةً عليه، وأكرم الإنسان بأن جعله يحمل الروح التي هي من أمره، أي العنصر الروحي الذي به يُدرك الإنسان ربه، ويشهد أنه هو المعبود بحق، المنزّه عن الشريك والنقص.


فمن اتبع هواه وشهواته دون أن يتبع هداية الله ورسله، فلن يستطيع أن يشهد بحق أن الله هو الإله الواحد الذي لا شريك له، ولن يدرك صفاته الكاملة وأسمائه الحسنى.

إن الله تعالى أرسل إلينا الرسل والأنبياء ليهدونا إلى كيفية عبادته الحقّة، وليعلمونا أن نُظهر شهادتنا له من خلال العمل الصالح والطاعة والعبادة.


فإذا لم يعبد الإنسان ربَّه كما أُمر، ولم يعمل عملًا صالحًا يشهد من خلاله بوحدانية الله، فإنه قد وقع في أعظم الذنوب، وهو الشرك بالله.

وإذا لم يتبع الإنسان ما جاء به الرسل من أوامر ونواهٍ، فإنه يقترف أنواعًا شتى من الذنوب والمعاصي.


فالله تعالى خلق الإنسان حرّ الإرادة، ذا شهوات ورغبات، وابتلاه بأن يعيش في عالم مليء بالاختبارات والمشقات، ليُظهر صدقه في عبادة الله ومعرفته.

ومن رحمته سبحانه أنه يقبل توبة عباده واستغفارهم، لأنه وحده الكامل الذي لا نقص فيه، القدوس الطاهر من كل عيب.


فكل ما في الكون من خلق الله يحمل في طبيعته نقصًا وخللًا، ولهذا لا ملجأ للمخلوق إلا إلى خالقه، ولا يُطلب الغفران إلا منه، ولا تُقبل التوبة إلا لديه.

ولذلك، فإن الله تعالى يتقبّل التوبة الصادقة والاستغفار الخالص من عباده المؤمنين، إذا كانت توبتهم نابعة من قلبٍ مخلصٍ طاهرٍ يريد وجه الله.


أولًا: توبة أبينا آدم وزوجه عليهما السلام


إن نبينا آدم عليه السلام كان مخلوقًا عظيمًا ذا مكانة سامية، فهو أول نبيٍّ وأول رسولٍ للبشرية، اختاره الله وفضّله وخصّه بالتكريم، ونفخ فيه من روحه، وعلّمه أسماء كل شيء، وقرّبه منه تشريفًا له.

ثم أسكنه الله الجنة هو وزوجه، ووصّاهما ألا يقتربا من شجرة معينة. ولكن رغم هذا التحذير الواضح، استسلم آدم وزوجه لوسوسة النفس والشيطان، فاقتربا من الشجرة وأكلا منها.


إن الإنسان إذا تأمل كيف وقع هذا الحدث، يجد أن الشيطان لا يستطيع أن يغوي إنسانًا إلا إذا وُجد في قلبه ميل داخلي نحو ما يدعوه إليه.

فآدم عليه السلام في تلك اللحظة استجاب للهوى الذي في نفسه قبل أن يُخدع بوسوسة الشيطان، فصار كأنه قد انضمّ إليه في الفعل، وسمع لنصيحته، فأكل من الشجرة المحرمة، فكان بذلك قد عصى أمر ربه وارتكب الذنب.


وهذا يُبيّن لنا أن الطبيعة البشرية قابلة للخطأ والانجراف نحو المخالفة، وأن الإنسان قد يزلّ إذا لم يضبط نفسه ويتّبع أمر خالقه.

لقد ارتكب آدم وزوجه الذنب في ما يتعلّق بالأكل، فبدت لهما سوآتهما، وعلما أنهما قد عصيا، ومن هنا نشأت فطرة الحياء والعِفّة في الإنسان، إذ صار للإنسان وعيٌ بستر عورته وحياء من فعله.


ومن هذه الحادثة نفهم أن للرغبات المادية – مثل الأكل والجنس – حدودًا شرعية، وأن تجاوزها هو معصية توجب التوبة.

فإذا خالف الإنسان أمر الله في شهواته المادية أو الجسدية، فعليه أن يبادر إلى الاستغفار والتوبة الصادقة.


لقد تاب آدم وزوجه عليهما السلام توبة خالصة صادقة، واعترفا بذنبهما وقالا كما ذكر الله تعالى في القرآن الكريم:


{قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين}


فغفر الله لهما وتاب عليهما، لكنه لم يُعدهما إلى الجنة، بل أنزلهما إلى الأرض ليعيشا فيها.

ولم يكن هذا طردًا عقابيًّا فقط، بل امتحانًا وتطهيرًا، فالحياة في الأرض مليئة بالتعب والجوع والعطش والمشقة، بخلاف النعيم الذي كانا فيه في الجنة.


فمن هذا الحدث العظيم نتعلم أن قبول التوبة لا يعني زوال أثر الذنب في الدنيا، بل قد تبقى تبعاته وآثاره، وأن التوبة وإن كانت تمحو الذنب في الآخرة، فإن الإنسان قد يبتلى في دنياه بمشقةٍ أو ألمٍ يكفّر ذنبه.


ولذلك ينبغي للمؤمن أن يسأل نفسه دائمًا:

هل يظن أن ارتكاب الذنب أمرٌ يسير، يكفي أن يقول “أستغفر الله” وينتهي الأمر؟

لو كان الأمر بهذه البساطة، فلماذا أُخرج آدم وزوجه من الجنة رغم قبول توبتهما؟


إن في هذا درسًا بالغًا:

لا ينبغي للمؤمن أن يتهاون بالمعصية، أو أن يعتمد على فكرة أنه سيتوب فيُغفر له فورًا دون أن يتحمل التبعات.

فالله تعالى يقبل التوبة، نعم، لكنه يجعل للعبد مرحلة من الإصلاح والمعاناة ليكفّر بها ما اقترف.

فكما قال العلماء: من تاب من الذنب فقد سقط عنه الإثم، لكن يبقى عليه أثر الذنبحتى يُطهَّر بالعمل والصبر والابتلاء.


وهكذا نرى أن قصة آدم عليه السلام وزوجه تعلمنا أن التوبة ليست مجرد كلمات، بل هي تحولٌ روحيٌّ وسلوكيٌّ عميق، وأنه بعد كل ذنب، لا بد من سعيٍ صادقٍ لتدارك التقصير وإصلاح النفس، لأن التوبة الحقيقية تقتضي إصلاح ما أفسده الذنب.


ثانيًا: قصة الثلاثة الذين تخلّفوا عن غزوة تبوك وتوبتهم


والآن نقرأ ما ورد في سورة التوبة عن ثلاثة من الصحابة الكرام الذين لم يخرجوا مع النبي محمد ﷺ في غزوة تبوك، ونلخّص القصة كما يلي:


حين دعا النبي ﷺ المسلمين للمشاركة في غزوة تبوك، كان الإعلان علنيًا ومفتوحًا للجميع، بخلاف بعض الغزوات الأخرى مثل فتح مكة التي كانت الدعوة إليها سرًّا.

فالدعوة في تبوك كانت واضحة: من كان مؤمنًا صادقًا فعليه أن يخرج للجهاد ولا يتخلّف، لأن التخلّف بغير عذر يُعد ذنبًا عظيمًا، يشبه في خطورته الفرار من الزحف.


ولما عاد النبي ﷺ من الغزوة، جاءه المنافقون فاختلقوا الأعذار الكاذبة لتبرير تخلفهم، فقبل النبي ﷺ ظاهر أعذارهم ووكل سرائرهم إلى الله.

أما الثلاثة الصادقون، فلم يكذبوا ولم يختلقوا الأعذار، بل اعترفوا بصدقٍ بتقصيرهم، وأقرّوا بخطئهم دون نفاق أو تبرير.

فأنزل الله في شأنهم آياتٍ تُتلى إلى يوم القيامة، مبينًا صدق توبتهم.


هؤلاء الثلاثة ــ كما ورد في كتب التفسير ــ هم كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية رضي الله عنهم.

لقد اعترفوا بأنهم استجابوا لرغبات أنفسهم حين فضلوا الراحة والظل والثمار الناضجة في المدينة، بينما كان المسلمون يستعدون للجهاد في الحرّ الشديد.

فقد كانت المدينة في تلك الأيام موسم حصاد الثمار، وكان الناس يجتمعون في بساتين النخيل يستظلون بالأشجار، ويقضون الوقت مع أهلهم في متاع الدنيا القصير، فآثر هؤلاء الثلاثة اللذة الزائلة على الأجر الدائم.


لكنهم سرعان ما ندموا على فعلهم، وأتوا إلى رسول الله ﷺ معترفين بذنبهم، فقالوا بصدق: يا رسول الله، لم يكن لنا عذر.

فلم يوبخهم النبي ﷺ، بل أمر المسلمين بمقاطعتهم حتى يقضي الله في أمرهم.

فعاش هؤلاء الثلاثة خمسين يومًا في عزلة قاسية، لا يكلمهم أحد من المسلمين، حتى زوجاتهم أمرهن النبي ﷺ باعتزالهم، إلا زوجة أحدهم – وكان شيخًا كبيرًا – أذن لها أن تبقى لخدمته فقط دون معاشرة.


وكانت تلك الأيام الخمسون أشد ما مرّ عليهم في حياتهم، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت صدورهم، وشعروا بالضيق الشديد والندم العميق، كما وصفهم الله تعالى بقوله:


{وعلى الثلاثة الذين خُلِّفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم} [التوبة: 118]


فبعد هذا الابتلاء الطويل، نزلت البشارة من الله بأن توبتهم قد قُبلت، وأمر النبي ﷺ أن يبشرهم بذلك، ففرحوا فرحًا شديدًا، وسجدوا شكرًا لله تعالى.


ومن هذه القصة الجليلة نتعلم أن التوبة الصادقة لا تأتي بلا ثمن، فالله تعالى قبل توبتهم، ولكنهم ذاقوا قبلها مرارة الندم والعزلة والألم النفسي خمسين يومًا كاملة.

وهذا دليل على أن الذنوب وإن غُفرت في الآخرة، فقد يكون لها أثر في الدنيا يُطهّر القلب ويزكّي النفس.



الربط بين قصة آدم عليه السلام وقصة الثلاثة الذين خُلِّفوا


إذا تأملنا القصتين معًا، نجد أنهما تشتركان في معنى واحد عظيم:

فآدم عليه السلام عصى في جانبٍ ماديٍّ حين خالف الأمر وأكل من الشجرة، فعوقب بحرمانه من الجنة ونزوله إلى الأرض ليعيش حياة الكدّ والتعب؛

أما هؤلاء الثلاثة، فقد أخطؤوا في الجانب الروحي حين آثروا راحة الدنيا على طاعة النبي ﷺ، فعوقبوا بعذاب نفسي شديد وضيق في الصدر والخاطر.


ومن هنا نستنتج أن كل معصية، مهما كانت صغيرة، لها أثرها في الدنيا قبل الآخرة.

فالله تعالى قد يقبل التوبة ويمحو الذنب من صحيفة الأعمال، فلا يكون هناك عقاب في الآخرة،

لكن في الدنيا يبقى أثر الذنب الذي يُطهّر به الله عباده، سواء أكان تعبًا جسديًا، أو ألمًا نفسيًا، أو ضيقًا روحيًا.


فمن قصة آدم عليه السلام نتعلم أن من خالف أمر الله في شهوةٍ مادية يعاقب بجهدٍ ومعاناةٍ في جسده ومعيشته،

ومن قصة الثلاثة الذين خُلِّفوا نتعلم أن من خالف أمر الله في شهوةٍ معنوية يعاقب بضيقٍ في النفس وشدةٍ في القلب.


وبهذا نعلم أن كل ذنبٍ له تبعة، وأن التوبة تمحو الإثم لكنها لا تلغي سنة الابتلاء والتطهير.

فليحذر المؤمن من أن يتهاون بالذنوب، صغيرها وكبيرها، وليعلم أن التوبة الحقيقية لا تعني الإفلات من الحساب فحسب، بل تعني التطهّر من الداخل بالصبر والألم والصدق مع الله.


ثالثًا: قصة بني إسرائيل الذين عبدوا العجل وتوبتهم


والآن نتعرف إلى قصة قوم بني إسرائيل الذين عبدوا العجل الذهبي، ثم تابوا إلى الله، فقبل سبحانه توبتهم.

وهؤلاء هم قوم نبي الله موسى عليه السلام، الذين خرجوا معه من مصر بعد أن أنقذهم الله من ظلم فرعون وطغيانه.


حين ذهب موسى عليه السلام إلى ميقات ربه أربعين ليلة ليكلمه ربّه، خلفه قومه في الأرض.

وفي غيبته قام رجل منهم يُدعى السامري، فجمع حُليّهم الذهبية وصنع منها عجلًا من ذهب.

ثم أخذ قبضةً من التراب من المكان الذي مرّ فيه فرس جبريل عليه السلام، فألقى التراب في جوف ذلك العجل المصنوع،

فأخذ العجل يُخرج صوتًا يشبه خوار البقر، فظن بعضهم أنه حيّ، فافتتنوا به، واتّبعوا السامري، وبدأوا يعبدون العجل من دون الله.


واختلف العلماء في طبيعة هذا الصوت الذي صدر من العجل،

فمنهم من قال: إن الله جعله فعلاً جسدًا له دم ولحم يصدر منه الصوت،

ومنهم من قال: إن الصوت نتج عن مرور الهواء داخل جوف العجل المجوّف، فظنوه حيًّا.

ومهما يكن الخلاف في التفاصيل، فالثابت أن بني إسرائيل وقعوا في الشرك بعد أن أنقذهم الله من فرعون، فكان ذلك جحودًا ونكرانًا للنعم.


لقد أنعم الله عليهم بالحرية بعد العبودية، وبالأمن بعد الخوف،

ومع ذلك سرعان ما نسوا فضل الله، وأشركوا به صنمًا من ذهب لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا،

فاستحقوا غضب الله ومقتَه، لأنهم بدل أن يكونوا من الشاكرين، صاروا من الكافرين بالنعمة.


وقد روى ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى في سورة البقرة، الآية (54):


{فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم}


قال ابن عباس: إن موسى عليه السلام بلّغ قومه أمر الله بأن يتوبوا توبة نصوحًا،

وأمر الذين لم يعبدوا العجل أن يقتلوا الذين عبدوه.

فجلس الذين عبدوا العجل، وقام الذين لم يعبدوه حاملين خناجرهم وسيوفهم القصيرة،

فأظلمت السماء حتى عمّ الظلام المكان،

ثم بدأوا يتقاتلون فيما بينهم تنفيذًا لأمر الله، فقتل من القوم سبعون ألفًا،

فلما انقشع الظلام، وجدوا من القتلى عددًا كبيرًا،

فأنزل الله رحمته، فغفر للمقتولين وللناجين معًا، وتاب عليهم جميعًا.


وهكذا كانت توبتهم توبة عظيمة صادقة، لأنهم أثبتوا صدق ندمهم بأفعالهم لا بأقوالهم فقط،

فقدّموا حياتهم فداءً لذنوبهم، فكانت توبتهم من أعظم صور الإخلاص والتضحية.


ومن هذا الدرس الجليل نتعلم أن من يشرك بالله بعد معرفته بالحق، ثم يندم ويرجع بصدق، فإن الله يقبل توبته مهما عظم ذنبه،

لكن لا بد أن تكون توبته مصحوبة بدليلٍ عمليٍّ على صدقها، كما فعل بنو إسرائيل حين أمرهم نبيّهم أن يقتل بعضهم بعضًا.


كما نتعلم أن السكوت عن المنكر جريمة في حد ذاته،

ففي تلك الحادثة كان هناك من لم يعبد العجل ولكنهم لم ينهوا غيرهم،

فكانوا شركاء في الذنب بسكوتهم، لأن الله تعالى أنقذهم من فرعون ليعبدوه وحده، لا ليغفلوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.


فقد كانوا أحياءً بفضل الله، ومع ذلك لم يشكروا نعمته، بل اتبعوا أهواءهم، فصاروا من الجاحدين.

ولما علموا خطأهم العظيم، أقرّوا به، وقبلوا أمر موسى عليه السلام الذي قال لهم:


“إن كنتم صادقين في توبتكم، فاقتلوا أنفسكم.”


أي اجعلوا من التضحية بالنفس برهانًا على صدق توبتكم.

فبلغت توبتهم من الشدة والصدق درجة عظيمة لا نظير لها، حتى نالوا بعدها مغفرة الله ورضوانه.

 

الدروس المستفادة من قصة عبدة العجل، والتنبيه من اتباع الهوى وترك الدين الحق


إن مما يجب أن نتعلمه من هذه القصة هو أن الابتلاء بالدين الحق لا يقتصر على الأمم السابقة، بل هو قائم في كل زمان.

فنحن اليوم نعيش في زمنٍ تنتشر فيه أديان ومذاهب متعددة، ويُفتن كثير من الناس باتباع ما يوافق أهواءهم ومصالحهم الدنيوية.


كم من إنسان يترك دينه الذي هداه الله إليه لأنه يرى أن دين دولة صناعية كبرى قد يجلب له المنفعة أو فرصة العمل، فيتبع دينهم أو عاداتهم طمعًا في الدنيا.

وكم من شخص يهاجر إلى بلد آخر، فيرى أن البيئة هناك أفضل أو الدين أكثر شيوعًا، فيترك ما عنده من شهادة التوحيد ويتبع ما عليه الناس، فيكون بذلك جاحدًا لنعم الله، معرضًا عن هديه.


وكذلك هناك من ورث الدين الحق عن آبائه، ولكن لم يحافظ عليه كما ينبغي،

فإذا أراد وظيفةً أو منصبًا، تنازل عن دينه ليرضي صاحب العمل،

أو امرأةٌ تريد الزواج من رجلٍ غير مسلم، فتتبع دينه إرضاءً له،

أو رجلٌ يتزوج من امرأة غير مسلمة، فيترك دينه ليرضيها،

فكل من فعل ذلك فقد خسر دينه ودنياه، وأصبح من الناكثين لعهد الله بعد أن عرفوه.


فهؤلاء على حالين:

منهم من يموت قبل أن يتوب، فلا تُقبل له توبة، ويُحشر على ما مات عليه،

ومنهم من يعود ويتوب في حياته، فله أن يعتبر من قصص التوبة في القرآن، وخاصة قصة بني إسرائيل الذين عبدوا العجل.

فهذه القصص إنما وردت لتكون عبرة لمن يعود إلى الحق بعد الضلال، ولتحذر الناس من الاستهانة بالردة أو التقصير في الدين.


نعم، إن الله سبحانه يمحو الذنوب كلها بالتوبة الصادقة، حتى الشرك إن تاب صاحبه توبة نصوحًا،

لكن السؤال: كيف تكون هذه التوبة مقبولة؟

وكيف يبلغ الإنسان درجة الطهارة الروحية التي تجعله أهلًا لمغفرة الله؟


إنها ليست مجرد كلمات تُقال باللسان، بل عملٌ صادق وامتحانٌ مؤلم، يحتاج إلى صدق النية وتحمل المشقة.

فمن رزقه الله الدين الحق عن طريق والديه أو بيئته، فعليه أن يحافظ عليه ويثبت عليه،

ولا يكون متقلّبًا يتبع كل ريح، ينتقل من دين إلى آخر بحسب المصلحة أو الهوى، فإن هذا نكرانٌ عظيم للنعمة.

قصة الصحابي الجليل أبو حذيفة رضي الله عنه وعِبرتها في التوبة


ننتقل الآن إلى قصةٍ أخرى تحمل معنىً عظيمًا في الصدق مع الله والتكفير عن الخطأ،

وهي قصة الصحابي الجليل أبي حذيفة بن عتبة رضي الله عنه، الذي قال كلمةً في غزوة بدر ندم عليها ندمًا شديدًا حتى استُشهد ليكفّر عنها.


ففي غزوة بدر، قال النبي محمد ﷺ للصحابة:

إنه يعلم أن بعض أفراد بني هاشم أُجبروا على الخروج مع المشركين، ولم يكن في قلوبهم نية قتال المسلمين،

ولهذا قال ﷺ:


“إذا لقيتم أحدًا من بني هاشم، فلا تقتلوهم، ولا تؤذوا العباس بن عبد المطلب، فإنه خرج مكرهًا.”


فلما سمع أبو حذيفة هذا الكلام، استثقل الأمر في نفسه وقال متضجرًا:


“أَنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا، ونترك العباس؟! والله لئن رأيته لأضربن وجهه بالسيف!”


وكان والده عتبة بن ربيعة من زعماء المشركين، وقد قُتل في تلك الغزوة،

فأثّر ذلك في نفسه، فتكلم بتلك الكلمة دون أن يدرك ما فيها من مخالفة للنبي ﷺ.


لكن بعد المعركة، أدرك خطأه العظيم، وقال نادمًا:


“ما زلت أشعر بالحزن في قلبي على تلك الكلمة، ولا أرى شيئًا يكفّرها إلا أن أُقتل في سبيل الله.”


فبقي يحمل هذا الهم في صدره، حتى جاء يوم معركة اليمامة، فقاتل فيها قتال الأبطال حتى استُشهد في سبيل الله،

فنال بذلك شرف الشهادة والتكفير عن زلّته، وغفر الله له خطأه.


لقد أدرك أبو حذيفة رضي الله عنه أن مخالفة أمر النبي ﷺ هي مخالفة لأمر الله،

وأن الخطأ في حق رسول الله ﷺ ليس هيّنًا، لأنه نابع من ضعف التسليم والطاعة.

فكانت توبته خالصةً صادقة، فقبلها الله، ورفع درجته، وجعل استشهاده كفارةً لذنبه.


ومن هذه القصة نتعلم أن الطاعة للنبي ﷺ جزء من الطاعة لله،

وأن على المؤمن ألا يستهين بأي خطأ في الدين، لأن الذنوب العظيمة لا يُمحى أثرها إلا بالتوبة الصادقة والعمل العظيم.


ولهذا يجب أن نحذر من الردة أو الاعتراض على أوامر الدين،

فإن المعصية قد تُغفر، أما الخروج عن الإيمان أو الاستهزاء بأحكام الله ورسوله، فهو خطر عظيم يجب تجنبه بكل وسيلة.


لقد قال هذا الصحابي الجليل – أبو حذيفة رضي الله عنه – تلك الكلمة في غزوة بدر، ثم تاب منها توبة نصوحًا،

وأيقن في قرارة نفسه أنه لن يكفّر عن ذنبه إلا أن يُقتل في سبيل الله،

أي أن يموت شهيدًا في سبيل الله تعالى، فكان استشهاده تكفيرًا لذنبه وبرهانًا على صدق توبته.


ومن هنا ينبغي لنا ألا نستهين بالأمر،

فحتى لو أن آباءنا أورثونا الدين الحق، فلا يجوز لنا أن نتركه أو نبدّله طمعًا في متاع الدنيا أو منفعة زائلة.

فمن ترك دينه الحق واتبع دينًا آخر إرضاءً للناس أو اتباعًا للهوى،

فقد باع آخرته بدنيا غيره، وخسر نفسه خسرانًا مبينًا.


حتى وإن تاب بعد ذلك ورجع إلى ربه، فقبول توبته لا يكون سهلًا،

لأن بلوغ درجة الصدق والإخلاص في التوبة يحتاج إلى جهدٍ روحي عظيم،

وهذا ما تعلّمناه من قصتي قوم موسى الذين عبدوا العجل وأبي حذيفة رضي الله عنه؛

فكلتاهما تبيّن أن التوبة الحقيقية ليست مجرد كلامٍ أو ندمٍ سطحي، بل تضحيةٌ صادقةٌ وعملٌ يثبت صدق العودة إلى الله.


فلنتأمل إذن:

لا ينبغي لأحدٍ أن يغترّ ويقول “سأتوب في النهاية، وسيمحو الله ذنوبي”،

فالتوبة الصادقة ليست أمرًا يسيرًا، بل تحتاج إلى إخلاصٍ عميقٍ وامتحانٍ في النفس،

ولا يُوفَّق إليها إلا من أراد الله له الخير.


وقد وردت قصة أبي حذيفة رضي الله عنه في سيرة نبينا محمد ﷺ ضمن أحداث غزوة بدر،

ونقلها ابن عباس رضي الله عنهما، وهي من أعظم الدروس في صدق التوبة والتكفير عن الخطأ بالعمل الصالح والجهاد في سبيل الله.


ونختم موضوعنا بحديثين شريفين عن النبي ﷺ:


الأول، رواه أبو هريرة رضي الله عنه في صحيح مسلم، أن رسول الله ﷺ قال:


«من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه».


أي إن باب التوبة مفتوح ما لم تظهر علامات الساعة الكبرى،

فإذا طلعت الشمس من مغربها، أغلق باب التوبة، ولن تُقبل توبة أحدٍ بعد ذلك.


أما الحديث الثاني، فقد رواه ابن عمر رضي الله عنهما في سنن الترمذي، قال رسول الله ﷺ:


«إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر».


أي ما لم تبلغ الروح الحلقوم،

فإذا بلغت النفس تلك اللحظة الأخيرة من خروجها من الجسد،

انقطع عمل العبد، ولم تُقبل توبته بعد ذلك.


وفي ختام هذا الحديث، نسأل الله تعالى أن يهدينا ويثبتنا على الحق،

وأن يحفظنا من الذنوب والمعاصي،

وإن ضعُفنا واتبعنا الهوى فارتكبنا خطأً، فنسأله سبحانه أن يتقبل توبتنا ويغفر زلّتنا،

وألا يُميتنا إلا وهو راضٍ عنا،

وألا يجعلنا من العصاة ولا من الجاحدين لنعمه.


اللهم يا غفور يا رحيم، اهدنا، واحفظنا، واغفر لنا، وتب علينا، وارزقنا توبة نصوحًا قبل الموت.

آمين يا رب العالمين.


هذا ما أردنا أن نشاركه معكم اليوم،

فإن كان فيه خطأ أو تقصير أو غموض في التعبير، فنسأل الله العفو والمغفرة،

ونرجو من الإخوة والأخوات المسامحة.

جزاكم الله خ

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رحلتي من الصين الى الاسلام

دروس سورة الفاتحه (1) الاستعاذة بالله – درع المؤمن ضد الوسوسة والانحراف

دروس سورة الفاتحه (4) "رَبِّ الْعَالَمِينَ" — سر العوالم وشهادة الخلق بوحدانية الله