(29) سورة البقرة - لماذا لا تُرى ذاتُ الله في الدنيا؟ وما حكمة المنع وبِشارة النظر في الآخرة
المقدّمة :
الحمد لله القدّوس السلام، الواحد الأحد، والصلاة والسلام على سيّدنا
محمدٍ خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
يتناول هذا الدرس سؤالًا عقديًّا عظيمًا: لماذا لا يمكن رؤية
الله في الدنيا، مع أن النفوس تتشوّف إلى القرب منه سبحانه؟ ننطلق من الآيتين
المحوريتين: طلبُ موسى عليه السلام الرؤية فقيل له: ﴿لَن تَرَانِي﴾، وتجلي الربِّ
للجبل فصار دكًّا؛ وطلبُ بني إسرائيل الرؤية جهرًا فأخذتهم الصاعقة ثم بعثهم الله
لعلّهم يشكرون. هاتان الحادثتان تكشفان عجز البنية الدنيويّة المحدودة عن احتمال
أنوار الجلال الإلهي، وأن الرؤية كرامةٌ مؤجَّلةٌ لدار البقاء لمن زكّى نفسه وثبَت
على التوحيد: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾.
سنبيّن الحكمة: أن الإنسان مُؤتَمنٌ على روحٍ مقدَّسةٍ ونفسٍ مبتلاة؛ فإذا
هُذِّبت النفس بميزان الوحي، والتزم العبدُ الحلالَ واجتنب الحرام، وأخلص العبادةَ
لله وحده، رُفع يوم القيامة إلى مقام القرب والنظر. وسنقف مع علاقة الرُّوح
والنَّفْس بالتزكية، وكيف تكون الشهادتان والعمل الصالح طريقَ الكرامة العظمى.
الهدف أن يخرج القارئ بفهمٍ راسخٍ: المنعُ في الدنيا رحمةٌ وتربية، والوعدُ في الآخرة تمامُ النعمة. نسأل الله لذّة النظر
إلى وجهه الكريم.
أيها الإخوة والأخوات
، نحمد الله سبحانه وتعالى، ونصلي ونسلّم على خاتم أنبيائه محمد ﷺ، ونسأل الله أن
يرضى عن جميع صحابته الكرام.
موضوعنا اليوم هو: لماذا لا يمكن رؤية الله في الدنيا؟
في القرآن الكريم ورد
أن النبي موسى عليه السلام وقومه من بني إسرائيل طلبوا رؤية الله في هذه الحياة
الدنيا، وسنحاول من خلال هذه الآيات فهم الحكمة في ذلك، ولماذا لا تتحقق هذه
الرؤية إلا في الآخرة لمن أكرمهم الله بالجنة.
نقرأ أولًا ما جاء في
قوله تعالى في سورة الأعراف
(143):
﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى
لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ
لَن تَرَانِي وَلَـٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ
فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا
وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ۚ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ
وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
في هذه الآية نرى أن
موسى عليه السلام طلب من ربه أن يراه رؤية بصرية في الدنيا، لكن الله تعالى بيّن
له أن البشر لا يطيقون رؤية ذاته العلية في هذه الحياة، لأن قواهم المادية
محدودة، ولذا قال له: "لن تراني"، ثم أراه مثالًا على ذلك حين تجلّى
الله للجبل فصار دكًّا، فغشي على موسى عليه السلام من هول المشهد، ثم أفاق تائبًا
خاشعًا مؤمنًا.
وفي سورة البقرة
(55–56)، قال تعالى:
﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ
لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ
وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ﴾.
وهنا يذكر الله أن بني
إسرائيل طلبوا أيضًا رؤية الله علنًا في الدنيا، فجاءهم العقاب على جرأتهم، إذ
أُخذتهم الصاعقة فماتوا، ثم أحياهم الله من بعد موتهم رحمةً بهم لعلهم يشكرون.
وهاتان الآيتان
توضحان أن رؤية الله في الدنيا مستحيلة، لأن طبيعة الإنسان المادية لا
تتحمل نور الله وجلاله، أما في الآخرة، فإن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ونالوا
رضوان الله ودخلوا الجنة، سيرون ربهم رؤية كرامةٍ ونعيمٍ كما قال تعالى:
﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: 22-23].
فهذه هي الحكمة
الإلهية: أن رؤية الله لا تكون إلا في دار البقاء، حيث تُطهّر الأرواح وتتهيأ
الأنفس لهذا النور العظيم الذي لا يُطاق في عالم الفناء.
أيها الإخوة
والأخوات، لنتعرّف أولًا على نبيّ الله موسى عليه السلام، فهو نبيٌّ ورسول، وورود
قصته في القرآن الكريم دليل على أنها تحمل لنا الهداية والعِبَر.
لقد خصّه الله
بمنزلةٍ عظيمةٍ، إذ منحه نعمة الكلام المباشر مع ربّه كما قال تعالى:
﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى
تَكْلِيمًا﴾ [النساء: 164].
ومع ذلك، رغم أنه سمع
كلام الله تعالى، فإنه لم يستطع رؤية ربّه في الدنيا، فلما طلب الرؤية
وأفاق بعد أن صُعق قال:
“سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ.”
وهذا يُبيّن أن طلبه
لرؤية الله كان ناتجًا عن محبةٍ وشوقٍ، لكنه لم يكن إدراكًا لكمال معرفة الله، لأن
رؤية الله في الدنيا مستحيلة، إذ لا تطيقها طبيعة البشر.
ولكي نفهم هذا، نعود
إلى أصل الإنسان:
فالله تعالى خلق آدم
عليه السلام من طين، ثم نفخ فيه من روحه، فقال تعالى:
﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ
فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [الحجر: 29].
فكانت الروح
أعظم نعمةٍ أودعها الله في الإنسان، وبها أصبح مكرَّمًا، له قابلية
المعرفة والإدراك، وأصبح قادرًا على إدراك بعض صفات ربّه وكماله.
ولذلك علّم الله آدم
الأسماء كلّها، وشرّفه بالتكريم واللغة والعقل.
لكن حين نُفخت الروح
في الإنسان، أُضيف إليها النَّفْس (الحياة)، وهذه النفس هي موضع الاختبار،
وبها يعبد الإنسان ربّه ويُبتلى بالخير والشرّ.
فعندما خلق الله آدم
ونفخ فيه الروح، عطس فقال: “الحمد لله”، فكانت أول كلمةٍ ينطق بها تسبيحًا وحمدًا
لربّه. ثم رغِب في الخلود والبقاء، فوسوس إليه الشيطان قائلًا إن الأكل من الشجرة
سيجعله خالدًا كالملائكة، فزلّ بذلك لأنه لم يُدرك بعدُ أن الحياة الدنيا دار
اختبارٍ لا خلودٍ، وأن البقاء الحقيقي إنما هو في القرب من الله بالعبادة
والطاعة.
لكنه تاب سريعًا لأن
روحه كانت تحمل صفة القداسة والمعرفة بأن الله هو المعبود وحده لا شريك له، فتاب
فتاب الله عليه.
ومنذ ذلك الحين، صار
الإنسان في الأرض مأمورًا بأن يسعى بالعمل الصالح ليقترب من الله، ويجعل من حياته
وسيلةً لعبادته وطلب مرضاته.
أما موسى عليه
السلام، فلما صُعق ثم أفاق، كان في حالٍ من الإدراك العميق لجلال الله، فقال:
“سبحانك تُبتُ إليك”، فغفر الله له وزاده تكريمًا، كما جاء في قوله تعالى في سورة
الأعراف:
﴿قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنِّي
اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ
وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ * وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ
مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ
يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا﴾ [الأعراف: 144-145].
فهذا الاصطفاء
والحديث الإلهي دليل على أن موسى عليه السلام كان من أعظم الأنبياء مكانة، لكن مع
ذلك لم يُؤذن له برؤية الله في الدنيا، لأن الروح البشرية في الجسد المادي لا
تحتمل أنوار الجلال الإلهي.
أما في الآخرة، فإن
الأرواح وقد تطهّرت من ثِقل الجسد، سيكرمها الله بالنظر إلى وجهه الكريم في الجنة،
كما قال تعالى:
﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: 22-23].
فالحكمة أن رؤية
الله هي أعظم درجات النعيم، ولا تُنال إلا بعد التزكية والطهر الكامل في دار
الخلود.
أيها الإخوة
والأخوات، من خلال قصة هذين النبيَّيْن الكريمَيْن — آدم وموسى عليهما السلام —
نتعلّم أن الإنسان لَمّا خَلَقه الله ووهبه الرّوح (الرُّوح)، حمل في كيانه
سِمَةً من القداسة والطُّهر، إذ إنّ هذه الرّوح من نَفْخِ ربّ العالمين، ولذلك
كانت فطرةُ الإنسان تعرف أنّ ربّ العالمين حقٌّ، وأنّه وحده المستحقّ للعبادة
ولا شريك له.
لكنّ هذا لا يكفي وحده؛
فحين اجتمعت الروح بالجسد، صار للإنسان نَفْس وهذه النفس هي التي
تتأثّر بالميل والشهوة والرغبات. فهي التي تحرّك الجسد، وتوجّه السلوك إمّا إلى
الخير أو إلى الشرّ، ولذلك قال الله تعالى:
﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ
بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي﴾ [يوسف: 53].
فالنَّفْسُ بطبيعتها
تميل إلى الشهوات الدنيوية — من طعامٍ وشرابٍ وشهوةٍ ومُلكٍ ومجدٍ — فإذا تُركت
بلا توجيهٍ إلهيٍّ، فإنها تُغري صاحبها بارتكاب الفواحش والظلم، وتسعى وراء اللذّة
الزائلة والسمعة والمكانة، حتى تفسد الروح التي أكرمها الله بالقداسة.
لذلك اقتضت رحمة الله
العظيمة أن يُرسل الرسل ويُنزل الكتب، ليعلّموا الإنسان كيف يضبط هذه
النَّفْس ويهذّبها بمعايير الخير والشرّ. فالله هو الذي يملك ميزان الحلال
والحرام، وبهذا الميزان يوجّه الإنسان في سلوكه الماديّ والروحيّ:
- ففي جانب المادة، علّمه الله أن يشبع حاجاته — كالأكل والنكاح — في
حدود ما هو حلال، ويجتنب ما هو حرام.
- وفي جانب الروح، وجّهه إلى الإخلاص والنية الصالحة، والابتعاد عن
الكِبر والرياء وحبّ الجاه.
فالنبيّ والرسالة هما
النور الذي يُهذّب النفس ويعيدها إلى صفاء الروح، لتصبح الروح والنفس معًا في طاعة
الله، ويُصبح الإنسان عبدًا صالحًا يحمل في كيانه معنى قوله تعالى:
﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ
الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً﴾ [الفجر:
27-28].
فبهذا التهذيب يصبح
الإنسان مؤمنًا صادقًا، لا يتبع شهواته، بل يتبع هدى ربّه الذي هو أرحم الراحمين.
أيها الإخوة
والأخوات، بعد أن أفاق نبيّ الله موسى عليه السلام من غشيته، اختاره الله وشرّفه
بأن أنزل عليه الألواح، التي كتب الله فيها الهدى والنور، وقال له كما ورد
في قوله تعالى:
﴿يَا مُوسَىٰ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ
عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ
الشَّاكِرِينَ * وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً
وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا
بِأَحْسَنِهَا﴾ [الأعراف: 144-145].
وفي هذه الألواح جاءت
الشرائع الجميلة التي تضمّنت أوامر الله ونواهيه، ومعايير الحلال
والحرام التي تنظم حياة الإنسان في الجسد والروح معًا.
فالأنبياء والرسل
جميعًا أُرسلوا برسالاتٍ من عند الله، لأن الله جلّ جلاله كلّمهم وعلّمهم ما هو الحقّ
وما هو الباطل، حتى يبلّغوا الناس الطريق الذي يوصل إلى الحقّ الأبديّ،
والجنة، ولقاء الله، لا إلى التعلّق بزينة الدنيا وزوال مُلكها.
ومن هنا نفهم أن
الإنسان بما أودع الله فيه من نفسٍ وروحٍ يحتاج إلى توازنٍ بين حاجاته
المادية والروحية:
- فـ الشهية للطعام ضرورية لبقاء الجسد، ولكن يجب أن تُضبط
بحدود الحلال، لأن من عاش على الحرام فقد أفسد نفسه.
- والغريزة الجنسية ليست للهوى، بل لحفظ النسل واستمرار العمران
في الأرض، لتبقى حياة الإنسان وسلالته في طاعة الله وسعيه إلى الخير.
- أما النزوع الروحيّ فينبغي أن يكون أسمى من متاع الدنيا، فهو
الذي يوجّه النفس إلى السعي وراء الحقّ، وإعلاء كلمة الله، وطلب النعيم
الأبديّ في الجنة.
فحين يضبط الإنسان
هذه الجوانب الثلاثة — المادة، والغريزة، والروح — وفق شريعة الله، يكون قد هذّب
نفسه وارتقى إلى مقام النفس المطمئنة.
وهذه النفس حين تزكّى
وتطهر من اتباع الهوى، تصبح قادرة على الشهادة بالحقّ في الدنيا والآخرة:
1. الشهادة الأولى: أن لا إله إلا الله، أي أن كل المخلوقات لا تُعبد، وإنما العبادة لله وحده
خالق الكون وربّ العالمين.
2. الشهادة الثانية: أن محمدًا ﷺ عبد الله ورسوله، أي الإيمان بأن الله أرسل رسله بالحقّ
ليكونوا هداةً للبشر، وأن طاعتهم طاعةٌ لله.
فمن عاش في الدنيا
على هاتين الشهادتين — إيمانًا وعملاً — كان في قبره ثابتًا حين يُسأل، وفي الآخرة
من الشاهدين الصادقين.
وهكذا، تكون حياة
الإنسان ذات قيمةٍ ومعنى حين يسخّر عمره في طاعة الله، يجاهد شهواته، ويسير
على نهج الأنبياء، ويعمل بالحلال، ويجعل من لسانه وقلبه وجوارحه وسيلةً لنصرة
الحقّ، فيكون بذلك ممن قال الله فيهم:
﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾
[إبراهيم: 27].
أيها الإخوة والأخوات،
عندما يكمِّل الإنسان
سعيه في طاعة الله، فيؤدّي العبادات بإخلاصٍ ويعمل الصالحات، وتَصدُر من نفسه
الشهادتان شهادةَ التوحيد والرسالة، يصبح هذا الإنسان آيةً من آيات الله في
الخلق، لأن وجوده ذاته يشهد على قدرة الله وربوبيّته ووحدانيّته.
فالكون كلّه إلى
زوال، وكلّ ما فيه فانٍ، كما قال تعالى:
﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ *
وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ [الرحمن: 26-27].
إلا أن الله سبحانه
وحده هو الحيّ القيّوم، الباقي الذي لا يموت ولا يزول، وكلّ ما عداه قائمٌ
به، محتاجٌ إليه.
ومن هنا، يُدرك
الإنسان أن النفس التي أحياها الله ووهبها الروح ليست غايةً في ذاتها، بل هي وسيلةٌ
للشهادة على ربّها، فحين تموت ثم تُبعث، تُصبح شاهدًا على أن الله هو الذي
يُميت ويُحيي، وأنه وحده الذي لا يفنى ولا يزول.
فالموت ثم البعث في
الحقيقة شهادتان عظيمتان تؤدّيهما كل نفسٍ مؤمنةٍ:
- الأولى: أن الله هو الذي أماتها،
- والثانية: أنه هو الذي أحياها بعد موتها.
وهكذا يُثبت الإنسان بوجوده أن الله هو الحيّ الذي لا يموت، القائم بذاته، المُحيي لكل شيء.
وهذا أيضًا يُفسّر لماذا
لا يمكن رؤية الله في الدنيا؛ لأن جميع المخلوقات، بما فيها الإنسان، آياتٌ
لله لا ذواتٌ قائمة بنفسها، فهي لا تملك البقاء ولا الكمال، بينما الله وحده
هو الكامل الباقي الذي لا تدركه الأبصار في هذه النشأة المحدودة.
وحين يُبعث الإنسان
في الآخرة، ويُعطى من الله حياةً لا موت بعدها، يكون قد أُعطي صفةً من صفات الخلود — البقاء الأبديّ — وهي الصفة التي تؤهّله لأن يرى ربَّه، لأن من لا خلود له لا يطيق النظر
إلى الحيّ الأبديّ.
ثم إن النفس
الإنسانية، بما فيها من نَفْسٍ وروحٍ، حين تزكّى وتتطهّر وتقبل توجيه الله،
تصل إلى مقام النفس المطمئنّة، فتُعطى في الجنة كل ما تشتهي، كما قال تعالى:
﴿فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ
الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ﴾ [الزخرف: 71].
في الجنة، لا تعبَ
ولا نَصَب، ولا شهوةَ تنقضي، بل رضوانٌ دائمٌ وسرورٌ لا ينقطع. فالحياة فيها لا تتغيّر، والنفوس فيها لا تُكلَّف، والنعيم لا يفتر، لأن
الله يُكرم أولياءه فيجعلهم يعيشون في فيضٍ من صفاته الجليلة: الرحمة، والجمال، والكرم، والحرية من القيود، والخلود في النعيم.
وفي تلك اللحظة، حين
تستقرّ النفس في مقام الطمأنينة والقداسة، ويكتمل صفاؤها، تُصبح هي نفسها مرآةً
تعكس أنوار صفات الله، فيراها المؤمن الحقّ فيتجلّى له وجه ربّه الكريم، كما
قال تعالى:
﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ
* إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: 22-23].
فمن لم يُزكِّ نفسه
في الدنيا، ولم يطهّرها من الشهوات والهوى، لا يقدر على رؤية الله في الآخرة، لأن النفس
التي لم تتخلّق بأخلاق الطهارة والقداسة لا تطيق مشاهدة القدّوس.
إذن، رؤية الله ليست
مجرّد مكافأةٍ، بل هي نتيجةٌ لطهارة الروح وكمال الإيمان والعمل الصالح،
ومن أجل ذلك أرسل الله الرسل والأنبياء ليُعلّموا الناس كيف يزكّون أنفسهم ويهتدون
بنور الوحي.
نسأل الله سبحانه أن
يطهّر نفوسنا، ويزكّي أرواحنا، ويجعلنا من الذين يُؤمنون به حقّ الإيمان، ويعملون
الصالحات، فيُكرمهم بالنظر إلى وجهه الكريم في دار الخلود، إنه أرحم الراحمين.
أيها الإخوة
والأخوات،
لقد ذكر الله سبحانه
في كتابه الكريم خبر بني إسرائيل حين طلبوا من نبيّهم موسى عليه السلام أن
يروا الله جهرةً، كما قال تعالى في سورة البقرة:
﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى
لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ
وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة: 55-56].
فهؤلاء القوم لم
يُستجاب لطلبهم، بل أرسل الله عليهم الصاعقة فأماتهم، ثم بعثهم بعد موتهم
ليتّعظوا ويشكروا ربّهم على رحمته.
وقد اختار موسى عليه
السلام من قومه سبعين رجلاً من الصالحين ليحضروا الميقات، وهؤلاء وإن لم
يشاركوا في عبادة العجل، فإنهم لم ينهوا قومهم عنها، ولم يقوموا بواجب الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا نبيّ الله هارون عليه السلام الذي نصحهم فلم
يُطعوه. ولهذا أراد الله أن يُعلّمهم درسًا عظيمًا: أن من لم ينهَ عن الباطل فقد قصّر
في حقّ الحقّ، وأن من يسكت عن الشرك خوفًا أو تردّدًا لا يبلغ مرتبة أولياء الله
المخلصين.
لذلك، أرسل الله
عليهم الصاعقة عقوبةً وتأديبًا، لأنهم لم يُجسّدوا في حياتهم معنى التضحية
في سبيل الحقّ، ولم يُظهروا الشجاعة في مقاومة الباطل. غير أن الله — بلطفه — لم
يتركهم في الموت، بل أحياهم بعد موتهم، ليكون إحياؤهم آيةً ظاهرةً على
قدرته المطلقة في الإحياء بعد الإماتة، وليشهدوا بأن الله وحده هو الذي يُحيي
ويميت.
قال تعالى:
﴿اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا
هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ [غافر: 68].
فكان بعثهم بعد موتهم
دليلاً على أن النفس البشرية خُلقت لتكون شاهدةً على ربّها، تشهد بقدرة
الله على الإماتة والإحياء، وتُدرك أن الحياة الحقيقية إنما تكون في طاعته وشكره.
ومن هنا نفهم أن شكر
الله ليس مجرد قولٍ باللسان، بل هو أن يستخدم الإنسان عمره في نصرة الحقّ،
وأن يُسخّر حياته لنشر الهداية، كما قال تعالى:
﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ
رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ﴾
[الأحزاب: 39].
فهؤلاء السبعون الذين
بُعثوا بعد موتهم كان الواجب عليهم أن يكونوا أنصارًا لموسى عليه السلام،
يُعينونه في تبليغ الدعوة، ويقفون إلى جانبه في رفع كلمة الله، بعد أن رأوا
بعيونهم آية الموت والبعث.
ثم يذكر الله لنا قصة
نبيٍّ آخر من بني إسرائيل، وهو عُزيرٌ عليه السلام — الذي رحم الله به قومه — حين مرّ على قريةٍ خاويةٍ فقال متعجّبًا:
﴿أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ
اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾،
فأماته الله مائة عام
ثم بعثه، ليُريه كيف يُحيي الموتى، كما قال تعالى في سورة البقرة:
﴿فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ
عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ﴾ [البقرة: 259].
فلما رأى بعينه كيف
يُعيد الله العظام وهي رميم، ازداد إيمانًا ويقينًا بقدرة الله. غير أن بعض
بني إسرائيل انحرفوا بعده، فغلوا فيه وقالوا: هو ابن الله! وهذا الانحراف
جاء من فساد النفس، لأنهم لم يُزكّوا أنفسهم ولم يهذّبوا أهواءهم، فغلبهم
حبّ التقديس البشريّ حتى جعلوا النبيّ إلهًا، والعياذ بالله.
وهكذا نرى أن سبب
ضلال كثيرٍ من بني إسرائيل هو اتباع الهوى والشهوات (الشهوات)، وعدم تزكية
النفس (النَّفْس). فالنفس إذا لم تُهذَّب بالوحي، تبقى أسيرة الخوف والطمع، تتعلّق
بالدنيا وتشكّ في الآخرة، كما قال تعالى:
﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ
إِلَٰهَهُ هَوَاهُ﴾ [الجاثية: 23].
أما الذين زكّوا
أنفسهم وطهّروا قلوبهم من الشهوات، فقد ثبتوا على الإيمان، مثل عبد الله بن
سلام رضي الله عنه، الذي كان من علماء اليهود، فلما جاءه النبي ﷺ بالحقّ عرفه
من صفته في التوراة، فآمن سريعًا وشهد أن محمّدًا ﷺ هو رسول الله حقًّا، فصار من
المقرّبين إلى الله.
وهكذا يتبيّن لنا أن الهداية
مشروطة بتزكية النفس، وأن من غلبه هواه لا يمكن أن يرى الحقّ ولو عاينه بعينه،
لأن النور لا يدخل قلبًا مريضًا بالشهوة والأنانية، أما من صفّى نفسه وسمت روحه،
فقد جعل الله في قلبه نورًا يرى به الحقّ حقًّا، فيؤمن ويعمل ويُصبح من الشاكرين
الصادقين.
أيها الإخوة
والأخوات،
إن ربّنا سبحانه
وتعالى هو الإله الواحد الأحد، القدّوس المنزّه عن الشبيه والنظير، وهو
وحده المستحقّ للعبادة دون سواه. له الأسماء الحسنى والصفات العُلى، وهو الخير
المطلق والرحمة المطلقة، لا يدرك كُنهَه خلق، ولا يُحيط بعظمته عقل.
فمن أراد أن يرى ربّه
في الآخرة، فلا بدّ أن تتحقّق فيه الصفات التي تُقرّبه من صفات الكمال التي
يحبّها الله — وإن كانت على وجهٍ بشريٍّ ناقصٍ بالنسبة إلى كمال الله المطلق.
فالإنسان لا يستطيع
أن ينال رؤية الله إلا إذا:
- زكّى نفسه حتى تبلغ مقام النفس المطمئنّة،
التي لا تتبع الهوى ولا الشهوات.
- وعمِل الصالحات، حتى يُعطى في الآخرة حياةً أبديةً خاليةً من العذاب.
- وطهّر روحه حتى تتخلّق بالقداسة، أي بالإخلاص الكامل
في عبادة الله دون إشراكٍ أو رياء.
فمن اكتملت فيه هذه
الصفات، صار في الآخرة آيةً من آيات الله، يُشاهد آثار أسمائه الحسنى عليه
— حياةً بعد موت، وخلودًا بعد فناء، وسلامًا بعد خوف.
وفي الدنيا، نعبد
الله من وراء الغيب، نراه بعقولنا وآثار صنعه في خلقه، ونعرفه بصفاته التي
تجلّت في الكون وفي أنفسنا.
أما في الآخرة، فالله
تعالى يُكرم عباده الصادقين في الإيمان، فيجعلهم يشهدون الحقّ الذي آمنوا به في
الغيب، فيرون ربّهم كما قال تعالى:
﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ
* إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: 22-23].
وهذه الرؤية لا
ينالها إلا من شهد لله بالوحدانية حقّ الشهادة، وعاش حياته تعظيمًا لأسمائه
وصفاته، فكان توحيده صادقًا، وإخلاصه خالصًا.
أما من لم يشهد لله
بالوحدانية، أو لم يعبد الله عبادةً خالصة، أو لم يُزكّ نفسه حتى تبلغ الطمأنينة،
فهؤلاء لا يرون الله في الآخرة، لأنهم لم يطهّروا نفوسهم من أدران الدنيا،
ولم يتخلّقوا بما يُناسب عظمة القدّوس جلّ جلاله.
وهكذا نفهم السرّ
العظيم في أن رؤية الله لا تكون في الدنيا؛ لأن الدنيا دارُ الفناء والنقص،
والله هو الكامل الباقي الذي لا يُرى إلا لمن صار في دار البقاء، وقد تطهّر من كلّ
نقصٍ وقيْدٍ بشريّ.
فالرؤية في الآخرة هي
مقامُ القرب والاصطفاء، ينالها من صار قلبه مرآةً لصفات الله الحسنى، ومن
كان في الدنيا عبدًا خاشعًا صادقًا في عبادته، موقنًا أن الله هو الحقّ المبين، لا
شريك له ولا مثيل له.
نسأل الله سبحانه أن
يطهّر قلوبنا من الشرك والهوى، وأن يجعل نفوسنا مطمئنّةً بذكره، وأن يرزقنا في دار
الخلود لذّة النظر إلى وجهه الكريم، إنه هو البرّ الرحيم.
تعليقات
إرسال تعليق