(28)سورة البقرة – عاقبة من يأمر بالخير ولا يعمل به – بين القول والعمل في ضوء القرآن والسنة"
المقدمة :
يتناول هذا الدرس التحذير الشديد الذي ورد في القرآن الكريم والسنة
النبوية من التناقض بين القول والعمل، وهو خُلُقٌ يجرّ على صاحبه مقتَ الله وعذابه.
يبدأ الدرس ببيان توبيخ الله تعالى لأهل الكتاب في قوله:
﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ﴾
[البقرة: 44]،
وفيه ذمّ لمن يدعو إلى الخير ولا يلتزم به. ثم يُضرب المثل بالنبي شعيب
عليه السلام الذي قال لقومه:
﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ﴾
[هود: 88]،
ليؤكد أن الداعية الصادق هو الذي يبدأ بنفسه قبل غيره.
كما يوضح قوله تعالى:
﴿كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا
تَفْعَلُونَ﴾ [الصفّ: 3]،
أن القول بلا عمل من أعظم ما يُبغضه الله، وأن النفاق يبدأ من وعدٍ لا
يُوفَى وكلمةٍ بلا فعل.
ويروي الحديث الشريف في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال:
“يُؤتَى بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها
كما يدور الحمار بالرحى…”
وذلك عقابٌ لمن كان يأمر بالمعروف ولا يأتيه، وينهى عن المنكر ويقع فيه.
كما يورد التشبيه القرآني في سورة الجمعة:
﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا
كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾،
للدلالة على أن العلم بلا عمل كالحِمل بلا نفع، وأن من يقرأ ولا يطبق كمن
يحمل كتبًا لا يدري ما فيها.
أيها الإخوة والأخوات
الكرام، نحمد الله سبحانه وتعالى، ونصلي ونسلّم على نبينا محمدٍ ﷺ، وعلى آله وصحبه
أجمعين.
موضوعنا اليوم هو عاقبة
من يأمر الناس بالخير ولا يفعله.
لقد وردت في القرآن
الكريم ثلاث آياتٍ تتحدث عن هذا المعنى العظيم.
في سورة البقرة
الآية (44)، يقول الله تعالى موجّهًا
الخطاب لأهل الكتاب:
﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ
بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ﴾،
أي يوبّخهم الله
لأنهم يأمرون الناس بالخير، ولكنهم ينسون أنفسهم، فلا يعملون بما يأمرون به.
وفي سورة هود،
ورد قول النبي شعيب عليه السلام لقومه:
﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ
أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ۚ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ
مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ
وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾.
أي أنه عليه السلام
لا ينهى قومه عن المعاصي ثم يقع فيها، بل هو أول الملتزمين بما يأمرهم به.
ومن هاتين الآيتين
نتعلّم أن من أوتي الكتاب وأُرسل إليهم الأنبياء قد بلّغهم المرسلون الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان الأنبياء أنفسهم أول من يطبّق ما يدعون إليه، فهم
الصادقون المصلحون الذين يجمعون بين القول والعمل.
أما الذين جاؤوا
بعدهم من الأمم، فأصبح بعضهم يأمر بالخير ولا يفعله، وينهى عن الشر ثم يقع فيه،
وهؤلاء خالفوا طريق الأنبياء.
فمن أراد أن يأمر
بالمعروف وينهى عن المنكر وجب أن يكون على حقيقتين:
أولًا: أن يكون من
العاملين بالخير، البعيدين عن المعاصي، وإلا كان منافقًا في قوله؛
وثانيًا: أن يكون
أمره ونهيه وفق ميزان الله وشرعه، مستندًا إلى معايير القرآن لا إلى هواه أو رأيه.
فكل الأنبياء كانوا
من الصادقين العاملين، ينهون عن الشر وهم أول من يجتنبه، ويأمرون بالخير وهم أول
من يسارع إليه، فبهذا كمل صدقهم وإخلاصهم.
وفي سورة الصفّ
الآية (3)، يقول الله تعالى:
﴿كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ
أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾،
وهي آيةٌ شديدة في
ذمّ من يقول ولا يعمل، أو يعد ولا يفي.
فمن يتكلم بالخير ثم
لا يطبقه، فقد قال قولًا بلا عمل، وكلامه يصبح لغوًا لا قيمة له، ومن اعتاد ذلك
صار من أهل النفاق، لأن النفاق يبدأ بقولٍ بلا فعل، ثم بتكرار الكذب، حتى يفقد
صاحبه الصدق والأمانة.
ولذلك بيّن النبي ﷺ
خطر هذا الخلق ولو في أبسط الأمور.
روى أبو داود عن
عبد الله بن عامر رضي الله عنه قال:
“جاء رسول الله ﷺ إلى
بيتنا وأنا صبيّ، فذهبت أخرج لألعب، فقالت أمي: يا عبد الله، تعالَ أُعطِكَ شيئًا،
فقال رسول الله ﷺ: ما أردتِ أن تُعطيه؟ قالت: تمرة، فقال ﷺ: أما إنك لو لم تُعطه
شيئًا كُتبت عليك كذبة.”
فانظروا كيف نبّه
النبي ﷺ على وجوب الصدق حتى في وعدٍ بسيطٍ لطفلٍ صغير، لأن القول بلا وفاءٍ كذب،
والكذب خطيئةٌ تسجّلها الملائكة.
إذن، من يأمر الناس
بالخير ولا يفعله، أو يعد ولا يفي، يقع في صفات المنافقين، لأن المنافق — كما أخبر
النبي ﷺ — “إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان.”
فلنحذر من أن تكون
أقوالنا بلا أفعال، ولنجعل أمرنا بالمعروف ونهيَنا عن المنكر نابعًا من قلوبٍ
صادقةٍ وأعمالٍ صالحةٍ، حتى نكون من المخلصين الذين يرضى الله عنهم ويجعل قولهم
وعملهم نورًا في الدنيا والآخرة.
أيها الإخوة
والأخوات، إن من أعظم البلاء أن يأمر المرء الناس بالخير وهو لا يعمل به، لأن فعله
هذا لا يُنتج هدايةً، بل يُورث شكًّا في القلوب.
فلو أن أحدًا من أهل
الكتاب استخدم كتاب الله الذي أنزله عليهم ليأمر الناس بالمعروف وينهاهم عن
المنكر، بينما هو نفسه لا يعمل بما فيه، فسيقول الناس: “إنه يدّعي أنه يحمل الحق،
ولكن أفعاله تكذّب قوله، فهل ما يقوله حقٌّ أم باطل؟ أليس هذا كذبًا؟”
فكلامه يصبح كالوعد
الفارغ الذي لا يُنفّذ، فيفقد أثره في النفوس، بل يُحدث نتيجة عكسية.
فالسامع يرى تناقضًا
بين القول والعمل، فيبدأ يشكّ في صدق المتكلّم، ثم يتعدى الشك إلى صدق الحقّ نفسه،
فيتساءل: “إن كان هذا الكتاب حقًّا، وفيه وعدٌ بالثواب ووعيدٌ بالعقاب، فلماذا لا
يعمل به من يقرأه ويعلمه؟ أليس هذا دليلًا على أنه غير حقيقي؟”
وهكذا يصبح المتكلم
سببًا في إضعاف الإيمان بالحق، بدل أن يكون داعيًا إليه، فيتحول أمره بالمعروف إلى
بابٍ من أبواب الفتنة، لأنه لم يُصدّق قوله بعمله.
أما الأنبياء
والصديقون والشهداء والصالحون، فإنهم كانوا أصدق الناس قولًا وعملًا؛ يأمرون
بالخير وهم أول من يعمل به، وينهون عن الشر وهم أبعد الناس عنه. ولهذا آمن الناس
بهم، لأنهم رأوا فيهم الصدق، واطمأنوا إلى أن ما يدعون إليه حقٌّ من عند الله،
فأثمرت دعوتهم إيمانًا واهتداءً.
ورأى الناس فيهم
بركةَ الله، إذ منحهم الحُسن في الدنيا والآخرة، وأيّدهم بالمعجزات الخارقة التي
دلّت على صدقهم، فازداد الناس يقينًا بأن ما جاءوا به هو الحق.
أما من يقول الخير
ولا يعمل به، فإنه لا يزيد الناس إلا شكًّا، لأن فعله يناقض قوله، فيُضعف ثقة
الناس بالدين، ويُسيء إلى صورة الحق الإلهي.
فقد يقول أحدهم: “إن
القرآن كلام الله، وهو الحق المطلق، وهو رحمة للعالمين”، لكنه لا يقرأه ولا يعمل
به.
بينما من يتدبّره
ويعمل بما فيه، يجد أثره واضحًا في قلبه وسلوكه — فيصبح مطمئنّ النفس، راضيًا
بقضاء الله، لا يخاف من الغيب ولا يحزن على ما يفوته.
هذا هو الأثر الحيّ
للقرآن، لأنه كما قال الله تعالى:
﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ
تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾.
لكن من يدّعي حبّ
القرآن وهو لا يقرأه ولا يعمل به، يعيش في قلقٍ واضطرابٍ، يجزع عند الخسارة ويخاف
من المستقبل، فيرى الناس حاله فيقولون: “أين أثر القرآن الذي يتحدث عنه؟”
فيُصبح بذلك مانعًا
لا داعيًا، ومُنفّرًا لا مُبشّرًا، لأنه لم يُظهر على نفسه أثر الإيمان الذي يدعو
إليه.
إن كلام الله — سواء
في الكتب السابقة أو في القرآن الكريم الذي أُنزل على خاتم الأنبياء ﷺ — هو الحق
الذي لا ريب فيه، وكل من عمل به صار آيةً من آيات الله الحيّة في الأرض.
أما من اكتفى بالكلام
دون العمل، فلم يُظهر الآية على نفسه، فصار كلامه بلا برهان، وعمله بلا نور، فكان
سببًا في فتور الإيمان عند غيره، والعياذ بالله.
أيها الإخوة
والأخوات، إن الله سبحانه وتعالى أراد من عباده أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر،
ولكن بشرط أن يكونوا هم أول من يعمل بالخير ويجتنب الشر، لأن من يعمل بالحق
الذي في كتاب الله ويجعل الوحي والإرشاد الإلهي منهجًا لحياته، يصبح هو نفسه آيةً
من آيات الله الحيّة التي تُجسّد معاني الكتاب في الواقع.
فالقرآن الكريم كلامٌ
مكتوبٌ، نقرأه بألسنتنا ونتدبّره بعقولنا، ولكن حين نُترجم ما فيه إلى أفعالٍ
وسلوكٍ عمليٍّ في الحياة اليومية — من أداء الفرائض، والتقرّب إلى الله بالنوافل،
وطلب رضاه في كل عملٍ — عندها يصبح الإنسان دليلًا حيًّا على صدق كلام الله،
ويُصبح مثالًا لصفاته الحسنى وعدله ورحمته.
فمن رضي الله عنه
وأيّده، صار من عباده الذين يشهدون له بالقول والفعل، يشهدون أنه الواحد الأحد،
وأن صفاته وجماله لا يُشبهها شيء، وأن رحمته وعدله وفضله حقٌّ مطلق.
وهؤلاء الذين نالوا
رضوان الله تراهم قد تجلّى فيهم أثرُ الإيمان الحق؛ فبعضهم يبشّرهم الله بالجنة في
حياتهم قبل مماتهم، لأنهم بلغوا مقام اليقين الكامل.
هؤلاء هم الذين حين
يتحدثون عن الجنة والنار والآخرة، يتحدثون عن حقائق شهدوها بقلوبهم، فحديثهم صادقٌ
مؤثر، لأنهم آمنوا ثم عملوا فذاقوا حلاوة الإيمان.
أما الذين يأمرون
بالخير ولا يعملون به، فهم في حقيقتهم منافقون متكلفون، يتحدثون لا إخلاصًا
لله، بل طلبًا للمدح والسمعة والشهرة، فغايتهم ذاتية لا ربانية.
بينما المؤمن الصادق
الذي طهّر قلبه من الأنانية، إذا نال نعمةً من الله، أحبّ أن ينالها غيره، وإذا
وُقي من عذاب الله، أحبّ أن يُوقى سواه أيضًا، لأن قلبه امتلأ بالرحمة الصادقة
والرغبة في الخير للناس.
أما المنافق، فليس في
قلبه هذا الإخلاص، إذ إن “الأنا” تغلب عليه، فينصح لا حبًّا في الخير، بل حبًّا في
ذاته ومكانته.
ولهذا فإن من يأمر
بالمعروف ولا يعمل به لا يملك إيمانًا صادقًا بربّه الرحمن الرحيم، لأن من آمن
حقًّا بصفاته علم أن رحمته تشمل من عمل بالخير، وأن وعده بالثواب لا يُنال بالقول
فقط بل بالفعل.
فمن أراد مجدًا أو
سمعةً من الناس دون أن يعمل صالحًا، فإن ذلك المجد قصير الأمد، زائل لا يُعدّ
نعمةً حقيقية، لأن الله لا يُكرم من يُنافق باسمه.
بل إن الله يُظهر
عاقبة هؤلاء في الدنيا قبل الآخرة، فيُكشف زيفهم، وتظهر آثار نفاقهم، ثم يُجازَون
في الآخرة بالجزاء العادل، لأنهم استهانوا بكلام الله واتخذوه وسيلةً للمصلحة لا
وسيلةً للهداية.
فنسأل الله أن يجعلنا
من عباده الصادقين الذين يعملون قبل أن يقولوا، ويُصلحون أنفسهم قبل أن يُصلحوا غيرهم،
فيكونوا آيةً من آياته في الأرض، ونورًا يهدي إلى رحمته ورضوانه.
أيها الإخوة
والأخوات، في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم وأحمد عن الصحابي وُسَامَةَ
بن زيدٍ رضي الله عنه، أن النبي ﷺ قال:
“يُؤتَى بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه (أي
أمعاؤه)، فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا
فلان، ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم
بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه.”
هذا الحديث الشريف
يُبيّن بوضوح عاقبة من يأمر بالخير ولا يفعله، وينهى عن الشر ثم يقع فيه.
فهذا الإنسان يُعذَّب
في النار عقوبةً له على نفاقه العملي، إذ كان في الدنيا يزعم أنه من دعاة الخير،
لكنه لم يصدّق قوله بفعله، فصار في الآخرة عبرةً لغيره.
وقد شبّه النبي ﷺ
حاله بالحمار الذي يدور حول الرحى — أي حجر الطحن — يدور ويتعب دون أن يخرج
بنتيجةٍ لنفسه، لأنه لم يعمل بما علم، فكان علمه وباله عليه.
ففي الدنيا كان يأمر
غيره بالعمل الصالح، لكنه لم يُتعب نفسه في تطبيقه، فجعل الله له في الآخرة تعبًا
لا ينقطع، يدور في النار كما كان في الدنيا يدور حول الكلام دون العمل.
وقد ورد في حديثٍ آخر
أن النبي ﷺ رأى في النار رجلاً تندلق أمعاؤه يجرّها خلفه، وهو عَامِر بن
عامر من خُزاعَة — وكان من المشركين الذين شرّعوا لأنفسهم الحلال والحرام بغير
إذن الله — فقد اخترع أحكامًا في الإبل والأنعام، فجعل منها ما يُقرّب وما يُمنع،
مخالفًا أمر الله الذي قال:
﴿لَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ
أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى
اللَّهِ الْكَذِبَ﴾.
فكان جزاؤه أن
يُعذَّب في النار، يجرّ أمعاءه، لأنه في الدنيا ابتدع في دين الله ما لم
يأذن به الله، وحرّم وحلّل بغير علم، كما أن من يأمر بالخير ولا يفعله، وينهى عن
الشر ويقع فيه، يشبهه في هذا المعنى، لأن كلاهما لم يلتزم بشرع الله الحقّ.
وهذا التشبيه
بالأمعاء له دلالةٌ عظيمة:
فمن كان في الدنيا
يأكل من الحرام، أو لم يضبط نفسه بالمعايير الحلال التي شرعها الله، فإن أثر ذلك
يظهر عليه في الآخرة، لأن من عاش على الحرام لا يُطهره إلا النار.
وكذلك من قال بالحق
ولم يعمل به، فهو في الحقيقة مستهزئٌ بدين الله، يقول ما لا يعتقده، فيكون
عقابه مضاعفًا، لأنه أضلّ غيره، وأساء إلى صورة الدين الحق.
أما من عمل بالخير ثم
دعا إليه، فهو في الجنة مكرَّمٌ، لا تعبَ عليه ولا نصب، كما قال تعالى:
﴿لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا
نَصَبٌ وَلَا هُمْ مِنهَا بِمُخْرَجِينَ﴾.
فمن جمع بين العمل
والدعوة كان له أجران: أجر نفسه، وأجر من اهتدى على يديه.
أما من دعا إلى الخير
ولم يعمل به، فله الوزر مرتين: وزر نفاقه، ووزر صدّه الناس عن الحق.
فيا عباد الله، إن من
أعظم دلائل الإيمان الصادق أن يواطئ القولُ العملَ، وأن تكون الدعوة إلى الله
مقرونةً بالقدوة، فمن صدق في فعله، صدق اللهُ وعده، ورفع قدره، وأدخله في رحمته.
ونسأل الله أن يجعلنا
من الذين يقولون ويعملون، ويُخلِصون له في القول والفعل، وأن يعيذنا من النفاق
العملي والقول بلا عمل، إنه أرحم الراحمين.
أيها الإخوة
والأخوات، إن نبينا الكريم محمدًا ﷺ استخدم في تعليمه وتشبيهه صورة الحمار أكثر
من مرة، ليُقرّب إلى الأذهان معنى العلم بلا عمل، وهو علمٌ لا ينفع صاحبه،
بل يكون حجةً عليه.
ففي قوله تعالى في
سورة الجمعة:
﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا
التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾
شبّه اللهُ تعالى
الذين أوتوا الكتاب — أي الذين أُعطوا التوراة فحفظوا نصوصها لكنهم لم يعملوا بها — بالحمار الذي يحمل كتبًا على ظهره لا يدري ما فيها، لأن الحمل هنا ليس فهمًا ولا عملًا، بل مجرد ثِقلٍ بلا فائدة.
فالمعنى أن العلم
الذي لا يقود صاحبه إلى الطاعة، ولا يغيّر سلوكه، يصبح عبئًا عليه لا نفعًا له.
وهذا المعنى نفسه
يظهر في حديث النبي ﷺ عن الذين يأمرون بالمعروف ولا يعملون به، إذ شبّههم بالحمار
الذي يدور حول الرحى، لأنهم يكرّرون الأقوال دون أن يتحركوا بالعمل. فكما أن الحمار يدور دون أن يعي ما يفعل، كذلك هؤلاء يتكلمون دون أن
يتفكّروا أو يلتزموا بما يقولون.
أما من فهم كتاب
الله وعمل به، فهو الذي استخدم عقله وروحه استخدامًا راشدًا، فهو مؤمنٌ عاقلٌ
تقيّ، يقرأ فيتدبّر، ويسمع فيطيع، فيرتقي بروحه إلى مقامات النور، حتى يكون كأنما
له جناحان من نور، كما قال تعالى في سورة العاديات:
﴿وَالعَادِيَاتِ ضَبْحًا *
فَالمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالمُغِيرَاتِ صُبْحًا﴾
فكما أن الخيل في
سبيل الله تجري بجدٍّ وثباتٍ في ميدان الجهاد، كذلك المؤمن الصادق يسعى بجدٍّ في ميدان
الطاعة، يُجاهد نفسه، ويُقدّم عملًا صالحًا خالصًا لله.
وهؤلاء هم الذين
وصفهم الله في سورة الصفّ:
﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَرصُوصٌ﴾
أي أن الله يحبّ
الذين يوحّدون القول والفعل، فيُقيمون الصفّ في الطاعة كما يُقيمون الصفّ في
الجهاد، لا تزلّ أقدامهم، ولا تهتزّ قلوبهم.
أما الذين يقولون ولا
يعملون، فقد قال الله عنهم:
﴿كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ
أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾.
إذن، فالمؤمن الحق هو
الذي يجعل من نفسه آيةً حيّةً في الأرض، يُجسّد في أفعاله ما في كتاب الله
من هدى ونور.
فهو لا يكتفي بتلاوة
القرآن، بل يجعل حياته تطبيقًا له، فيُصبح لسانه ذاكرًا، وقلبه شاكرًا، وجوارحه
عاملةً بالخير، فيكون بذلك من الذين أحبّهم الله ورضي عنهم، لأنهم جمعوا بين العلم
والعمل، وبين القول والصدق، فكانوا كما وصفهم الله:
﴿رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
وَرَضُوا عَنْهُ، ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾.
نسأل الله سبحانه أن
يجعلنا من الذين يعملون بما يعلمون، ويُجسّدون في حياتهم هدي القرآن والسنة، وأن
يُعيننا على أن نكون من الآمرين بالمعروف العاملين به، والناهين عن المنكر المجتنبين
له، وأن يتقبّل منا صالح أعمالنا ويغفر لنا تقصيرنا، إنه هو الغفور الرحيم.
تعليقات
إرسال تعليق