(27) سورة البقرة - الركوع مع الراكعين – السرّ الروحي في الخضوع الجماعي لله تعالى
المقدمة:
أيها الإخوة والأخوات، إنّ الصلاة ليست مجرد حركاتٍ يؤديها الجسد، بل هي
سلوكٌ روحيّ يربط العبد بخالقه في كل قيامٍ وركوعٍ وسجودٍ. ومن بين أوامرها
العظيمة قوله تعالى:
﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾،
التي تكررت في سورتي البقرة وآل عمران، لتُشير إلى أن
الركوع ليس عبادةً فردية فحسب، بل هو مظهرٌ من مظاهر الوحدة الروحية والاجتماعية
للمؤمنين، إذ يجتمعون في صفٍّ واحدٍ، متواضعين أمام عظمة الخالق، متساوين لا
يُفرّق بينهم مالٌ ولا جاه.
فالركوع معناه الحقيقي ليس الانحناء بالجسد فقط، بل هو انحناء القلب وخضوع
الروح لله، وإقرارٌ بأن الكبرياء له وحده، وأن كل مخلوقٍ — مهما علت منزلته — عبدٌ
خاضعٌ لعظمة الله.
ولهذا جاء الخطاب حتى لمريم عليها السلام، وهي الزاهدة العابدة المنقطعة
في المحراب، فقال الله لها:
﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ
الرَّاكِعِينَ﴾،
أي كوني جزءًا من جماعة العابدين، لأن العبادة الحقة لا تنعزل عن الجماعة.
إنّ في الركوع مع الراكعين درسًا في التواضع، وإزالةٍ للكبر، وتذكيرًا
للإنسان بمقامه أمام خالقه، ليعيش متوازنًا بين عبادةٍ صادقةٍ لله وعدلٍ ورحمةٍ مع
خلقه.
ومن فهم هذا المعنى صار ركوعه عبادةً تجمع بين الخضوع لله والرحمة بالخلق،
وبين خشوع القلب ووحدة الأمة، فينال بذلك شرف قول الله تعالى:
﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾.
السلام عليكم ورحمة
الله وبركاته أيها الإخوة والأخوات في الجماعة، نحمد الله تعالى العلي العظيم،
ونصلي ونسلم على نبينا محمد ﷺ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
موضوعنا اليوم هو
قوله تعالى في كتابه العزيز:
﴿وَارْكَعُوا مَعَ
الرَّاكِعِينَ﴾،
الذي ورد في سورتي البقرة
وآل عمران.
نعلم أن الركوع هو
أحد أركان الصلاة، وهو من الحركات العظيمة في هذا العمل التعبدي الذي يجمع بين القيام
والركوع والسجود. وقد أمر الله تعالى المؤمنين أن يركعوا مع الراكعين، وفي هذا الأمر سرٌّ
ومعنى عظيم يستحق التأمل.
لكن قبل فهم هذا
المعنى الباطني، لا بد من إدراك حقيقة الصلاة نفسها، فهي من أهم العبادات التي
فرضها الله على عباده، وهي عبادة خالصة خالية من شوائب الدنيا، تجمع بين الطهارة
الجسدية والسموّ الروحي. فالصلاة ليست مجرد أداءٍ حركي، بل هي تربيةٌ للنفس
وتزكيةٌ للروح.
الصلاة تشتمل على
ثلاثة أركان ظاهرة: القيام، الركوع، السجود.
عند القيام، يقف
العبد بعد أن يتطهّر وضوءًا كاملًا، نقيّ الجسد والنية، ثم يقول: الله أكبر. هذه الكلمة إعلانٌ أن لا وجود لشيء في الوعي الإنساني سوى الله، وأن كل ما
سواه زائل. فهي شهادةٌ فعلية على أن الله وحده الحق، وكل ما عداه مخلوقٌ لا يُعبد.
وفي القيام يتلو
العبد كلام الله، يقرأ سورة الفاتحة وما تيسّر من القرآن، فيرتقي بفكره من
النظر في المخلوقات إلى التأمل في الخالق، من مشاهدة آثار القدرة إلى إدراك جلال
المعبود. فهو يشهد بآيات الله في خلقه، ثم يشهد أن كل هذه الآيات ليست مقصودة
بالعبادة، بل هي دلائل على المعبود سبحانه.
فحين يقف الإنسان في
صلاته، يصبح وعيه مشغولًا فقط بمعرفة الله من خلال آياته وكلامه، حتى يغيب كل ما
سواه من الوجود، ويُصبح هو نفسه آيةً من آيات الله، إذ يشهد أن كل الكائنات لا
تُعبد، وأن العبادة لا تكون إلا لله وحده.
من خلال القيام في
الصلاة، نحن نشهد بأن جميع المخلوقات لا تُعبد، فهي مجرد آيات من
آيات الله، بينما الله وحده هو صاحب الذات التي لا يشبهها شيء، وهو المتصف بأسمائه
الحسنى وصفاته العليا.
فعندما نقف بين يدي
الله مكبرين ومسبحين، فإننا في الحقيقة نُمجّد كماله وجلاله وجمال صفاته،
ونُثني عليه بما يليق بعظمته. نحن في هذا الموقف لا نمثل إلا آية من آياته،
وكل ما في الكون زائل، ويبقى وحده سبحانه ذو الجلال والإكرام.
إن قيامنا في الصلاة
هو قيامٌ بالله ولأجل الله؛ فنحن نقف استجابة لأمره، وشهادةً بأنّ له البقاء
المطلق، وأنّ كل ما سواه فانٍ. ومن يقف في صلاته بإخلاصٍ وشهودٍ كهذا، فإن روحه
(رُوح) تكتسب الطهارة والصفاء، لأنه يؤمن إيمانًا راسخًا بالآخرة، وبحقيقة
البعث بعد الموت، وباللقاء مع ربّه.
فإذا جاء يوم القيامة — يوم القيام — كان قيامه وسهولة بعثه شاهدًا على قيامه في الدنيا لله خاشعًا. فكما كان
في الدنيا يقف لله خوفًا ورجاءً، فإن الله ييسّر له القيام من قبره يوم
البعث، لأنه قد عرف معنى الوقوف بين يدي الله في الدنيا.
وهكذا يكون قيامه في
الصلاة تمهيدًا لقيامه يوم القيامة، فيُبعث مكرّمًا لأنه كان من الذاكرين القائمين.
والآن ننتقل إلى قوله
تعالى :
﴿وَارْكَعُوا مَعَ
الرَّاكِعِينَ﴾
لنتأمل في الركوع
ومعناه الروحي وفضله في العبادة.
قال تعالى في سورة البقرة
الآية 43:
﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ
وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾،
وهذا خطابٌ موجهٌ إلى
أهل الكتاب.
وقال تعالى في سورة آل
عمران الآية 43 مخاطبًا مريم عليها السلام:
﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي
لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾،
وهو نداءٌ لأفضل نساء
العالمين، يدعوها إلى الخضوع والتذلل لله مع الراكعين.
فهاتان الآيتان
تُظهران أن الركوع ليس مجرد حركة جسدية، بل هو رمزٌ للخضوع والتواضع لله،
ودليلٌ على وحدة الأمة في عبادةٍ جماعيةٍ، حيث يشترك المؤمنون في خضوعهم لله رب
العالمين، فيركعون معًا إقرارًا بعظمة المعبود الواحد، وبراءةً من الكِبر والعُجب،
واعترافًا بأن العظمة لله وحده.
عندما أمرنا الله
تعالى بالصلاة، قال لنا أن نقوم قيامًا بين يديه، وعندما ذكر الركوع، قال
سبحانه: ﴿وَارْكَعُوا مَعَ
الرَّاكِعِينَ﴾، فدلّ ذلك على أن في الركوع معنى جماعيًّا عميقًا.
فقد استنبط العلماء
من هذه الآية حكمًا شرعيًا مهمًا، وهو أن الصلاة الجماعية واجبة (الواجب) على
المسلمين، لأن الله لم يقل: "اركعوا" فقط، بل قال: "مع الراكعين"، أي: مع الجماعة، مع الذين
يعبدون الله بإخلاص، ومع الذين يسعون إلى إتمام عبادتهم على الوجه الأكمل.
وهذا الخطاب ليس للمؤمنين
وحدهم، بل حتى لأكرم النساء مريم عليها السلام، التي كانت منقطعة في محرابها،
زاهدةً في الدنيا، قائمةً على الذكر والعبادة في خلوةٍ تامة، ومع ذلك قال لها ربها:
﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي
لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾،
أي: لا تنعزلي عن
جماعة المؤمنين، وكوني جزءًا من جماعة الذاكرين العابدين.
فالعبادة في الإسلام
ليست انعزالًا عن المجتمع، بل هي عبادة تقوم على الروح الجماعية، لأن
الإنسان بطبيعته لا يمكن أن يعيش وحده. فمنذ أن خلق الله آدم عليه السلام جعل له
زوجًا، وجعل منهما ذريةً تتكاثر لتتعاون وتتراحم.
والإنسان يعيش في
عوالم متداخلة: عالم مادي، وعالم روحي، وعالم غيبي. ففي الوقت الذي يعبد فيه الإنسان ربَّه، تسبّح معه المخلوقات كلها:
الملائكة، والجمادات، والحيوانات — كلها تذكر الله وتسجد له بلسان حالها.
ولذلك أمر الله
الإنسان أن يركع مع الراكعين، أي أن يتواضع لله كما تتواضع مخلوقاته، وألا
يتكبّر في الأرض.
فمن معاني الركوع
الجماعي أيضًا أن يتعلّم الإنسان التواضع في المجتمع، وألا يتعدّى على حقوق
الآخرين، سواء في التعامل مع الطبيعة أو مع الناس.
فمن يركع حقًّا لله،
يدرك أن عليه أن يكون رحيمًا في طلب الرزق، معتدلًا في الانتفاع بنعم الله، وألا
يظلم المخلوقات، لأن الكِبر والجشع يُنافيان صفة العبودية الصادقة.
وفي المجتمع البشري،
هذا المعنى يظهر في التعامل بين الناس: بين الأقارب والأصهار، بين الغني والفقير،
بين العالم والعامي.
فالمؤمن الحق هو من
يشعر أن النعمة ينبغي أن تعود بالنفع على الجميع، لا أن يحتكرها لنفسه.
أمّا من يرى نفسه أعلى من الآخرين — بسبب ماله أو علمه أو منصبه — فهذا لا يستطيع
أن يركع مع الراكعين، لأن قلبه مملوء بالكِبر، وروحه فاقدة للتواضع.
انظر إلى من يملك
سلطانًا أو ثروة أو شهرة، كم يجد في نفسه مشقةً أن يقف صفًّا واحدًا مع الناس في
المسجد!
لكن المؤمن الذي يذكر
الله ويعرف قدر نفسه أمام خالقه، يعلم أن التفاضل ليس بالجاه ولا بالمال، بل
بالتقوى، كما قال تعالى:
﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ
اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾.
فمن امتلك هذه الصفة
من الخشوع والتواضع، كان أهلاً لأن يركع مع الراكعين، لأن ركوعه لله ينعكس
تواضعًا مع خلق الله، فيكون من أهل الجماعة، ومن الذين شرفهم الله بالقيام والركوع
والسجود بين يديه في الدنيا، ليقوموا بين يديه قيامًا محمودًا يوم القيامة.
إذن فالركوع يحمل علامةً
عميقة المعنى — إنه شهادةٌ على أن الله هو ربّ الحقّ، وربّ يوم الجزاء والبعث، وأن
الملك كلّه له وحده، فهو الذي بيده الأمر والحكم والميزان الذي
تُقاس به الأعمال ويُفرّق به بين الخير والشر، والعدل والظلم.
فمن أراد أن يكون من
أهل السعادة في الدنيا والآخرة، فعليه أن يتخلّق بأخلاق الله، أي يتعلّم من
صفاته العليا، فيكون عارفًا بالحق، قائمًا بالعدل، لا يظلم أحدًا، ولا يغلّب
موازين الدنيا من جاهٍ أو مالٍ أو شهرةٍ على موازين التقوى. فالعِزّ الحقيقي ليس
في السلطة ولا في الثروة، بل في خشية الله، كما قال تعالى:
﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ
اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾.
فقد يكون الخادمُ أو
الفقيرُ أو التلميذُ أكثرَ تقوى وخشيةً لله من سيده أو معلمه أو الغنيّ، فيكون يوم
القيامة أرفعَ درجةً عند الله. ولهذا حين نتدبّر هذه الآيات، علينا أن نسأل الله
أن يرزقنا الخشوع والتواضع، وأن يرفع مقامنا بذكره وطاعته، لا بمظاهر
الدنيا الزائلة.
وفي سورة البقرة،
أمر الله الذين أُوتوا الكتاب — أي الذين نالوا نعمة العلم والوحي — أن يكونوا متواضعين،
لأن العلم لا يرفع صاحبه إلا إذا اقترن بالتقوى. ولذا اختار الله النبي الأمي ﷺ،
الذي لم يقرأ ولم يكتب، ليكون خاتم النبيين وحامل كتاب الله العظيم القرآن
الكريم.
وفي هذا درسٌ لأهل
الكتاب ولكل من أُعطي علمًا أو فضلًا: أن الرفعة ليست بالمعرفة وحدها، بل
بالاتباع الصادق للحق.
فطاعة النبي ﷺ هي
طاعةٌ لله، كما قال تعالى:
﴿مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ
فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾،
ومن أبى اتباعه أو
تعصّب لقوميته أو نسبه فزعم أن النبوة لا تكون في غير قومه، فقد حُجب عن حقيقة
الخضوع لله، ولن يذوق معنى قوله تعالى: "واركعوا مع الراكعين"، لأنه رفض أن يكون من جماعة
الخاشعين لله في أرضه.
فحين نركع، نحن في
الحقيقة نشهد أن الله هو ربّ الجزاء والحساب، وأنه هو الذي يرسل رسله
ويُنزل كتبه، ليهدي بها الناس إلى الخير. فمن أطاع أوامره واتبع أنبياءه، فقد سار
في طريق الصالحين، ومن عاند فقد خالف إرادة ربه.
فالله هو الذي يختار
رسله، وليس للناس أن يختاروا من يشاؤون، بل عليهم أن يُسلموا لأمر الله ويخضعوا
لاختياره، وهذا جوهر الركوع — التواضع والخضوع الكامل لإرادته سبحانه.
وحين نركع في صلاتنا
بعد قيامنا، فإننا نجمع بين الإيمان بالبعث والرجاء في الحساب الحسن؛ لأن قيامنا
لله في الدنيا يجعل قيامنا يوم القيامة يسيرًا، وركوعنا في الدنيا يصبح آيةً
على إيماننا بيوم تُعرض فيه الكتب.
ففي ذلك اليوم يُعطى
كل إنسانٍ كتابه، فمن كان في الدنيا من الخاشعين، المتواضعين لله، الملتزمين
بكتابه، نال كتابه بيمينه، لأنه كان يعيش في طاعةٍ خالصةٍ، لم يظلم أحدًا،
ولم يتكبّر على خلق الله، وكان يحبّ الجماعة ويكره التفرّق.
ذلك هو الذي يُقبل
عمله، ولا يستطيع أحدٌ أن يسلبه حسناته، لأنه من أهل الصدق والخشوع، الذين قال
الله عنهم:
﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ
كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنقَلِبُ إِلَى
أَهْلِهِ مَسْرُورًا﴾.
فهكذا، يكون الركوع شهادةً
في الدنيا على الإيمان بالله واليوم الآخر، ومفتاحًا للكرامة في الآخرة، لأنه
يعلّمنا التواضع لله، والعدل مع خلقه، والطاعة لنبيّه ﷺ، حتى نصبح من الراكعين
الصادقين الذين خضعوا لله ظاهرًا وباطنًا.
الآن ننتقل إلى السجود
وما يتضمّنه من الأسرار والمعاني العميقة.
فالسجود في حقيقته هو
خضوعٌ خالصٌ لله تعالى وحده، وفيه تسبيحٌ بقول «سبحان ربي الأعلى»، أي إعلانٌ أن العلوَّ
والعظمةَ لا تليق إلا بالله وحده، لا بغيره من مخلوقاته.
لقد جُعل السجود لله،
ولكن حين خلق الله آدم عليه السلام، منحه شرفًا عظيمًا، إذ أمر الملائكة بالسجود
له — لا عبادةً له، بل تكريمًا لخَلْق الله فيه، ولأن آدم كان رمزًا
للخلافة في الأرض. فصار الإنسان بذلك مكرَّمًا مفضَّلًا، وخليفةً لله في أرضه،
وأُكرم بأن يتلقّى الوحي، ويُنزَّل عليه الكتاب، وتُرسل فيه الرسل، حتى خُتمت
النبوة بسيّدنا محمد ﷺ، الذي جعله الله آية رحمته للعالمين.
فالإنسان إذن يحمل في
ذاته أثرًا من صفات الله الجمالية: من الرحمة، والكرم، والعلم، والحكمة، والقدرة
على العمل للخير، فهو مخلوقٌ يمكنه أن يكون آيةً من آيات الله في الأرض.
وحين يسجد العبد لله،
فإنه يشهد أن كل خيرٍ وسعيٍ للرزق المادي أو الروحي أو الأخروي إنما هو من آثار
أسماء الله الحسنى، وأن كل ما في الكون من مظاهر الجمال والإحسان والقدرة هو دلائل
على كمال الخالق لا شركاء له.
ومن هنا فإن السجود
يعلن نفي الشرك بكل أنواعه:
فمن الناس من رأى في
الشمس مصدرًا للرزق والنور فسجد لها، أو في المال سببًا للنعمة فعبده، أو في
الأولياء والأنبياء واسطةً فغلا فيهم حتى عبدهم من دون الله.
لكن المؤمن الذي يسجد
لله وحده يدرك أن هذه المخلوقات كلها آياتٌ لا تُعبد، وأنها وسائل في نظام
الكون، لا مصادر للبركة بذاتها، بل من خلقها هو المستحقّ وحده للسجود.
لذلك، عندما نسجد،
فإننا نقول بقلوبنا قبل ألسنتنا:
“يا رب، لا أسجد لشيءٍ
من خلقك — لا لمالٍ، ولا لسلطانٍ، ولا لإنسانٍ — وإنما أسجد لك وحدك، لأنك أنت
الخالق لكل هذه النعم.”
وفي السجود أيضًا
نعلن البراءة من تأليه البشر. فالأنبياء والرسل، على جلال قدرهم، هم عباد الله المصطفون، وليسوا آلهة.
حتى من كان منهم
روحًا طاهرةً — كعيسى عليه السلام الذي سمّاه الله رُوحًا منه — فهو عبدٌ لله، مكرَّم بالرسالة لا بالربوبية.
ففي السجود نقول
ضمنًا: “يا رب، نحن نكرّم أنبياءك ونتّبعهم، لكننا لا نعبدهم، ولا نرفعهم إلى
مقامك، لأنك أنت وحدك المستحقّ للسجود.”
وهكذا، فإن السجود هو
أكمل مظاهر التوحيد؛ فهو يشهد أن الله وحده هو الإله الحقّ، وهو وحده
الجدير بأن يُسجد له.
ومن يسجد لله على هذا
الفهم، فقد بلغ ذروة العبودية، لأن جبهته — موضع الكِبر والرفعة — وضعت على الأرض
تواضعًا لخالقها، شهادةً بأن كل ما في الوجود فانٍ، وأن الباقي هو الله ذو الجلال
والإكرام.
إن العبد الذي يسجد
بإخلاصٍ لله تعالى لا يمكن أن يكون مشركًا أو متّبعًا للضلال، كما فعل بعض أهل
الكتاب الذين غلوا في أنبيائهم فعبدوا عيسى أو عزير عليهما السلام، وهما في
الحقيقة عبادٌ لله مكرَّمون.
فالساجد الصادق هو
الذي يوحّد الله في ربوبيته وألوهيته، فيؤمن به إيمانًا خالصًا، ويعبده
وحده لا شريك له، ويعلم أن الله وحده المستحقّ للسجود والعبادة.
وحين يسجد لله، يوقن
أن الآخرة حقٌّ، والجنة والنار حقٌّ، فيتذكّر أن من أشرك بالله فمصيره
الخلود في النار، ومن أخلص له العبادة فمآله إلى الجنة.
فالسجود نفسه يصبح آيةً
وشهادةً على هذا الإيمان، إذ يشهد العبد في أعماق قلبه أن لا إله إلا الله،
وأنه لا معبود بحقٍّ سواه.
الجلوس للتشهّد ومعانيه العميقة :
بعد السجود، يأتي
الجلوس في الصلاة، وهو موضع الشهادة، أي النطق بكلمة التوحيد.
روى الصحابي ابن
مسعود رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال:
“لا تقولوا: السلام على الله، فإن الله هو السلام، ولكن قولوا في التشهد:
التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته،
السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا
عبده ورسوله.”
وفي رواية ابن
عباس رضي الله عنهما، أن النبي ﷺ علّمهم أن يقولوا:
“التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله…”
ثم يأتون بالصلاة على
النبي ﷺ والدعاء للمؤمنين بنفس الصيغة.
من هذين الحديثين
نتبيّن أن الله تعالى هو السلام الحقّ، فلا يُقال له “السلام عليك”، لأنه
هو مصدر السلام، ومنه تنزل السكينة والطمأنينة.
أما العبد، فهو الذي يطلب
السلام والرحمة من ربه، فيسأل الله أن يرزقه وإخوانه المؤمنين الطمأنينة في
الدنيا والآخرة.
وفي هذا الجلوس
المبارك، يُعلن العبد أن كل أعماله وأقواله وخيره وعباداته مردّها إلى
الله، فهي كلها ملكٌ لله وابتداءٌ منه وإليه، ولذلك يقول:
“التحيات لله والصلوات والطيبات.”
أي أن كل تحيةٍ أو
عبادةٍ أو كلمة طيبة إنما هي لله وحده.
وفي هذا المعنى إشارةٌ
إلى اللقاء بالله، فالعبد يقرّ بأن جميع حسناته ما هي إلا قرابين روحية
يتقرب بها إلى ربه، وأن كل خيرٍ يعمله في الدنيا هو خطوة نحو رؤية الله في الآخرة.
فالتحيات والتسليم في
التشهد شهادةٌ عمليةٌ على الإيمان بالبعث واللقاء، إذ يقول العبد بلسانه
وقلبه:
“يا رب، ما صلاتي
وذكري وصبري وسجودي إلا لك، أرجو أن تقبلها مني قربانًا يوم ألقاك.”
ولهذا يختم التشهد
بالصلاة على النبي محمد ﷺ وعلى إبراهيم عليه السلام وأهل بيتهما، لأنهما نموذجان
للعباد الذين نالوا البركة الإلهية في الدنيا والآخرة، وصبروا في البلاء
وشكروا في الرخاء، فساروا في طريق القرب من الله حتى نالوا رضوانه.
وبذلك يعلن المؤمن في
جلوسه أن طريق هؤلاء الأنبياء هو طريقه، وأنه يسأل الله أن يرزقه من النعم ما
يعينه على كمال العبودية في الدنيا ورؤية وجهه الكريم في الآخرة،
فيجعل من تشهّده عهدًا متجددًا بينه وبين الله، يجمع بين الإخلاص في
العبادة والرجاء في اللقاء.
وهذا أيضًا من أعظم الأنعام
التي تضمنتها عبادة الصلاة، فقيامنا وركوعنا وسجودنا وجلوسنا كلّها شهادات
حيّة على توحيد الله وإيماننا بالبعث ولقائه سبحانه.
ففي قيامنا نتلو سورة
الفاتحة — وهي الكتاب الذي خُصّ به نبينا محمد ﷺ — نعلن فيها أن كل حمدٍ وثناءٍ لله
ربّ العالمين، وأننا نستعين به وحده ونعبده وحده، فنجدّد بها العهد مع ربنا في كل
صلاة.
وفي كل ركوعٍ وسجودٍ
نسبّحه ونمجّده، فنشهد له بالكمال والجلال، ونوقن أنه كما يسّر لنا الوقوف في
الدنيا لعبادته، فسيسهّل لنا الوقوف بين يديه يوم القيامة حتى نلقاه راضين.
ولذلك ندعو الله أن يتقبّل
صلاتنا، وأن يعيننا على أن نكون من المحافظين عليها، الخاشعين فيها، القائمين
لله وحده، الراكعين له، الساجدين له، لا نغفل عنها ولا نتهاون في شأنها.
وحين نقرأ في السيرة
النبوية، نعلم أن النبي ﷺ — وهو في سكرات الموت — كان آخر ما أوصى به أمته قوله:
“الصلاةَ الصلاةَ وما ملكت أيمانكم.”
ليدلّ على أن الصلاة
ليست مجرد عبادة، بل هي حبل العبد بربه، وهي مفتاح سعادته في الدنيا
والآخرة.
كما أن الله سبحانه
رفع نبيه محمدًا ﷺ في الإسراء والمعراج بروحه وجسده، وفرض عليه الصلاة
مباشرةً من غير واسطة، لتكون علامةً على قربه واصطفائه، ودليلًا على شرف
هذه العبادة التي جعلها الله وسيلةَ الارتقاء الروحيّ للإنسان، حتى يصل إلى
مقام المشاهدة القلبية والقرب الإلهي.
فالصلاة إذن هي أعظم
هديةٍ للبشرية، نزلت من فوق سبع سماوات، لتربط الإنسان بخالقه، وتذكّره في كل
يومٍ وليلةٍ بخالقه ومصيره وهدفه.
وفي الختام، نسأل
الله جلّ وعلا أن يتقبّل صلاتنا وعباداتنا، وأن يجعلنا من عباده الذين
يقومون له خاشعين، ويركعون له متواضعين، ويسجدون له مخلصين، وأن يغفر لنا زلّات
القول والتعبير، إنه الغفور الرحيم.
والسلام عليكم ورحمة
الله وبركاته.
تعليقات
إرسال تعليق