(34) سورة البقرة : الصابئون في القرآن الكريم: الفطرة، الإيمان، ووحدة القلوب في ميزان الهداية


المقدمة :

يتناول هذا الدرس قضية قرآنية عميقة تتعلّق بذكر الصابئين في كتاب الله تعالى، وهي قضية كثيرًا ما يُساء فهمها أو يُنظر إليها على أنها تاريخية أو بعيدة عن واقع الإنسان المعاصر. غير أن التدبّر في الآيات التي ورد فيها ذكر الصابئين، في سور البقرة والمائدة والحج، يكشف لنا أن القرآن الكريم لا يذكر طائفة أو ظاهرة عبثًا، وإنما يذكرها لهداية البشر، وتصحيح مسار القلوب، وإعادة الإنسان إلى فطرته التي فطره الله عليها.

إن هذا الدرس لا يهدف إلى البحث التاريخي المجرد في هوية الصابئين بقدر ما يسعى إلى الوقوف على الدلالات التربوية والعقدية التي تحملها هذه الآيات، وإلى فهم موقع الصابئين ضمن سياق الحديث القرآني عن الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح. ومن خلال عرض أقوال المفسرين والعلماء، يتّضح أن الخيط الناظم في هذه القضية هو الفطرة السليمة، تلك التي تقوم على توحيد الله، ورفض الشرك، والتوجّه إليه وحده بالعبادة والرجاء.

كما يبيّن الدرس أن الانحراف العقدي، وتعدّد الأديان والمذاهب، وكثرة النزاعات والتمييز بين البشر، إنما هو نتيجة مباشرة لفقدان الفطرة أو طمسها، سواء بسبب التقليد الأعمى، أو اتباع الأهواء، أو الغفلة عن ذكر الله. وفي المقابل، فإن الإيمان الصادق، القائم على اليقين بلقاء الله في الآخرة، يعيد للقلب وحدته وسكينته، ويحرّره من التفرّق والاضطراب.

ومن هنا، فإن دراسة حال الصابئين ليست غاية في ذاتها، بل هي مرآة نراجع من خلالها إيماننا، ونقيس بها مدى تمسّكنا بالفطرة، وصدق توحيدنا، وحقيقة سعيِنا إلى الله. فالدرس موجّه قبل كل شيء إلى من يصف نفسه بأنه مسلم، ليقف مع نفسه وقفة صادقة: هل غايته الله ولقاؤه، أم أن غايته توقّفت عند مظاهر أو مطالب دنيوية وأخروية دون بلوغ حقيقة العبودية؟

 

الإخوة والأخوات في المجموعة، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نحمد الله العلي العظيم حمدًا كثيرًا، ونصلي ونسلّم على نبينا الخاتم محمد ﷺ صلاةً وسلامًا لا ينقطعان، ونسأل الله أن يرضى عن جميع الصحابة الكرام.

موضوع حديثنا اليوم هو: التعرّف على الصابئين الذين ذُكروا في القرآن الكريم. فقد ورد ذكرهم في آيات من سورة البقرة وسورة المائدة وسورة الحج. وقد ذكرهم ربّنا سبحانه في كتابه ضمن سياق فيه هداية لنا، ومن الواجب علينا أن نتأمل ذلك لنستخلص العِبر والدروس.

لقد ترجم بعض العلماء لفظ الصابئون مباشرة على أنه يشير إلى عبّاد الكواكب، غير أنّ كتب التفسير تُبيّن أن أقوال العلماء في تعريف هؤلاء القوم قد تعددت؛ فمنهم من قال إنهم قوم يؤمنون بكتاب الزبور، ومنهم من قال إنهم جماعة يعبدون الملائكة السماوية، ومنهم من قال إنهم من عبدة الكواكب، وقال آخرون إنهم قوم حافظوا على الفطرة الأصلية ولم يكن لهم دين ثابت، وقال بعض العلماء إن الصابئين هم قوم لم تبلغهم دعوة أي نبي قط، وذهب أحد العلماء إلى أن الصابئين هم قوم يجمعون بين معتقدات المجوسية واليهودية والنصرانية، دون أن يكون لهم دين محدد وواضح.

وبالنظر إلى هذه الأقوال، فإننا نقول: الله سبحانه وتعالى أعلم. إلا أن أكثر العلماء يرون أن قول مجاهد هو الأرجح والأدق؛ حيث يرى أن الصابئين ليسوا يهودًا ولا نصارى ولا مجوسًا، ولا هم من المشركين، وإنما هم قوم بقوا على الفطرة السليمة، ولم يكن لهم دين مستقر. ولهذا كان كثير من المشركين يستهزئون بالمسلمين ويصفونهم بأنهم صابئة، لأن الدين الذي جاء به المسلمون كان مختلفًا عن جميع الأديان المعروفة آنذاك، أي أنه دين حافظ على الفطرة السليمة. ولهذا وافق جمهور العلماء قول مجاهد.

وقد ورد ذكر الصابئين في عدة مواضع من القرآن الكريم، والقرآن لا يذكر أمرًا عبثًا أو زائدًا عن الحاجة، فكل ما ذُكر فيه من آيات ودلالات إنما هو تعليم لنا وهداية ورحمة. وعلى الرغم من أن بعض المترجمين يصفون الصابئين بأنهم عبّاد كواكب، وكأن ذلك لا علاقة لنا به، فإن الحقيقة هي أن كل ما ذكره الله تعالى في كتابه إنما يحمل في طياته موعظة لنا، وعلينا أن نبحث عن تلك الرحمة والدروس لنزداد شكرًا لله عز وجل.

ومن هنا، سننطلق من أقوال العلماء حول الصابئين، ونجعلها محورًا لفهمهم بالاستناد إلى الآيات الثلاث التي ورد ذكرهم فيها، لنستخلص منها ما يدفعنا إلى حمد الله وشكره.
فنبدأ بما ورد في سورة البقرة حول الصابئين. فقد ذكر الله سبحانه في هذه السورة الصابئين مع اليهود والنصارى، وهم من أهل الكتاب، وبيّن أن من آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فله أجره عند ربه، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون. وذكرهم مع اليهود والنصارى الذين هداهم الله يدل على أن الصابئين في أصل حقيقتهم يؤمنون بالله واليوم الآخر؛ لأن الأجر عند الله لا يكون إلا لمن آمن بالله واليوم الآخر.

وهذا يدل على أن الصابئين الحقيقيين الذين لم ينحرفوا عن الحق كانوا يؤمنون بالبعث، لأن الإيمان الصادق بالله واليوم الآخر يقتضي الإيمان بأن الله هو صاحب الذات، وأن كل شيء سيفنى، وبعد فناء كل شيء يبقى الله وحده، الحيّ الذي لا يموت، خالق العالمين، وهو الذي يبعث الناس ويحيي الخلق بعد الموت. وشهادة أن الله وحده هو القادر على إفناء الخلق ثم إحيائهم هي من صميم هذا الإيمان.

وهذا الإيمان الجازم يشترك فيه أهل الكتاب الحقّ، وكذلك نحن المسلمين، وكل من يُسمّى صابئًا ممن تحقّق بهذا الإيمان. ومن آمن بأن الله صاحب الذات، فإنما يطلب الأجر من الله وحده دون سواه.

وهذا يبيّن أن الصابئين يؤمنون بالبعث في اليوم الآخر، ويؤمنون بأن هناك جزاءً وأجرًا في الآخرة. فذكرُ ربّنا سبحانه للأجر في هذه الآية يدلّ على أن السعي إلى الأجر عند العمل الصالح في الدنيا، ابتغاء نعيم الدارين، يقتضي وجود ابتلاء واختبار، وأن يكون طلب الأجر من الله وحده. ولهذا فإن من لا ينشغل بقلق المكاسب والخسائر الدنيوية لا يصيبه الحزن، لأن الله تعالى قال في هذه الآية: لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

وقد أجمع العلماء في تفسير معنى لا خوف عليهم ولا هم يحزنون على أن عدم الخوف يعني أنهم لا يخافون مما هو غيب، أي من أهوال البعث والحساب في الآخرة، بمعنى أنهم بعد البعث لا يخافون من الحساب. وأما عدم الحزن فيعني أنهم في الدنيا لا يحزنون على ما يفوتهم من مكاسب أو ما يصيبهم من خسائر، لأنهم لا يطلبون إلا ثواب الله في الآخرة.

ومعنى ذلك أن الصابئين الذين ينالون أجر الله، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، هم أناس كانوا في الدنيا، أثناء سعيهم وراء الرزق والنعم المقدّرة لهم، متوكلين على الله. ولماذا؟ لأن الإنسان يبتلى بالخير والشر، وعند الابتلاء بالشر كثيرًا ما يقع الإنسان في الغفلة، وينسى ذكر الله، بل قد ينسى وجود الخالق أصلًا. لكن عند نزول البلاء، فإن الفطرة الكامنة في الإنسان تُستَنهَض بسرعة، لأن هذه الفطرة فطرة حقيقية أصيلة.

فالله سبحانه وتعالى قد فطر الإنسان وروحه على العهد بأن يؤمن بوجود خالق واحد، ومدبّر واحد، مستحق للعبادة، لا شريك له، وهذا الإيمان مغروس في الفطرة الإنسانية. ولذلك، عندما يواجه الإنسان في طريق سعيه وراء النعم المقدّرة ابتلاءً أو مصيبة، فإن من اعتاد فعل الخير وطلب الصلاح، سرعان ما تستيقظ فطرته، فيتوجّه بندائه إلى الجهة الوحيدة القادرة على كشف الضر، أي ذلك الذي تعرفه فطرته أصلًا: ربّ العالمين، المدبّر والمتصرّف، القادر على رفع البلاء.

ومن هنا فإن الصابئين الحقيقيين لا بد أن تتوفر فيهم هذه الصفة، وهذا يتّسق مع الفهم الشامل الذي ذكره العلماء سابقًا.

فما الدرس الذي نتعلّمه من ذلك؟
الدرس هو أننا في سعينا وراء النعم التي قدّرها الله لنا في الدنيا، يجب أن نطلب الخير ونعمل الصالحات، وعند نزول البلاء والابتلاء، علينا أن نحافظ على فطرتنا السليمة، وأن لا ندعو عند طلب كشف الضر إلا ربّ العالمين وحده، وألا نشرك به شيئًا من مخلوقاته.

أي لا يجوز أن نظن أن هذه المصيبة سببها فلان أو أن رفعها بيد فلان أو جماعة أو جهة معيّنة، ولا أن نلجأ إلى أوهام المشركين أو عباد الأصنام، فنقول: “لنجرب الإيمان بهذا أو ذاك لعلّه ينفع”. بل الواجب أن نتعلّم أن نحفظ فطرتنا، وأن ندعو الخالق، المدبّر، ربّ العالمين وحده، الذي لا شبيه له ولا مثيل، فهو الخالق الوحيد، والرازق الوحيد.

وعندما نتأمل هذا المعنى، ندرك أن الله سبحانه وتعالى، من خلال ذكر الصابئين، يعلّمنا هذا الدرس العظيم: أن من حُفظت فطرته ونال هذه النعمة من الله، فإن هموم الدنيا ومخاوفها لا تسيطر عليه، فلا حزن له في الدنيا، وأما البشارة في الآخرة فهي أعظم وأجلّ.

وبالطبع، فإن الوصول إلى هذا اليقين الراسخ بالله، وحفظ الفطرة السليمة، يقود الإنسان إلى عبادة الله بإخلاص. ومن عبد الله حق عبادته، لم يبقَ عنده خوف من حساب الآخرة بعد البعث.

فهؤلاء الصابئون، وإن لم يُبعث إليهم نبيّ خاص لهدايتهم، إلا أنهم حافظوا على فطرتهم وعبدوا ربهم. أي أنهم وإن لم تكن لديهم عبادات مخصوصة أو شعائر مفصّلة، إلا أنهم في حياتهم كانوا يعملون الصالحات، ولا يطلبون الأجر إلا من خالق العالمين وربّهم، ولذلك فإنهم يستحقون أن يُبعثوا يوم القيامة ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

والآن نقرأ ما ورد عن هؤلاء القوم في سورة المائدة. فقد ذكرهم ربّنا سبحانه في هذا السِّياق، وعلينا أن نفهمهم في ضوء الآيات السابقة واللاحقة، وفي ضوء المقصد العام الذي تتحدث عنه سورة المائدة، لنستخلص ما تحمله هذه الآيات من دلالات وهداية لنا فنأخذ منها العبرة.

فعند ذكر هؤلاء القوم في هذا الموضع، نجد أن الآيات التي قبلها وبعدها كلها تتحدث عن الذين أوتوا الكتاب. ولنقرأ هذه الآيات:

قال تعالى:
﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ ۗ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ۖ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾.

ثم بعد ذلك تأتي الآية التي يُذكر فيها الصابئون، وبعدها مباشرة يقول تعالى:
﴿لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا ۖ كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ﴾.

وهذا يدلّ على أن الآيات التي تحيط بقوله تعالى عن المؤمنين واليهود والصابئين والنصارى، وأن من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، إنما جاءت كلّها في سياق الحديث عن أهل الكتاب. فنحن نعلم أن الكتب السماوية تشمل: صحف إبراهيم عليه السلام، والتوراة، والإنجيل، والزبور، والقرآن الكريم. وقد ذُكر الصابئون ضمن هذا السياق، ولذلك ذهب بعض العلماء إلى تفسير الصابئين بأنهم قوم يؤمنون بكتاب الزبور، مما يدلّ على أنهم يشتركون مع أهل الكتاب في صفات نيل الرحمة والنعمة.

وفي الزبور وردت معانٍ كثيرة في تمجيد الله وتسبيحه، فقد كان داود عليه السلام يسبّح الله مع المخلوقات جميعًا، وينزّهه ويقدّسه. ثم ورثه ابنه سليمان عليه السلام، فكان كثير الذكر لله، لا يغفل عنه أبدًا. وهذان النبيّان أُوتيا الملك والقوة، ومع ذلك لم يظلمَا قط، وكانت عندهما معايير واضحة للخير والشر، وللحق والباطل، وللحلال والحرام، ولذلك سُخّرت لهما الجنّ. فقد نصر الله داود عليه السلام على جالوت، ومنحه الملك ثم أنزل عليه الكتاب، كما سُخّرت الجن لسليمان عليه السلام. وكل هذا يدلّ على دوام ذكرهما لله وتسبيحه ليلًا ونهارًا دون غفلة.

ومن ذلك أيضًا ما كان من عبادات داود عليه السلام من صلاة وصيام نافلة، والتي صارت فيما بعد من السُّنن التي يُقتدى بها.

فما الذي نتعلّمه من ذكر الصابئين هنا؟
نتعلّم أن الله سبحانه قد فطر الإنسان على معرفة خالق العالمين، وأنه واحد لا شريك له، وأنه المدبّر لكل شيء، فلا يجوز مخالفته ولا الإعراض عنه، بل يجب الحفاظ على هذه الفطرة. وكيف نحافظ على هذه الفطرة التي عاهد اللهُ عليها البشر؟ يكون ذلك بالإكثار من ذكره وتسبيحه ليلًا ونهارًا، وألا نكون من الغافلين. لأن الإنسان إذا غفل، تبعه شيطان الإنس أو الجن، فيُطمس نوره وتُحجب فطرته، فيقوده ذلك إلى الشرك بالله والانحراف.

ولهذا فإن دراستنا لهذه الآيات تهدف إلى تعلّم ذكر الله، وجعل القرآن وسيلة دائمة لتذكّر الله واستحضار عظمته.

ثم ننتقل إلى ما ورد عن الصابئين في سورة الحج، في الآية السابعة عشرة، حيث قال تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾.

وهنا يتبيّن أن الحكم في الآخرة سيكون شاملاً لكل من له معتقد أو دين من أتباع الديانات المختلفة، لأن ربّنا سبحانه هو ربّ يوم الجزاء، وهو الحَكَم العدل، الشاهد على كل شيء. ولأن البشر قد اختلفوا، وتعددت بينهم النزاعات والفرق والاتجاهات، ظهرت هذه الديانات المتعددة. أمّا ربّ العالمين، ربّ يوم الحساب، والحَكَم بالحق، فإنه لا يقبل إلا دينًا واحدًا فقط، وهو الدين الذي أنزله للبشر: دين الإسلام. وفي ذلك اليوم لا يُقبل أي دين آخر غيره.

وقد شُرعت عبادة الحج منذ أن بعث الله نبيَّه ورسوله إبراهيم عليه السلام، ثم أكمل الله بها نعمته على الناس، أي أكمل بها دينه، الإسلام. ثم بُعث النبي الخاتم ﷺ ليُتمّ للناس هذه الشعيرة ويبلّغهم كمالها. فظاهر الحج أن الناس يأتون بالإبل والبقر والغنم قربانًا، لكن الحقيقة التي يبيّنها لنا مالك الملك وربّ الجزاء هي أن هذه اللحوم والدماء لا تصل إلى الله، وإنما الذي يصل إليه هو تقوى القلوب. ولهذا استُخدم مفهوم التقوى (التقوى القائمة على الخشية الصادقة من الله) في العمل الصالح، فبه يقبل الله الأعمال.

فالحج في ظاهره عبادة مفروضة وشعيرة محددة، لكنه في حقيقته اجتماع بشري عظيم، يأتي فيه الناس من كل مكان ليقدّموا قربانهم، ويقصدوا أشرف بيتٍ لله. ونحن نعلم أن كل من قُبل عمله عند الله في الدنيا، فإن له سمة مشتركة أساسية، وهي التقوى والإخلاص في العمل الصالح. وهؤلاء ينالون في الآخرة نعمة عظيمة، وهي رؤية ربهم، لأن العمل الصالح الذي يُبتغى به رضا الله له جزاء في الآخرة، ومن أعظم جزائه رؤية الله.

ولهذا فإن الحج ليس مجرد عبادة قائمة على الذكر وحده، بل هو أيضًا مظهر من مظاهر الرحمة الإلهية بالبشر؛ إذ يدرك الجميع أن التقوى هي معيار الكرامة. فلا يُفضَّل أحد في هذا المقام لغناه أو مكانته أو شهرته، بل تتعلّق القلوب كلها بنقطة واحدة: عبادة الله وذكره، وطلب قبوله للعمل الصالح. وعندئذ تزول مظاهر الانقسام، والاختلاف، والتمييز، لأن القلوب تكون مجتمعة على غاية واحدة.

وعلى النقيض من ذلك، نرى حال الذين يعبدون الملائكة أو النجوم. فعبّاد الملائكة يواجهون تعددًا؛ إذ إن الملائكة مراتب وأصناف، وقد جعل الله لكل منهم وظيفة: منهم من يتولى شؤون العالم المادي، ومنهم من يتولى شؤون الأرواح أو الغيب، وقد منحهم الله هذه المهام. فإذا عبد الناس الملائكة، فهناك ملائكة كبار وآخرون دونهم، ووظائف مختلفة؛ من يدبّر الرياح، ومن يدبّر المطر، ومن يتولى النبات أو الحيوان. فحينها يبرز السؤال: أيّهم يُعبد؟ وأيّهم يُرفض؟ فينشأ بذلك التفاوت والتمييز بين الناس.

وكذلك حال من يعبدون النجوم؛ فالنجوم في جهات متعددة: شرقية وغربية، شمالية وجنوبية، وكوكبات لا حصر لها. فمَن يُعبد منها؟ ولماذا يُقبل هذا النجم ويُرفض ذاك؟ وهكذا تنشأ الخلافات والصراعات. فحين يعبد الإنسان المخلوقات، تتفرّق القلوب ولا يمكن أن تجتمع.

أمّا حين تُعبد الإله الواحد الحق، فإن القلوب تجتمع، لأن الجميع يعبدونه ويذكرونه، فتتوحد القلوب ولا يبقى مجال للنزاع. ولهذا، لأنه وحده المستحق للعبادة، أنزل الله دين الإسلام، وباتباع هذا الدين وعبادة الله وحده، تجتمع القلوب وتتوحد في وصف التقوى. وعندها لا تُحفظ الفطرة السليمة فحسب، بل تتجلّى كذلك طهارة الروح ونقاؤها .

إن السبب الذي يؤدي إلى انحراف قلوب الناس ووقوعهم في عبادة المخلوقات، ثم نشوء النزاعات والاختلافات، هو أولًا فقدان الفطرة الإنسانية. ذلك لأن ربّ العالمين قد أخذ ميثاقًا مع أرواح البشر جميعًا، ومعنى هذا الميثاق أن يُعبد هو وحده، فهو الإله الحق الوحيد المستحق للعبادة. وقد اشترك جميع الأنبياء والرسل الذين أُرسلوا إلى البشر في دعوة واحدة، وهي أن لا يُعبد شيء من المخلوقات، وأن الله وحده هو الإله الحق، وهو الذي يُعبد، ووفق الكيفية التي شرعها هو.

وجميع الرسل جاؤوا بدين واحد، وهو دين الإسلام. وعندما بُعث النبي الخاتم ﷺ، اكتمل هذا الدين وتمّ. فمن التزم بهذا الدين التزامًا حقيقيًا، وسعى إلى لقاء الله في الآخرة، فإنه لا يمكن أن يكون صاحب نزاع أو فرقة أو تمييز بين الناس.

وعندما يفقد الإنسان هذه الفطرة، أي الإيمان بأن الله هو الخالق وحده، وهو المستحق للعبادة بلا شريك، تبدأ مظاهر الانحراف. فمن ذلك أن يكون الآباء من اليهود أو النصارى وقد وقعوا في الانحراف، فيتبعهم الأبناء تقليدًا أعمى، فيُفقدون فطرتهم منذ البداية. ومنهم من يكون قد نشأ على الدين الحق، وكانت فطرته سليمة، لكن شهواته لم تُضبط، فانقاد لإغواء الشيطان. ومع أنه تلقّى الدين من والديه، إلا أنه لم يلتزم بمنهج الأنبياء، ولم يعبد الله وفق كتابه، فتمكن منه الشيطان، وسيطرت عليه الأهواء، فغُطّيت فطرته مرة أخرى.

وعندما تُفقد الفطرة، فإن الروح (الروحانية) التي منحها الله للإنسان لا تعود تتجلّى بصفائها، لأن الله خلق الروح وهي تتطلع إلى لقاء ربها، وتتوق إلى الآخرة ورؤية الله. فإذا غاب الإيمان الحقيقي واليقين الراسخ، تفرّق القلب وتشتّت. فإذا وقع الإنسان في الشرك الصريح، ازدادت النزاعات، ولم يعد يقبل الحق. وحتى من يعلم أن الإسلام هو دين الله الحق، لكنه لا يطبّقه ولا يعمل الصالحات، فإنه أيضًا يقع في النزاع والاختلاف، لأن قلبه غير متجه بصدق إلى طلب رضا الله ولقائه في الآخرة. ومع غياب هذا السعي الصادق، تتفكك القلوب، وتظهر الخلافات، والتمييز، وعدم الرضا، وتبدأ الصراعات بين الناس.

ومع تعدد هذه الحالات النفسية، تبدأ ظاهرة الانقسام. فمنهم من فقد فطرته بدرجة أقل، فيقول: لا مفر من عبادة الله، وقد ورثت هذا الدين عن والديّ، فأتبعه طوال حياتي فقط لأدخل الجنة. فهو لم يفكر في معرفة الله من خلال مخلوقاته، ولا من خلال العالم المشهود، ولا من خلال الكتب التي أنزلها الله على أنبيائه للوصول إلى عبادته ومعرفته. فصار تصوّره عن الله محدودًا، وعبادته مشوبة بالخوف من النار والطمع في الجنة فقط، دون معرفة حقيقية بالله، وهذا بدوره يؤدي إلى نزاعات داخل الدين نفسه.

ومنهم من انحرف أكثر، فامتلأ قلبه بعالم الأرواح، فصار يعبد الله من خلال الروح، فجعل الروح مخلوقًا يُعبد، فظهر بذلك النصرانية. ومنهم من شُغل بفكرة الخلود وطول العمر، فتعلّق بـ عُزير، لأن الله أطلعه على حقيقة الموت والحياة، وعلى أن الله يميت ويحيي، ويبعث الخلق بعد فنائهم، ويخلق ثم يفني ثم يعيد الخلق، فصاروا يعبدون هذا النبي، فظهر بذلك اليهود. ومنهم من انحرف أكثر فعبد عالم الأرواح، وعبد الملائكة. ثم انحدر آخرون إلى عبادة العالم المادي، فعبدوا النجوم والكواكب.

وكل هذه المراحل هي درجات متتابعة من طمس الفطرة، حتى تزول تمامًا، فيقع الإنسان في عبادة المادة. ولهذا كثرت أقوال العلماء في تفسير الصابئين، لأن هذه الحالات كلها تظهر عندما تفقد الإنسانية فطرتها الأصلية، فتتنوع الأعراض وتختلف صور الانحراف.

فما العبرة التي ينبغي أن يستفيدها من يصف نفسه بالمستسلم لله، أو يدّعي أنه مسلم في هذا الباب؟
علينا أن نعلم أن ربّنا سبحانه شرع لنا عبادة الحج لتبلغ بنا إلى حقيقة جوهرية، إذ بها أكمل نعمته علينا. وليس الحج وحده، بل دين الإسلام كله يحمل في طياته نعمة عظيمة للإنسان، وهي أن القلوب، من خلال ذكر الله، تبلغ السكينة والطمأنينة. فعندما يُعبد الإله الواحد الحق، تتصل القلوب ولا تقع بينها اختلافات ولا نزاعات ولا مظاهر تمييز.

فلماذا إذن تظهر النزاعات؟ وكيف نفهم ذلك؟
إن ظهور هذه الظواهر يدل على غياب اليقين الراسخ بلقاء الله بعد البعث في الآخرة. فمن الناس من يتبع دين آبائه، ومنهم من دخل في الإسلام عبر سبب أو وسيلة، لكنه بقي في حالة غفلة؛ فغاية ما يريده في قلبه ألا يدخل النار، وأن يدخل الجنة فقط. فالقلب يكون مشغولًا بهذه المطالب وحدها.

ونقول: إن الجنة نفسها لها درجات، ثمانٍ، ولكل درجة منها عطايا مختلفة. فأيّ درجة من الجنة يريدها الإنسان؟ وبطبيعة الحال، عندما يكون هذا هو ما يملأ القلب، تظهر حالة التفرّق والانقسام. أمّا إذا كان الذي يملأ القلب هو الله وحده، الإله الواحد المستحق للعبادة، فإن ذكره يوحّد القلوب جميعًا، فتغدو كأنها قلب واحد متصل.

ومعنى ذلك أن الجنة ليست الغاية النهائية، بل هي سُلَّمٌ يوصل إلى لقاء الله. فإذا جعل الإنسان الجنة هدفه النهائي، فإن قلبه لن يبلغ السكينة الحقيقية بذكر الله وحده.

والآن نُلخّص:
عندما يبلغ الإنسان مرتبة حفظ الفطرة، ويصل إلى صفاء الروح، فإنه بذكره لله ونيله لهذه النعمة، لا يمكن أن يعبد عيسى عليه السلام بوصفه كائنًا روحانيًا، ولا أن يعبد عُزيرًا عليه السلام، الذي أطلعه الله على حقيقة أن الله يميت ويحيي، ويفني الخلق ثم يعيدهم. فهو لا يعبد بشرًا، ولا يعبد الملائكة، لأن روحه، في صفائها، تشبه صفاء الملائكة، فكيف يعبدهم؟

وكذلك، فإن من يسعى في هذا العالم المادي إلى الخير، وإلى الرحمة العامة، لا يمكن أن يعبد مخلوقات يُظن أنها تجلب الخير، كالكواكب، أو المال، أو السلطة، أو الشهرة، أو الجاه.

وهذا هو الدرس الذي نتعلمه عند دراسة حال الصابئين، بالاستناد إلى أقوال علماء التفسير: إنهم قوم حافظوا على الفطرة. أما من لم يحافظ عليها، فقد يقع بعض الصابئين في عبادة النجوم. وعندما يقول الله تعالى إن الصابئين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فإن المقصود هم الصابئون الحقيقيون الذين حفظوا فطرتهم ولم يُشركوا بالله شيئًا. وهذه هي العبرة التي ينبغي أن نخرج بها.

نسأل الله تعالى أن يحفظنا، ويهدينا، وينصرنا، وأن يعيننا على صيانة فطرتنا، وأن نعبده عبادةً كاملة، وألا نكون من الغافلين، وألا نُشرك به شيئًا، وأن يمنّ علينا ببشارة الدارين: لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

وبهذا نكون قد ختمنا موضوع اليوم. فإن كان في الكلام تقصير أو زلل في التعبير، فنسأل الله العلي العظيم أن يغفر لنا، ونرجو من الإخوة والأخوات المعذرة.
وجزاكم الله خيرًا، وشكرًا لحسن المتابعة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رحلتي من الصين الى الاسلام

دروس سورة الفاتحه (1) الاستعاذة بالله – درع المؤمن ضد الوسوسة والانحراف

دروس سورة الفاتحه (4) "رَبِّ الْعَالَمِينَ" — سر العوالم وشهادة الخلق بوحدانية الله