(33) سورة البقرة- النصارى في القرآن: أصل التسمية ودلالتها بين الشهادتين وبشارة عيسى بالنبي الخاتم ﷺ
المقدمة :
يتناول هذا الدرس معنى تسمية “النصارى” في القرآن الكريم من زاويتين
مترابطتين: زاوية اللفظ والدلالة، وزاوية الهداية والشهادة. فالنصارى في الاستعمال
القرآني يُقصد بهم أتباع عيسى عليه السلام، بينما يحمل اللفظ في معناه اللغوي
إشارات إلى النصرة والمعونة والتعاون. ومن هنا ينطلق الدرس لبيان أن جوهر القضية
ليس مجرد اسم تاريخي، بل معنى إيماني يرتبط بمفهوم الشهادة لله وحده، وبطبيعة
الهداية التي جاء بها عيسى عليه السلام.
ويشرح الدرس أن عيسى عليه السلام وُصف في القرآن بالروح، وأن صفاء هذا
المعنى يشير إلى طهارة الروح واستقامة النفس المطمئنة، بما يجعل صاحبها ميالًا إلى
لقاء الله وطلب رضاه. ومن هذا المنطلق تُفهم الشهادة الأولى التي أعلنها عيسى عليه
السلام منذ مولده: أن العبودية لله وحده وأن كل ما سوى الله لا يُعبد. ثم ينتقل
الدرس إلى بيان أن اكتمال الشهادة لا يقف عند هذا الحد، بل يقتضي شهادة ثانية
تتمثل في الإيمان بأن الله أتمّ نعمته على البشرية بإرسال النبي الخاتم محمد ﷺ
وإنزال الإسلام والكتاب المحفوظ الذي يبيّن الدين الكامل ويهدي الإنسان إلى سبل
الخير في الدنيا والآخرة.
كما يبرز الدرس أن عيسى عليه السلام لم يكن فقط داعيًا إلى التوحيد، بل كان مبشّرًا بالنبي الخاتم، كما ورد في سورة الصف، وأن معنى “النصرة” الحقيقي هو نقل هذه البشارة، ثم اتباع الحق عند ظهوره. ويخلص الدرس إلى أن الصدق في اتباع عيسى عليه السلام يستلزم الشهادة برسالة محمد ﷺ والسير على منهجه، لأن الهداية تكتمل بالشهادتين قولًا وعملًا، وبالالتزام بطريق الإسلام الذي جعله الله خاتمة النعمة وتمام الدين.
الإخوة والأخوات ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نحمد الله العلي العظيم حمدًا كثيرًا، ونسأل الله أن يصلي ويسلّم على
نبينا الخاتم محمد ﷺ صلاةً وسلامًا لا ينقطعان، وأن يرضى عن جميع الصحابة الكرام.
موضوع مشاركتنا اليوم هو: أصل تسمية “النصارى” وما تحمله من معانٍ ودلالات.
إن لفظ “النصارى” الوارد في القرآن الكريم يُقصد به أتباع الديانة المسيحية. ومن حيث المعنى
اللغوي، فإن كلمة “نصارى” تدل على المساعدة والنصرة والتعاون المتبادل. فكلمة نصارى تعني المعين أو الناصر، وكذلك كلمة نصارى تحمل معنى المعين، أي أن المعنى المشترك بين هذه الألفاظ هو النصرة
والمساعدة. وعندما يُطلق اللفظ على الأشخاص، يُقصد به “الأنصار” أو “المعاونون”، أما
في النصوص القرآنية فإن لفظ “النصارى” يُقصد به أتباع المسيحية.
أما عن أصل تسمية “النصارى”، فقد وردت في ذلك ثلاثة
أقوال:
القول الأول:
بعد أن بعث الله عيسى عليه السلام نبيًا ورسولًا، أصبح الإيمان به واتباعه
واجبًا على بني إسرائيل. فالذين آمنوا بعيسى عليه السلام ودينه سُمّوا “نصارى”،
وسُمّوا بذلك لأنهم كانوا يدعون إلى التعاون والتناصر فيما بينهم.
القول الثاني:
يُقال إن أصل التسمية من كلمة أنصار، وذلك عندما قال عيسى عليه
السلام لتلاميذه:
من أنصاري إلى الله؟
فقال الحواريون نحن أنصار الله وهذا المعنى مذكور في قوله تعالى في سورة
الصف، الآية 14.
القول الثالث:
يرى بعضهم أن هؤلاء القوم كانوا يسكنون في منطقة تُسمّى “ناصرة”، فنُسبوا
إليها، ومن هنا جاءت تسميتهم بـ“النصارى”.
للتعرّف على من يُسمَّون بـ “النصارى”، لا بد أولًا من التعرّف على
نبيّهم ورسولهم عيسى عليه السلام.
وقد سمّى الله تعالى عيسى عليه السلام مباشرةً في القرآن الكريم بـ “الروح”، وهذا يدل على أن شخصه الشريف
يتّصف بصفات القداسة والطهارة والنقاء من حيث البعد الروحي.
وعندما بشّر اللهُ تعالى أمَّه مريم عليها السلام، قال لها جبريل
عليه السلام إن الله يبشّرك بولدٍ زكيٍّ طاهر. وهذا يدل على أن من يكون روحًا (روحيًّا) فإن نفسه البشرية
(النَّفْس) تكون محفوظة بحفظ الله تعالى، وتبقى دائمًا في حالة النفس
المطمئنة المتوازنة.
أي أن نفسه لا تأمره بالفحشاء، ولا تدفعه إلى الظلم أو الشر، ولا تنقاد
وراء شهوات الأكل أو الجنس (الشهوات). كما أن نفسه لا تتبع رغباته الروحية الشخصية من حيث طلب إشباع الاهتمامات
الذاتية.
فعلى سبيل المثال، في الجانب العاطفي لديه ميزانٌ واضحٌ للخير والشر؛ فهو يحبّ
لله، ويُبغض لله، ويُوالي ويُعادي لله. وبوجود هذا الميزان، تكون ميوله العاطفية قائمة على الحق لا على
الهوى.
أما فيما يخصّ الميول الروحية المتعلقة بحبّ السلطة، والشهرة، والمكانة،
فإنه لا يطلب منها إلا ما كان ثوابُه أبديًّا، ولا يلتفت إلى سلطة الدنيا
أو شهرتها أو مجدها الزائل، ولا إلى المتع المؤقتة. ولهذا فإن نفسه البشرية لا
تتبع رغباته الروحية الشخصية، بل على العكس من ذلك، يضبط نفسه ويقيّدها بحق
الله تعالى.
وبسبب هذا الحفظ الإلهي، تبقى نفسه دائمًا في حالة النفس المطمئنة،
وتتحلّى بصفات الطهارة الروحية (الروحي).
ولأن الله تعالى نفخ في الإنسان من روحه، صار الإنسان قادرًا على معرفة
الله حق المعرفة وعبادته.
ومعرفة الإنسان بربه تتحقق من جهتين:
فمن جهة، وبسبب صفات الطهارة الكامنة في هذه الروح، يستطيع الإنسان أن يصل
إلى المعرفة العقلية بالله تعالى.
ومن جهة أخرى، فإن الروح التي منحها الله للإنسان تجعله قادرًا على أن
يكون خليفةً في الأرض، وفاعلًا للخير، ومن خلال السعي لنعم الدنيا والآخرة،
يصبح الإنسان مظهرًا لصفات الله الحسنى، ودليلًا عليها.
فالإنسان نفسه يمكنه أن يشهد بأن الله تعالى يمتلك الصفات الكاملة
الجميلة، وأنه لا شريك له.
أي عندما يمتلك الإنسان صفات الطهارة الروحية، فإنه بذاته يصدر عنه شهودٌ
وتوحيد، يشهد بأن كل ما سوى الله ليس بإله ولا يُعبد، وأن الله وحده هو
المستحق للعبادة.
وهذه الشهادة يمكن أن تصدر من كل من امتلك هذه الصفات الروحية الطاهرة.
ولهذا فإن عيسى عليه السلام، منذ لحظة ولادته، استطاع أن يُعلن هذه
الشهادة. فقد ورد في سورة مريم أنه عندما أشارت إليه أمه، تكلّم وقال
لقومها:
﴿إني عبدُ الله﴾.
وبهذا كان عيسى عليه السلام يشهد لصفة عظيمة من صفات الله تعالى، وهي أنه الإله
الحق،
إن الله تعالى لا يملك صفة واحدة فقط، وهي صفة القداسة واستحقاق العبادة
وكونه الإله الحق، بل يملك كذلك صفاتٍ أخرى، مثل كونه البرّ الرحيم، وكونه العليم
الحكيم، وكونه القويّ القدير. وجميع هذه الصفات الإلهية هي أيضًا صفات لا شريك له فيها ولا مثيل.
وأما كيفية صدور الشهادة من الإنسان، فلا بد لها من مسار عبادي؛ أي أن
يقبل الإنسان وحي الله تعالى وهدايته للبشر، فيسير وفقها ويعمل الصالحات. وعندما
يسعى الإنسان إلى خير الدنيا والآخرة، يكتشف أن الله تعالى يمنحه الأخلاق الحسنة،
ويمنحه قدرًا من الحكمة والمعرفة الرشيدة، ويجعل أفعاله قائمة على القدرة والقوة.
وفي هذه الحالة، عندما يعبد الإنسان ربَّه ويسأله الخير، فإنه يشهد حقًّا
بأن الله تعالى مالك للصفات الكاملة الجميلة، ويصفه بأسمائه الحسنى. وهذه الشهادة
تصدر من الإنسان لأنه في حالة عبادةٍ حقيقية، فلا ينسب إلى الله تعالى أي صفة من
صفات البشر، ولا يُشرك معه أي كمال إنساني، بل يُنزّه الله تنزيهًا مطلقًا، ويُقرّ
بأن أسمائه وصفاته متعالية، فريدة، لا تقبل الشريك ولا المماثلة.
إن عيسى عليه السلام بعد أن وُلد وأعلن الشهادة الأولى، كان عليه أن يُتمّ
الشهادة الثانية.
فكيف تُستكمَل الشهادة الثانية؟
لقد أرسل الله تعالى النبي الخاتم ليُتمّ على البشرية جميع النِّعَم. وما
هي هذه النِّعَم؟ إنها الرحمة للعالمين، وإكمال الدين الذي أنزله الله للبشر، وهو الإسلام. كما أرسل اللهُ النبيَّ الخاتم بكتابٍ محفوظ يكون مهيمنًا وشاهدًا على
جميع الكتب السماوية التي أُنزلت قبلَه.
وعندما يبلغ الإنسان، كما بلغ عيسى عليه السلام، حالة الصفاء الروحي التي
يمكن أن تُسمّى الروح الطاهرة (روحي)، فإنه لا يكتفي بإعلان الشهادة الأولى فقط،
وهي:
لا إله إلا الله، وأن الله وحده هو المستحق للعبادة،
بل لا بد أن يُعلن كذلك الشهادة الثانية، وهي:
أن الله تعالى هو ربّ العالمين، الرحمن الرحيم، صاحب الصفات الكاملة
المتعددة، وأن رحمته نفسها شهادة قائمة يجب على الإنسان أن يشهد بها.
وكيف يشهد الإنسان بهذه الشهادة الثانية؟
يشهد بها من خلال عبادته لله، وقبوله للدين الذي أنزله الله للبشر، وهو الإسلام،
فلا يُعبد الله إلا بما شرعه هو لعباده. وعندئذٍ، فإن كل عمل صالح يقوم به الإنسان
طلبًا للخير يكون مقبولًا عند الله تعالى.
ولهذا، فإن عيسى عليه السلام، عندما وُصف بأنه روح، كان ذلك نعمة عظيمة
على البشرية، وجعله الله مبشِّرًا، وكانت هذه البشارة هي شهادته الثانية:
أن الله تعالى سيبعث النبيَّ الخاتم، رحمةً للعالمين، ليُكمِل به نعمة
الإسلام، وليجعل كل عمل صالح يقوم به الإنسان، سواء كان سهلًا أو شاقًّا، دنيويًا
أو تعبديًا، إنسانيًا أو في سبيل الله، مقبولًا عنده متى ما كان ضمن عبادة الله
بالإسلام.
وعندما يُكثر الإنسان من العمل الصالح على هذا الأساس، تتوالى عليه
البركات، ويصبح هو نفسه مظهرًا من مظاهر صفات الله تعالى الحسنى، ودليلًا على
رحمته الشاملة وكمال إحسانه للعالمين.
ومن هنا يتبيّن أن الاكتفاء بالشهادة الأولى وحدها لا يكفي، بل لا بد من
الشهادة الثانية، وهي الشهادة بأن الله تعالى قد أكمل دينه بالإسلام، وبعث رسوله محمدًا
ﷺ.
وفي هذا السياق، نقرأ في سورة الصف، الآية السادسة قول الله تعالى:
﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ
إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ
التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾.
وأحمد هو أحد أسماء النبي محمد ﷺ.
ومن هذه الآية يتضح أن عيسى عليه السلام لم يكتفِ بأن يشهد بنفسه ببعثة
النبي الخاتم محمد ﷺ، بل كان يُعلّم قومه من بني إسرائيل أن يُعلنوا هذه الشهادة
كذلك.
وبذلك نصل إلى خلاصة مفادها أن عيسى عليه السلام وُلد وهو يحمل الشهادة
الأولى:
لا إله إلا الله،
وكانت رسالته في دعوته لقومه أن يُكمِلوا الشهادة الثانية، وهي الإيمان
ببعثة النبي الخاتم، والاستعداد لنصرته ومساندته.
وكان عيسى عليه السلام نفسه قدوةً في النصرة والمعونة، وداعيًا إلى نصرة
النبي الخاتم. ومعنى ذلك أن مهمة عيسى عليه السلام قبل رفعه إلى السماء كانت قائمة
على الشهادة ببعثة النبي الخاتم، وتوجيه قومه إلى الإيمان به، والبشارة به،
والدعوة إلى معاونته ونصرته.
وقبل أن يرفعه الله تعالى إليه، كان عيسى عليه السلام يُعلن هذه الرسالة
ويُبشّر بها، ويحثّ أتباعه على حملها ونشرها، لتكون مهمتهم نصرة النبي الخاتم
والتبشير به، حتى تكتمل بذلك الشهادتان.
وعليه، فإن الله تعالى في سورة الصف جعل عيسى عليه السلام يُعلن الشهادة
ويبشّر بمجيء رسول يُدعى أحمد. وفي الآية الأخيرة من هذه السورة، قال عيسى عليه السلام لتلاميذه:
مَن
أنصاري إلى الله؟
فقال الحواريون : نحن أنصار الله
فما معنى معاونتهم لله؟
معناه أن يُعاونوه على إعلان الشهادة، وأن يكونوا، مثله، على حالة من
الطهارة الروحية والقداسة، فيشهدوا:
أن كل ما سوى الله ليس بإله، وأن الله وحده هو المستحق للعبادة،
وأن يُعلنوا كذلك الشهادة الثانية، وهي الشهادة بأن الله تعالى سيبعث
رسولًا يُدعى أحمد.
وكان عليهم أن يواصلوا نقل هذه الشهادة والبشارة من جيل إلى جيل، لأن
البشارة لا بد أن تستمر، ولا يتحقق نصر عيسى عليه السلام إلا باستمرار تبليغ هذه
البشارة، حتى إذا بُعث النبي الخاتم، وجب عليهم اتباعه فورًا، فحينها فقط يكونون
قد نصروا نبيهم عيسى عليه السلام نصرًا حقيقيًا.
ومن هنا، فإن عيسى عليه السلام في ذاته يُعدّ ناصرًا ومُعينًا للنبي
الخاتم قبل بعثته. وعندما ينزل عيسى عليه السلام مرةً أخرى إلى الأرض قبل قيام
الساعة، فإنه سيكون تابعًا للكتاب الذي تركه النبي محمد ﷺ، وسائرًا على طريقه،
ويُتمّ الشهادة الكاملة بأن محمدًا ﷺ هو النبي الخاتم، وهو آية من آيات رحمة الله
للعالمين.
وعند نزوله، يسير عيسى عليه السلام على منهج نبينا محمد ﷺ، ويدعو الناس
إلى إعلان الشهادة، وبما أنه قد مُنح الروح الطاهرة (روحي)، فإنه يكون آيةً من
آيات الله للبشرية. وبهذا يكون قد أكمل بالفعل الشهادة التي هي من أعظم النِّعم التي منحها
الله للإنسان.
أما الشهادة الأولى فهي:
أن كل ما سوى الله ليس بإله، وأن الله وحده هو الحق المستحق للعبادة،
أي أن جميع المخلوقات هي آيات ودلائل على الله وليست معبودات، وأن ذات
الله تعالى أزلية أبدية، لا شريك له فيها، ولا يشبهه شيء من خلقه.
إن الله تعالى لا يملك فقط صفة استحقاق العبادة، بل يملك كذلك عددًا لا
يُحصى من الصفات الكاملة والأسماء الحسنى، وهي صفات متعالية لا شريك له فيها ولا
مثيل. ومن خلال عبادة الله وسعي الإنسان لطلب النِّعم، يدرك الإنسان أنه في حالة شهادةٍ
مستمرة؛ إذ إنه أثناء نيله للنِّعم وممارسته للأعمال الصالحة، يكتشف صفات الله تعالى
وكمالاته، ويشهد أنه البرّ الرحيم، صاحب الصفات التي لا تقبل الشريك.
وعندما يبلغ الإنسان المعرفة الثانية بالله، أي لا يقتصر على معرفة ذات
الله فحسب، بل يتعرّف أيضًا على أسمائه وصفاته الحسنى، فإن هذه المعرفة تثمر
يقينًا خاصًّا:
فمن عرف ذات الله، أيقن بأن لقاء الله حق،
ومن عرف صفات الله وأسماءه الحسنى التي لا شريك له فيها، أيقن بأن رؤية
الله بعد البعث حق.
وهذا هو ما تطلبه الروح (الروحي) بطبيعتها؛ فهي تطلب لقاء ربها، وتتوق إلى
رؤيته.
وكان عيسى عليه السلام في ذاته ناصرًا ومُعينًا للنبي الخاتم.
ونحن نعلم أن الله تعالى رفع عيسى عليه السلام ونجّاه عندما أراد قومه
قتله. وقبل رفعه، عاش عيسى عليه السلام حياةً خالية من الزواج والذرية، ولم يكن له
ارتباط أسري سوى بأمّه. وكانت أمّه مريم عليها السلام امرأةً عفيفةً طاهرة، لم
تتزوّج كذلك. فكان كلاهما في حالة تجرّدٍ تامٍّ لله، منصرفَين عن التعلّق بالدنيا
وزينتها، ولا يحملان في قلبيهما تعلّقًا عاطفيًا بالمخلوقات.
وبهذه الحال تحقّق في عيسى عليه السلام كمال الشهادة الأولى:
أن كل ما سوى الله ليس بإله، وأن الله وحده هو المستحق للعبادة.
أي إنه تخلّى عن التعلّق بكل المخلوقات، ولم يبق في قلبه تعلّق أو اعتماد
على شيء من الدنيا، فصار بذلك آيةً على أن كل شيء فانٍ، وأن الله وحده هو الباقي
الأزلي الأبدي. وفي هذا المعنى كانت الروح (الروحي) نفسها آية، لأن طبيعتها تسعى إلى نعمة
لقاء الله.
أما عند نزول عيسى عليه السلام آخر الزمان، فإنه سيسير على منهج النبي
محمد ﷺ، وسيتزوّج ويكون له أولاد، وتكون له علاقات إنسانية واجتماعية متعدّدة. وفي
هذه المرحلة، وبسبب استمراره في ذكر الله، وبعد إتمامه للشهادة الأولى، يُكمِل الشهادة
الثانية باتباع طريق محمد ﷺ.
وعندئذٍ، وهو يتعامل مع عالم الخلق، ومن خلال الزواج، والقرابة، وسائر
العلاقات الإنسانية، يسعى إلى نيل النِّعم. أي إن المخلوقات نفسها تصبح آياتٍ
ودلائل على الله، ووسائل جعلها الله للإنسان لطلب الخير ونيل النعمة. وفي سعيه
للخير ونيله له، يُكثر من الحمد والثناء على الله، ويشهد أنه وحده المستحق
للعبادة، وأنه صاحب الصفات الكاملة.
وبطلب الخير يصبح الإنسان نفسه مظهرًا من مظاهر صفات الله الحسنى، ودليلًا
على إحسانه ورحمته. وبهذا يكون عيسى عليه السلام قد أتمّ نصرة طريق محمد ﷺ نصرةً
كاملة.
وفي زمن نزوله، تجتمع الأديان على شهادة واحدة، ويتّبع الجميع عيسى عليه
السلام وهو يقودهم إلى الشهادة بأن:
محمدًا ﷺ هو رسول الله والنبي الخاتم.
وذلك لأن النبي الخاتم ﷺ هو الذي أكمل الله به النعمة على البشرية بإنزال
دين الإسلام، وعلّم الإنسان كيف يعيش في المجتمع الإنساني وعالم الخلق، وكيف يسعى
للخير، ويطلب رضا الله، ويعمل صالحًا طلبًا للقاء الله.
ولهذا سُمّي عيسى عليه السلام روحًا ,لأن للروح صفة أساسية، وهي أنها لا
تطلب النعمة فحسب ولا تكتفي بطلب لقاء الله، بل تطلب نعمةً أعظم، وهي:
الحياة الأبدية بعد البعث، ثم رؤية الله.
وكيف تتحقق رؤية الله؟
لا تتحقق إلا بالعمل الصالح في الدنيا، حيث تصبح جميع المخلوقات وسائل
لطلب الخير، والسعي لرضا الله، والعمل الصالح شوقًا إلى لقائه. وهنا يشهد الإنسان
بأن الله تعالى قد بعث نبيًا جامعًا كاملًا، علّم البشرية كيف يمكن للإنسان، في
حياة قصيرة زائلة، أن يقوم بأعمال صالحة كثيرة ومتنوعة، سواء كانت إنسانية، أو
تعبّدية، أو شخصية، في السراء والضراء، في اليسر والعسر، حتى تتحوّل هذه الأعمال
إلى قرابين تُقدَّم يوم لقاء الله.
ولهذا فإن عيسى عليه السلام، بوصفه روحًا تطلب لقاء الله، لا بد أن يشهد
بأن محمدًا ﷺ هو رسول الله، وأن يتّبع طريقه. وكل من يتّبعه يكون معه في هذه
الشهادة.
وعند نزوله، تكون شهادة عيسى عليه السلام عمليةً وسلوكية، تظهر في جميع
جوانب حياته. وكيف يكون ذلك؟
بـ اتباع طريق النبي محمد ﷺ في تفاصيل الحياة اليومية، واكتساب الخير في
كل شأن من شؤونها. وعندئذٍ لا يكون عيسى عليه السلام راهبًا ولا ناسكًا منعزلًا،
بل عبدًا صالحًا يعيش في المجتمع.
ولهذا سمّى الله تعالى في كتابه من اتّبع عيسى عليه السلام حقًّا بـ “النصارى”، وسمّى من نصره وأعانه بـ “الأنصار”.
أما من زعم أنه يتّبع عيسى عليه السلام، لكنه لا يشهد بأن محمدًا ﷺ رسول
الله، ولا يسير في سلوكه على طريقه، ثم يدّعي أنه من أتباع عيسى عليه السلام، فهو كاذب
في دعواه؛ لأن عيسى عليه السلام نفسه كان محتاجًا إلى الشهادة، وإلى الشهادة
العملية بالسلوك والعمل.
خلاصة الموضوع وختام الدرس
وبهذا نصل إلى خلاصة موضوعنا.
إن ربَّنا سبحانه وتعالى أرسل عيسى عليه السلام وقد منحه مباشرةً روحًا
طاهرة (روحي)، ومن كان يحمل هذه الصفة الروحية الطاهرة فإن نفسه تطلب بالضرورة لقاء
الرب.
ومعنى ذلك أن يشهد بأن ذات الله وحدها هي الباقية، وأن كل ما سواها فانٍ
وزائل. كما أن من امتلك صفات الروح الطاهرة لا يكتفي بالشهادة بالذات الإلهية، بل
يطلب كذلك رؤية الله.
فالروح، بعد أن تعبد ربها، تُمنَح نعمة الحياة الأبدية بعد البعث، ثم تطلب
نعمةً أعظم، وهي رؤية الله.
وكيف تتحقق رؤية الله؟
تتحقق بمعرفة أن الله تعالى صاحب الصفات الحسنى والكمال المطلق، وأنه وحده
المستحق للعبادة، وأن صفاته وكمالاته لا تقبل الشريك. وعندئذٍ يصبح الإنسان نفسه آيةً من آيات الله.
فالإنسان، أثناء سعيه إلى فعل الخير وممارسته للأعمال الصالحة، يدرك أنه لا
يستطيع تحصيل هذا الخير بنفسه لولا أن الله منحه القدرة والتوفيق. ولأن الإنسان
خُلق ليكون آيةً لله، فإنه يطلب لقاء ربه، ولا يمكن له أن يلقاه إلا بعبادةٍ
كاملةٍ خالصة.
وقد يعمل الإنسان الصالحات طلبًا لنِعم الدنيا، غير أن الله تعالى هو الرحمن
الرحيم، ورحمته العامة والخاصة أزلية أبدية، ولذلك فإن المطلوب هو السعي إلى الخير
الأبدي وثواب الآخرة. والله لا يظلم خلقه، بل أرسل لهم آيةً من آيات رحمته للعالمين، وهو النبي
الخاتم، وأنزل عليه كتابًا محفوظًا، بيّن فيه الدين الحق، والشريعة الكاملة، وعلّم
الناس كيف يطبقون الدين تطبيقًا كاملًا، وكيف يؤدّون مختلف أنواع العبادات
الإنسانية والشرعية، وكيف يتعاملون مع الابتلاءات من خير وشر في أقدارهم طلبًا
للأجر.
وكان هذا النبي الخاتم نبيًّا جامعًا كاملًا، هبةً من الله للبشرية،
يُرشدهم إلى كيفية العمل الصالح على نحوٍ شامل، والتعامل مع عالم الخلق، وطلب خيري
الدنيا والآخرة. وفي هذا السعي، تكتسب الروح الطاهرة الخير، فتصبح هذه الأعمال
الصالحة سُلَّمًا للقرب من الله، وقربانًا يُهدى عند لقائه، مع الشهادة بأن صفات
الله الحسنى لا شريك له فيها.
وكانت هداية عيسى عليه السلام وهداية نبينا محمد ﷺ مختلفتين من حيث
التفصيل مع اتحاد الغاية.
فهداية عيسى عليه السلام تمثّلت في دعوة الناس إلى إعلان الشهادتين
العظيمتين:
الأولى: أن لا معبود بحق إلا الله، ولذلك قال منذ ولادته: إني عبدُ الله.
والثانية: أن محمدًا ﷺ رسول الله، وقد بشّر به قبل رفعه، ثم عند نزوله في
آخر الزمان يُثبت ذلك عمليًا في حياته باتباع طريق محمد ﷺ.
وكل من اعترف بعيسى عليه السلام حقًّا واتّبعه، لا بد أن يُشاركَه في هذه
الشهادة؛ لأن شهادة عيسى عليه السلام هي في حقيقتها نصرةٌ ومعونةٌ للنبي محمد ﷺ.
أما مهمة النبي محمد ﷺ فهي أن يدعو الناس جميعًا إلى الشهادة بأنه النبي
الخاتم، وأن يشهدوا بكمال منزلته ومقامه. وقد بلغ عيسى عليه السلام من مقام
الإحسان مبلغًا عظيمًا، وهو معنى: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. فكان يعلّم الناس الشهادتين، ويشهد هو بنفسه، ويقود غيره للشهادة.
وكان النبي محمد ﷺ هو المشهود له، المشهود بنبوته وختم رسالته. ولهذا، عند
معراجه، شهد له الأنبياء جميعًا:
في السماء الأولى آدم عليه السلام،
وفي الثانية يحيى وعيسى عليهما السلام،
وفي الثالثة يوسف عليه السلام،
وفي الرابعة إدريس عليه السلام،
وفي الخامسة هارون عليه السلام،
وفي السادسة موسى عليه السلام،
وفي السابعة إبراهيم عليه السلام، أبو الأنبياء.
فجميعهم شهدوا بأنه النبي الخاتم، وهذا من خصائص مقامه الشريف.
ثم في حجّة الوداع، شهد النبي ﷺ أمام الصحابة أنه قد بلّغ الرسالة، وكرر
قوله ثلاث مرات:
اللهم
اشهد
فعند ذلك أنزل الله تعالى قوله في سورة المائدة، الآية الثالثة:
﴿اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام
دينًا﴾.
فشهد الله تعالى أن النبي الخاتم ﷺ قد أدّى الأمانة وأكمل الرسالة.
فالحمد لله رب العالمين.
وبذلك، فإن كل من بلغ حالة النفس المطمئنة، ونال نعمة الروح الطاهرة ونطق
بالشهادتين، وشهد في الدنيا أن محمدًا ﷺ قد أتمّ رسالته، وكان من أنصاره وسالكي
طريقه في الدنيا، فإنه في الآخرة يكون من أتباعه، ويُشرّف بالسير معه إلى لقاء
الله.
وبهذا نختم حديثنا اليوم.
وهذا يبيّن سبب تسمية الله تعالى في كتابه المحفوظ لمن اتبع عيسى عليه
السلام حقًّا بـ النصارى ، ولمن نصره وأعانه بـ الأنصار وقد حاولنا في هذا
الدرس إيضاح هذا المعنى وبيان حكمته.
وإن كان في الشرح تقصير أو خطأ في التعبير، فنسأل الله العفو والمغفرة،
ونرجو من الإخوة والأخوات المعذرة.
وجزاكم الله خيرًا على حسن الاستماع والمشاركة.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تعليقات
إرسال تعليق