(32) سورة البقرة - أصل تسمية اليهود في القران: دلالاتها اللغويّة والإيمانية

  سورة البقرة - أصل تسمية “اليهود” في القرآن: دلالاتها اللغوية والإيمانيّة


المقدمة : 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى جميع أنبياء الله الذين اصطفاهم لهداية البشر. أما بعد؛ فإنّ من أعظم أبواب فهم القرآن الكريم تدبّر الأسماء التي يطلقها الله على الأمم والفرق، لأنها تحمل في طيّاتها معاني دقيقة تكشف حقيقة حال تلك الأقوام، وتُظهر الحكمة الربانية في اختيار هذه الأسماء.


ومن أبرز تلك الأسماء تسمية “اليهود” التي وردت في القرآن بصيغ متعددة، مثل: اليهود، والذين هادوا. وقد اختلف العلماء في أصل هذه التسمية، فبيّن بعضهم أنها تعود إلى يهوذا الابن الأكبر ليعقوب عليه السلام، وذهب آخرون إلى أنها مشتقة من الهَوْد بمعنى المودّة واللين أو التَّهَوُّد بمعنى التوبة، بينما رأى فريق ثالث أنها من الاهتزاز أثناء تلاوة التوراة دلالةً على الخشوع والتدبّر. وهذه الأصول المتعددة ليست متعارضة، بل تكشف لنا عمق العلاقة بين الاسم وبين صفات قديمة كانت في أسلاف بني إسرائيل.


وإنّ تأمل هذه التسمية في ضوء آيات القرآن يرشدنا إلى حقيقة مهمة؛ وهي أن الله تعالى أراد من خلال هذا الاسم تذكيرهم بما كان عليه آباؤهم من التوحيد، والتوبة، والعمل بالكتاب، والشهادة لنبوّة إسماعيل عليه السلام، وانتظار النبي الخاتم الذي بُشّروا به في التوراة والإنجيل. فليس الاسم مجرد لقب تاريخي، بل معنى إيماني له جذوره في السلوك والاعتقاد، يعلو بصاحبه إذا التزم بالحق، ويسقط عنه أثره إذا انحرف وكابر.


ومن خلال هذا الدرس نحاول الكشف عن هذه الأبعاد الثلاثة لأصل اسم “اليهود”، لنفهم الحكمة الربانية، ونعرف كيف ربط القرآن بين الاسم وصفات الهداية أو الانحراف، حتى يكون في ذلك عبرة لنا في تدبر كتاب الله، والاتّباع الصحيح لطريق الأنبياء.



السلام عليكم ..  الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وسلم) عددَ ما لا يُحصى، ورضي الله عن جميع صحابته.


موضوعنا اليوم هو: معرفة أصل تسمية “اليهود” ومعناها العميق. في القرآن الكريم سمّى الله اليهودَ بـ اليَهُود (اليَهُودَ)، وسمّى أهل اليهودية بـ الهادوا، وهما تعبيران يحملان معنى “اليهود”. وفهم أصل هذا الاسم مهم جداً، لأن الله تعالى سمّى جزءاً من أهل الكتاب بهذين الاسمين ليكون في ذلك شهادة على صدق خاتم الأنبياء. لذلك نحتاج لشرح هذا الاسم من خلال ثلاثة معانٍ مرتبطة بأصل التسمية.


نبدأ أوّلاً بتحليل أقوال علماء التفسير حول أصل هذا الاسم:

1. الرأي الأول:

يعود الاسم إلى يهوذا (Yahuda)، وهو الابن الأكبر للنبي يعقوب (عليه السلام). فبين اليهود وبين الابن الأكبر ليعقوب صلة نسب مباشرة، ولذلك سُمّي المتنسّبون إليه بـ “يهوذا”.

2. الرأي الثاني:

يرى بعض العلماء أنّ أصل الكلمة يحمل معنى المودة والمحبة، لأنها مشتقة من الهَوَدة، أي اللين والميل. ثم تُشتق أيضاً من التَّهَوُّد بمعنى التوبة، لأن موسى (عليه السلام) تاب إلى ربه كما في قوله تعالى في سورة الأعراف (156):

“إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ” أي تبنا.

بناءً على ذلك، فاسم “اليهود” يحمل معنى المودة والتوبة إلى الله.

3. الرأي الثالث:

يقول فريق آخر إن التسمية جاءت من الحركة والاهتزاز أثناء تلاوة التوراة، لأن كلمة “يهود” تحمل معنى الاهتزاز أو التأرجح، ولذلك أطلق الله عليهم هذا الاسم.


هذه هي الثلاثة التفسيرات لأصل اسم “اليهود”. والآن ننتقل إلى بيان الحكمة الربانية من هذه التسمية، وهي أن الله أراد أن يدلّهم بهذا الاسم على وجوب الإيمان بخاتم الأنبياء الذي أرسله رحمة للعالمين، وأن يقرأوا هذا المعنى من خلال أصل تسميتهم.


نبدأ أولاً بالرأي القائل بأن التسمية مرتبطة بيهوذا ابن النبي يعقوب (عليهما السلام).

وكما نعلم، فإن النبي يعقوب (عليه السلام) له لقب آخر هو إسرائيل، ولذلك يُسمّى أبناؤه بني إسرائيل أي ذرية إسرائيل. وكان له عدة أبناء، ومن بينهم يوسف (عليه السلام).


وهنا نحتاج إلى دراسة وصيّة يعقوب (عليه السلام) لأبنائه في سورة البقرة، الآيتين 132–133، حيث يقول تعالى:


{وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ لَكُمُ ٱلدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ ٱلْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنۢ بَعْدِى قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ ءَابَآئِكَ إِبْرَٰهِيمَ وَإِسْمَٰعِيلَ وَإِسْحَٰقَ إِلَٰهًا وَٰحِدًا وَنَحْنُ لَهُۥ مُسْلِمُونَ (133)}

من خلال الآيات يمكننا أن نتعلم بوضوح أن النبي يعقوب (عليه السلام)، قبل وفاته، أوصى أبناءه ألا يموتوا إلا وهم متمسكون بالدين الذي اختاره الله لهم، أي دين الإسلام، وأن يكونوا ممن يخضعون لله ويُسلمون له حقًّا قبل مغادرة الدنيا. كما طلب منهم أن يُعلنوا شهادة واضحة، فسألهم: ماذا ستعبدون من بعدي؟

فأجابوه جميعاً: سنعبد إلهك، وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، إلهاً واحداً، ونحن له مسلمون.


وهنا نلاحظ أنهم ذكروا إسماعيل (عليه السلام) بالاسم، في حين أن بني إسرائيل الذين انحرفوا فيما بعد — أي اليهود (Yahud) — أنكروه، رغم أنه نبي مرسل من عند الله. وقد أنزل الله تعالى القرآن ليقيم الحجة بأن أبناء يعقوب كانوا يشهدون بأن إسماعيل (عليه السلام) نبي مصطفى من الله، مما يدلّ على أن اللاحقين الذين انحرفوا إنما كتموا هذه الحقيقة وأنكروها.


إن الحق هو حق الله، وهو الذي أنزل كتبه لتكون بياناً للناس، وليعلموا أن آباءهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب — وكذلك أبناء يعقوب — كانوا جميعاً يعترفون بإسماعيل (عليه السلام) ويشهدون بنبوّته. ومن هنا نفهم أن يعقوب (عليه السلام) وابنه الأكبر يهوذا (Yahud) كانوا من الشاهدين الموحدين، بينما الذين جاؤوا بعدهم وانحرفوا من أهل الكتاب لم يلتزموا بما تركه لهم آباؤهم من الدين، ولم يكونوا في الحقيقة من المسلمين لله كما كان أسلافهم.


ولذلك فإن ذكرَ اسم Yahud في القرآن — بصيغتي “اليهود” و “الهادوا” — هو تذكير لهم بأن أباهم يهوذا كان خاضعاً لله، مسلماً له، ولم ينكر إسماعيل (عليه السلام)، بل كان شاهداً بنبوّته، وكذلك إخوته وآباؤهم إبراهيم وإسحاق. ففي الآيات ما يدلهم على أن الحق قائم، وأن بيت الله الحرام — الذي كان إسماعيل (عليه السلام) عنده — هو مهبط النبوة والهدى.


وبالتالي، فالأسماء التي سمّاهم الله بها تحمل حكمة دقيقة، وليست ظلماً، بل دعوة للرجوع إلى الصراط المستقيم الذي كان عليه آباؤهم. ومن خلال هذه الآيات نستطيع أن نستنتج أن ذرية إسرائيل (يعقوب)، ومنهم ذرية الابن الأكبر يهوذا، كان فيهم من بقي على الهدى، مثل زمن موسى (عليه السلام) وزمن داود (عليه السلام)، وكانوا يعلمون أن إسماعيل (عليه السلام) هو ابن إبراهيم الأكبر، وهو نبي رسول، وله ذرية في جزيرة العرب عند بيت الله الحرام. ولهذا لم يكونوا ينكرون هذه الحقيقة، بل كانت معروفة ومتوارثة في ذلك الزمن.


والآن ننتقل إلى المعنى الثاني المرتبط بكلمة “يهود”، وهو أنها مشتقة من التحوّد بمعنى المودة، ومن التّهَوُّد بمعنى التوبة. وهذا يحمل دلالة على أن تسمية الله لهم بـ اليهود تتضمن توجيهاً لهم نحو العودة إلى طريق الحق.


ولفهم ذلك، علينا أن نتأمل في سيرة موسى (عليه السلام). فمن خلال تلاوة القرآن نجد أنه كان كثير التضرع والتوبة. فعندما قتل رجلاً بغير حق — لأنه لم يكن وفق معيار الله في الحكم — بادر مباشرة إلى طلب المغفرة، فغفر الله له سريعاً.

ثم نقرأ أنه دعا بالمغفرة لأخيه، كما في قوله تعالى في سورة الأعراف (151):

﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾.


وفي الآية (156) من السورة نفسها نقرأ أنه استغفر لقومه قائلاً:

﴿أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ﴾.


وفي سورة الأعراف أيضاً نقرأ قصته عندما طلب رؤية ربه، وحين تجلى الله للجبل فجعله دكًّا وخرَّ موسى صعقاً، فلما أفاق سبّح الله وتنزّه له، ثم بادر إلى التوبة والاستغفار.

وكذلك حين أنجاه الله وقومه من فرعون، ثم وقع بعض قومه في عبادة العجل، دعا لهم موسى واستغفر لهم، وأمرهم بالتوبة كما جاء في قوله تعالى في سورة البقرة (54):

عندئذٍ قال موسى لقومه:

«يا قومِ، إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل إلهاً، فارجعوا إلى خالقكم تائبين، واقتلوا أنفسكم، ذلكم خيرٌ لكم عند بارئكم»،

فغفر الله لهم، إنه هو التواب الرحيم.


ويمكننا أيضاً أن نتعلم من الآيات التالية، في سورة الأعراف (155–156):

«أنت ولينا، فاغفر لنا وارحمنا، وأنت خير الغافرين. واكتب لنا في هذه الدنيا حسنةً وفي الآخرة، إنا هدنا إليك».

وقد تاب قوم موسى وندموا أيضاً.


وفي الآية (149) من سورة الأعراف نتعلم:

«ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلّوا قالوا: لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين».


وفي ذلك الوقت قبل اللهُ توبتهم الصادقة وغفر لهم، وأمر أن يجلس الذين عبدوا العجل، وأن يقف الذين لم يعبدوه، ثم يقتل بعضهم بعضاً في ظلمة شديدة، حتى مات سبعون ألفاً منهم في تلك الواقعة، فتاب الله عليهم وقَبِلَ توبتهم.

ومعنى ذلك أنه بعد دعاء موسى (عليه السلام) وقومه: «اكتب لنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة إنا هدنا إليك»، أجاب رب العالمين بقوله:

«عذابي أصيب به من أشاء، ورحمتي وسعت كل شيء، فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون. الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحلّ لهم الطيبات ويحرّم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، فالذين آمنوا به وعزّروه ونصروه واتبعوا النور الذي أُنزِل معه أولئك هم المفلحون».


هذه هي الاستجابة الإلهية التي تلقّاها قوم موسى (عليه السلام) حين قَبِل الله توبتهم.

ومعنى ذلك أنّ الذين استحقوا وصف اليهود (Alyahud) بمعناه الصحيح هم التائبون الصادقون، الذين يشهدون بصدق الرسالات ويُقِرّون بالحق الذي أنزله الله، ويؤمنون بالرسول الخاتم الموصوف في كتبهم، فهم المعترفون العارفون، بينما الذين جاؤوا بعدهم ولم يشهدوا للرسول الخاتم كانوا كذلك لأنهم لم يلتزموا التزاماً صحيحاً بمنهج الأنبياء ولا بسُنَن أسلافهم الصالحين.


وقد أوضح الله في هذه الآيات أن من شروط هذا الطريق إيتاء الزكاة.

ومِن هنا نفهم سبب امتناع الذين كانوا في زمن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) — من الذين سُمّوا بـ اليهود (Alyahud) — عن الشهادة بالنبي الخاتم:

لأنهم كانوا يأكلون الربا أكلًا شديداً ويُعاملون الناس بالربا الفاحش.

فمن لم يتب من الربا، ولم يزكِّ ماله، ولم يُظهر الرحمة والمودة، ولم يُقم علاقة العطاء والابتعاد عن الظلم — لم يكن مستحقاً لصفات Alyahud التي تحمل معنى المحبة، والتوبة، والعودة إلى الحق.


ولهذا، من لم يتصف بصفات التوبة، وترك الربا، وإيتاء الزكاة، وطلب المغفرة — فقد ضَيَّع الصفات الجميلة الكامنة في اسم Alyahud، وبالتالي لا يستطيع أن يشهد للنبي الخاتم، لأن الشهوات والميول النفسية تَصدّه عن اتباع الحق.

وعندما نربط بين لفظ “اليهود” ومعنى الاهتزاز أو التمايل — وهو ما ذكره علماء التفسير بأن سببه اهتزازهم أثناء قراءة التوراة — يمكننا من خلال هذا المعنى أن نستنبط دلالات عميقة. فنحن نعلم أن التوراة نزلت على موسى (عليه السلام)، وكانت تحتوي على كثير من أحكام الشريعة الإلهية: الحلال والحرام، وموازين الخير والشر. وقد ذُكِرَ سابقاً في سورة الأعراف ما تضمّنته البشارة بالنبي الخاتم محمد (صلى الله عليه وسلم) من صفات عظيمة، وكيف يأمر الناس بالخير، وينهاهم عن الشر، ويحلّ لهم الطيبات، ويخفّف عنهم الأغلال والقيود.


وإن القارئ الحقيقي للتوراة، المتدبر لمعانيها، يبلغ حالةً من الخشوع والتركيز يظهر معها هذا الاهتزاز أثناء التلاوة. ونحن نعلم من التجربة أن الإنسان حين يتفكر دون قراءة، يكون جسده ساكناً، أمّا حين يقرأ قراءة متواصلة ذات نَغَمٍ وتأمّل، فقد يتحرك جسده لا إرادياً تبعاً لإيقاع القراءة. وهذا دليل على التركيز العميق والاندماج.


فالعالِم الحقيقي من اليهود — Yahud — هو الذي يقرأ التوراة قراءة متعمقة، ويعلم ما فيها من أحكام الحلال والحرام، ومعايير الخير والشر، ويعلم أيضاً البشارة بالنبي الخاتم.

وعندما بُعث النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) في المدينة، وجد العلماء المتمسكون بكتابهم أن دعوته توافق تماماً ما ورد في توراتهم عن الخير، واجتناب الشر، وعبادة الله وحده. والعاقل إذا بلغ هذا المستوى من العلم والتدبر، أيقن فوراً أن هذا النبي هو رسول الله حقاً، جاء ليهديهم إلى الصراط المستقيم.


وفي سورة النساء الآية (162) يذكر الله حال العلماء الصادقين من اليهود الذين اتبعوا الحق، فيقول:


﴿لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَٰئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا﴾.


فهؤلاء هم الذين قرأوا كتابهم حق القراءة، وعملوا بما فيه، فاستحقوا وصف Alyahud بمعناه الصحيح، لأنهم شهدوا بالحق عند ظهور النبي الخاتم.


ومن أمثلتهم العالم الجليل عبد الله بن سلام (رضي الله عنه)، الذي قال:

“لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، جئت أنظر إليه، فلما تأملت وجهه علمت أنه ليس بوجه رجل كذاب”.

وكان أول ما قاله النبي:

“يا أيها الناس! أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلوا الأرحام، وصلّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام”.


فكيف عرف ابن سلام — قبل إسلامه — أهمية إفشاء السلام، وإطعام الطعام، وصلة الرحم، وقيام الليل، وأنها سبيل دخول الجنة؟

لقد عرف ذلك لأنه كان ثابتاً على كتابه، قارئاً له، عاملاً بأحكامه، متدبّراً لما فيه من هدى. ولذلك كان من السهل عليه أن يعرف الحق عندما جاء، بخلاف الذين أهملوا كتاب الله، فلم يقرأوه قراءة صحيحة، ولم يعملوا بأحكامه، ولم يتوبوا من معاصيهم، وزادهم الكِبْرُ ضلالاً، حتى أنكروا نبوة إسماعيل (عليه السلام) وإنكارهم لنبوته جرّهم إلى إنكار النبي الخاتم من ذريته.


والسبب في هذا الاستكبار أنهم لم يدرسوا كتابهم ولم يعملوا به.

فالذي لم يقرأ قراءة صحيحة، لن يعمل، والذي لا يعمل يفقد صفاء روحه ونقاء فطرته التي فطر الله الناس عليها.

وقد بيّن الله ذلك في قوله في سورة النساء (160–161):


﴿فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ﴾.


وهذه الذنوب هي التي أدّت — من حيث لا يشعرون — إلى أن تبلغ الأنانية عندهم حدًّا لا يرون فيه إلا أنفسهم، فتولدت فيهم صفات الكِبْر والغرور. ومن اتصف بالكِبْر فإنه حتماً يعارض الحق ويقاومه، وينظر إلى الناس نظرة ازدراء، ويعتقد أن قومه ونَسَبه أرقى من غيرهم. ونحن نتعلم من «صحيح مسلم» أن النبي محمدًا (صلى الله عليه وسلم) قال:

«الكِبْر بَطَرُ الحقِّ وغَمْطُ الناس»،

أي هو رفض الحق واحتقار الخلق.


وبسبب هذه الصفات المسيئة التي ظهرت فيهم — من كِبْر ومعصية — صاروا يرون أن قومهم أرفع الأقوام، فلم يقبلوا الحق، وفقدوا بذلك الصفات الجميلة التي كانت لأجدادهم الذين استحقوا اسم Yahud.

فأبناء يعقوب (عليه السلام) — ومنهم الابن الأكبر — كلهم شهدوا بالحق، وأقرّوا بأن إسماعيل (عليه السلام) نبي من عند الله. وبعد يعقوب جاء موسى (عليه السلام)، وجاء من بعده من بني إسرائيل علماء يعلمون من كتبهم أن من ذرية إسماعيل سيُبعث نبي يُدعى محمدًا (صلى الله عليه وسلم).

ولكن هؤلاء الذين طغى عليهم الكِبْر لم يقبلوا الحق، وسبب ذلك أنهم غرقوا في الذنوب، فلم يعودوا قادرين على استقبال الهداية.


ولماذا وقعوا في الذنوب؟

لأنهم أهملوا كتابهم، ولم يظهروا المعاني التي أرادها الله من تسمية Alyahud:

معاني المحبة، والتوبة، وتذكر أن أسلافهم كانوا أهل هداية واتباع للحق.

كما أهملوا سمة التركيز والتدبر التي كان يظهر أثرها في تلاوة التوراة حتى كانت أجسادهم تهتز من شدة الخشوع، وهذه السمة كانت علامة صدقهم في طلب الحق.


ومن خلال تدبر اسم “اليهود” وأصله ندرك أن كتاب الله مليء بالحكمة، وأن الله لا يظلم أحداً من مخلوقاته. فأيُّ شخص من أهل الكتاب يقرأ كتابه قراءة صحيحة، ويعمل بما فيه، يستحق وصف hadu و Alyahud بمعناه الصحيح، لأنه يفهم تلك المعاني ويعود إلى الطريق المستقيم.

وتظهر هنا حكمة لغة القرآن وعمقها، وكيف تحمل في كل لفظٍ نعماً وتوجيهاً لمن تدبرها.


ونحن كذلك مطالبون بأن نتدبر القرآن ونستخلص منه العبرة، لا بمجرد القراءة فقط، بل بالعمل بما فيه، مع شكر الله على نعمه، والحذر من أن نكون من أهل الكفران والغفلة.

وندعو الله دائماً أن يهدينا إلى اتباع طريق نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم)، وأن يعيننا على تلاوة القرآن والعمل به، وألا يجعلنا من الغافلين، ونسأله الحفظ والتوفيق.


وبهذا نختتم مشاركتنا اليوم، فإن كان فيها خطأ أو نقص فأسأل الله المغفرة، وأرجو من الإخوة والأخوات الصفح.

جزاكم الله خيرًا على مشاركتكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رحلتي من الصين الى الاسلام

دروس سورة الفاتحه (1) الاستعاذة بالله – درع المؤمن ضد الوسوسة والانحراف

دروس سورة الفاتحه (4) "رَبِّ الْعَالَمِينَ" — سر العوالم وشهادة الخلق بوحدانية الله