(31) سورة البقرة- سرّ عبادة العجل عند بني إسرائيل ودروسها للمسلمين اليوم
المقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، فإن قصص القرآن الكريم لم تُذكر للتسلية أو سرد الوقائع التاريخية فحسب، بل جاءت لتعالج أمراض القلوب، وتقوم اعوجاج النفوس، وتبني في الإنسان بصيرةً تجعله يرى حقائق الإيمان من خلال آيات الكون والشرع. ومن أعجب تلك القصص وأشدها عبرة قصة عبادة بني إسرائيل للعجل بعد أن رأوا آيات الله الكبرى، وشهدوا إنجاءهم من فرعون، ورأوا البحر ينفلق أمامهم بأمر الله.
هذه القصة ليست مجرد حادثة من الماضي، بل هي مرآة تكشف لنا كيف يمكن للقلب أن ينحرف إذا غفل عن ذكر الله، أو استسلم للهوى والتقليد، أو لم يتفكر في نعم الله وآياته في الكون. وهي درس عظيم للمسلمين اليوم: كيف نحفظ قلوبنا من الشرك الظاهر والخفي؟ وكيف لا ننجرف وراء الشهوات أو الماديات أو التقاليد الباطلة؟ وكيف نحفظ يقيننا بالله من كل ما قد يشوّهه أو يضعفه؟
وسيتناول هذا الدرس بإذن الله معاني هذا الحدث العظيم، ويشرح كيف وقع الشرك في قوم شاهدوا المعجزات بأعينهم، وما هي الأسباب التي تجعل الإنسان ينحرف عن التوحيد، وكيف يُمكن للمسلم المعاصر أن يحصّن إيمانه ويُثبت توكّله على الله ويبتعد عن كل صور الأصنام المعاصرة، سواء كانت شهوة أو عادة أو مادة أو بشرًا يُتّبع من دون الله.
نسأل الله أن يجعل هذا الدرس سببًا في زيادة الإيمان، وثبات اليقين، وإدراك نعم الله الظاهرة والباطنة، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل.
إخوتي وأخواتي في هذه المجموعة، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. نحمد الله العزيز العظيم، ونصلي ونسلم على نبينا المختار وخاتم الأنبياء محمد ﷺ صلاةً لا تُحصى، ونسأل الله أن يرضى عن جميع الصحابة أجمعين.
موضوع مشاركتنا اليوم هو: كيف نفهم سرّ عبادة بني إسرائيل للعجل؟ وسنقوم بتحليل بعض المعاني الباطنة في هذا الحدث. فرغم أن القصة تتحدث عن الأمم السابقة، إلا أن ما يورده القرآن الكريم هو في الحقيقة تعليم لنا نحن، فعلينا أن نستوعب ما هي العبرة التي ينبغي أن نأخذها لأنفسنا.
إن عبادة بني إسرائيل للعجل حدثت في زمن موسى عليه السلام، ومن المعلوم أن موسى كان نبيًا مرسلًا لهداية قومه. وقد قصَّ الله عز وجل علينا خبرهم لما فيه من العِبرة والهداية، ولنتفكر ونعظّم نعمه.
فبعد أن أنقذ الله موسى وقومه من فرعون وجنوده، وشق لهم البحر فنجَّاهم وأغرق عدوهم، عبر بنو إسرائيل البحر ثم مرّوا على قوم يعبدون الأصنام. فطلبوا من موسى عليه السلام قائلين: “اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة”، كما ورد في سورة الأعراف الآية 138. ومن هذا نعلم أنه مع أن الله أنقذهم من الغرق وهلاك فرعون، إلا أن قلوبهم كانت لا تزال تحمل بقايا من صفات الشرك والرغبة في اتخاذ معبودات محسوسة.
ثم لما ذهب موسى عليه السلام ليُتمّ ميعاد ربّه أربعين ليلة، وكان ذلك من أجل أن ينزل عليه ربه شيئًا من الكتب، ومنها التوراة، أوصى أخاه هارون عليه السلام أن يستخلفه في قومه ويقوم على شؤونهم، ثم توجه مسرعًا إلى طور سيناء لمناجاة الله عز وجل.
وبعد مغادرته، بدأ بعض من قومه يتبعون السامري ويعبدون العجل. وقد وردت تفاصيل قصة السامري في عدة آيات من سورة طه. وهؤلاء الذين عبدوا العجل لم يستجيبوا لأمر هارون عليه السلام، بل خالفوه مخالفة تامة.
أما السامري، فقد قال عنه ابن عباس رضي الله عنهما إنه كان من أهل “باجيرمان” من مصر، وكان هذا القوم يعبدون البقر، فكانت عقيدة تقديس العجل متجذرة في قلبه. ورغم أنه أظهر الإسلام مع بني إسرائيل، إلا أن جذور الشرك بقيت في نفسه، وكانت سببًا في فتنة قوم موسى عليه السلام.
فلما رجع موسى عليه السلام إلى قومه، قال للسامري: ما خطبك؟ كما ورد في سورة طه الآيات 95–97، فبيّن السامري قائلاً: إني رأيت ما لم يروا، فقبضت قبضة من أثر الرسولفنبذتها، وكذلك سوّلت لي نفسي.
أما قوله “إني رأيت ما لم يروا” ففسر بأنه رأى جبريل عليه السلام عندما أهلك الله فرعون، فرأى الملك العظيم. وقوله “قبضت قبضة من أثر الرسول” فُسِّر بأن السامري أخذ قبضة من التراب الذي وطئه فرس جبريل عليه السلام، وأخذ منه مقدارًا ممتلئًا، ثم ألقى هذا التراب على حُليّ بني إسرائيل، فنتج عن ذلك عِجلٌ جسدٌ له خوار.
وقيل: إن الريح لما مرّت عليه أخرج صوتًا. وكثير من أهل العلم قالوا إن هذا العجل أصبح كأنه حيٌّ ذو لحم ودم، وقيل بل كان فيه مجرى للهواء فكان يصوّت. فلما رأى بعض بني إسرائيل تلك الآية أو المؤثر العجيب، عبدوا العجل واتخذوه إلهًا.
ومن خلال الآيات نفهم أن السامري كان من قوم يعبدون العجل، وكان حبّ العجل وترسيخ تقديسه متجذرًا في قلبه. فمع أنه أظهر الإسلام بعد أن اتبع بني إسرائيل، إلا أن نفسه الأمّارة بالسوء وشهواته التي لم تُهذَّب بقيت تؤثر عليه، كما اعترف هو بنفسه أن هواه دفعه لذلك العمل.
أما هؤلاء الذين تبعوه من بني إسرائيل، فمع أنهم شهدوا أن موسى وهارون عليهما السلام نبيّان مرسلان، فلماذا اجترؤوا على مخالفة أوامرهما؟ ولماذا بعدما أنجاهم الله من الغرق وأهلك عدوهم، طلبوا من موسى أن يجعل لهم إلهًا يعبدونه؟ لماذا ظهرت منهم هذه المطالبة؟ هذا ما يحتاج منا إلى تأمل.
أولًا: إن بني إسرائيل – أي قوم موسى عليه السلام في ذلك الزمن – كانوا في عهد فرعون في منزلة العبيد الأذلاء، والعبد لا يكون له مكانة ولا قيمة بين الناس. وربنا رب العالمين هو الرحمن الرحيم، وهذه الرحمة العامة تشمل الناس جميعًا، فكل إنسان يستطيع أن ينتفع بما وهبه الله من جسم وقدرات وعقل وروح لينال نصيبه من خيرات الدنيا.
ونحن نعلم أنه منذ عهد يعقوب ويوسف عليهما السلام، كانت البشرية قد وصلت إلى درجة راقية من التمدّن، ومن قصة يوسف عليه السلام وكيف تولى إدارة شؤون الخزائن والزرع في مصر يتبين أن المجتمع كان قد بلغ مستوى متقدمًا من الحضارة. وبعد ذلك، في زمن فرعون – وهو زمن موسى عليه السلام – وصلت العمارة والبناء إلى مرحلة مدهشة، فالأهرامات إلى اليوم تحيّر عقول المهندسين وتُظهر مدى تطور البشر في البناء، وهذا كله من آثار الرحمة العامة التي أتاحها الله للبشر.
لكن في ذلك الوقت، كان بنو إسرائيل محرومين من هذه الرحمة العامة المتاحة للبشرية، إذ كانوا عبيدًا، مما يدل على أنهم تخلّفوا في أسباب الانتفاع بالرحمة الإلهية المتاحة لكل البشر.
إن ربّ العالمين هو الربّ الرحمن الذي تشمل رحمته كل الخلق، وكل إنسان يمكنه – من أجل البقاء – أن يطلب ما في الدنيا من خيرات. فالله خلق كل شيء بالحق، ويهدي البشر بالحق. والإنسان حين يسعى لطلب النعم من خلال كشف أسرار هذا العالم الطبيعي (العالم المادي المرئي)، فإنه لا يكتفي بإشباع حاجاته، بل يحصل كذلك على الهداية. فحين يكشف عن جانب من أسرار الكون، يدرك أن هناك ربًّا خالقًا مربّيًا، وأنه سبحانه هو الحق، وهو الذي خلق كل شيء، وأن جميع المخلوقات هي من آياته الدالة عليه.
وقد أرسل الله الرسل والأنبياء، وأنزل الكتب ليكون توجيههم للبشر أوضح وأصدق، ليتحقق الناس من أن كل المخلوقات دلائل تشير إلى الله ولا يجوز أن تُعبد، وأن لله ذاتًا مخصوصة به، ليست كذوات المخلوقات. وكل المخلوقات تشهد بوجوده الحق، وتشهد كذلك أن أي شيء مخلوق محدود، له بداية ونهاية، لا يماثل الخالق أبدًا. ومعنى ذلك أن كل ما نتخيله أو نراه لا يشبه الله، وليس هو الله، بل هو من آياته الدالة عليه.
أما بنو إسرائيل الذين كانوا في ذلك الزمن عبيدًا عند فرعون، فهذا يدل على أنهم لم يكونوا ينظرون كثيرًا إلى هذا العالم المرئي ليستنبطوا منه النعم، ولم يكونوا يتأملون في خلق الله تأملًا يثمر بصيرة. ولذلك- مع بعثة نبيّ إليهم—بقوا على شيء من التقليد الأعمى. والسامري نفسه رجع إلى ما تربّى عليه من عبادة العجل، منقادًا لهواه، فعاد إلى الشرك سريعًا لأنه لم يزكِّ نفسه.
إن عدم استفادة الإنسان من نعم الله وآياته في الكون للوصول إلى الحق له سببان رئيسيان:
السبب الأول: أن ينال الإنسان نعم الله الدنيوية – مادية أو روحية – فيغترّ بها، ويظن أن ما وصل إليه كان بقوته أو علمه، فيستكبر. مثل فرعون وجنوده، بل مثل قارون الذي قال إنما أوتيت مالي “على علم عندي”. فهؤلاء يكشفون شيئًا من أسرار الكون أو يملكون شيئًا من أسباب العلم، لكن كِبرهم يحجبهم عن الاعتراف بأن لهذا الكون ربًّا خالقًا متجاوزًا لكل هذه الموجودات. فرعون كان مثالًا واضحًا لذلك؛ فهو وجنوده رأوا تسع آيات عظيمة جاء بها موسى عليه السلام، ومع ذلك منعهم كِبرهم من قبول الحق.
السبب الثاني: أن الإنسان يؤمن بأن هناك خالقًا وربًّا لليوم الآخر كما ورثه عن آبائه، لكنه لا يسعى في طلب نعم الله وتدبر أسرار الكون ليشهد ذلك بنفسه. فلا يكشف ما في العالم المادي أو العالم الإنساني من دلائل على وجود الخالق وتدبيره، فلا يصل إلى اليقين الملموس الذي يقوم على المشاهدة والاستدلال. فلو أنه تدبر لعلم أن كل ما في الطبيعة وما في المجتمع الإنساني خاضع لمدبر واحد، وأنها كلها مخلوقات وآيات لله، لا يجوز أن يُجعل لها ندٌّ أو شريك، لأنها لا تشبهه بوجه من الوجوه. ومن خلال طلب النعم والتفكر يمكن للإنسان أن يحقق شهادة التوحيد التي ورثها عن أسلافه، فيزداد يقينًا وإيمانًا.
ومثال ذلك مشركو مكة في زمن النبي محمد ﷺ؛ فإذا سُئلوا: من خلق السماوات والأرض؟ قالوا: “الله”. كما في أواخر سورة الزخرف. لكنهم حين سعى النبي ﷺ لدعوتهم إلى السجود للرحمن، قالوا: “وما الرحمن؟” كما في سورة الفرقان الآية 60. فهم يعرفون الخالق معرفة تقليدية، لكنهم لا يشهدون رحمته وآياته في الكون في حياتهم اليومية، ولذلك تمسكوا بعبادة الأصنام، ورفضوا رسالة النبي ﷺ، واتبعوا أهواءهم اتباعًا أعمى.
وهناك نوع آخر من عُبّاد الأصنام لا يؤمنون أصلًا بوجود خالق، والسبب الذي يجعل الناس يقعون في الشرك غالبًا هو أنهم لا يريدون مواجهة هذا العالم المخلوق لاستكشاف النعم، ولا يريدون النظر في المخلوقات ليتعرفوا من خلالها على آيات الربّ الرحمن، فيشهدوا بوجوده. فترى بعض عابدي الأصنام اليوم إما يتركون الدنيا تمامًا، فيتركون رغبات الإنسان الفطرية، فلا يريدون إشباع حاجاتهم المادية، ويحاولون كبحها بطرق لا توافق الفطرة، كما أنهم يتركون حاجاتهم الروحية كذلك—من سلطة ومكانة وشرف واعتبار—ويرفضون مواجهة المجتمع البشري الذي يمكن من خلاله اكتشاف خيرات الله الواسعة. فيتركون الدنيا بدعوى “الزهد المطلق”، ويتمنّون فقط أن يصيروا “أولياء أو كائنات روحانية”، ويسعون في شيء يسمونه “العالم الروحي”، بينما هم لم يستكشفوا بعد خيرات العالم المادي—الطبيعة والمجتمع البشري.
وفي طلب النعم لا بدّ من المعرفة، فمن ترك الرغبات والدوافع التي تدفعه للبحث، ورفض النظر في هذه الموجودات، فكيف سيشهد الحق؟ فالنظر في الطبيعة يكشف للمؤمن أن هذه الموجودات لا يمكن أن توجد من تلقاء نفسها، بل وراءها خالق. والنظر في المجتمع البشري يكشف أن للخير والشر معيارًا، وأن هناك ربًّا ليوم الجزاء.
فالذي لا ينظر في الكون ولا يفكر، لا يستطيع أن يشهد أن هناك خالقًا. ومن لا يؤمن بالخالق ويدّعي أنه يسعى وراء “العالم غير المرئي” أو “ترقية الروح”، فإنه لن يصل إلى شيء؛ لأنه لم يفهم أسرار العالم المادي، فكيف يتوقع أن يفهم أسرار عالم الغيب؟ إن هذا قلبٌ للحقائق، وبناءٌ للمعرفة على غير أساس. فالإنسان الذي لم يعرف عالمه المحسوس من خلال سمعه وبصره ولمسه وشمه وذوقه، كيف يقفز مباشرة إلى محاولة فهم عالم الروح؟ إن هذا قلبٌ واضحٌ للأولويات. ومهما بلغ التقدم العلمي للبشرية، فهي لم تكشف بعد إلا جزءًا قليلًا من أسرار الكون المادي، فكيف يُتوقع من طفل صغير يُرسَل إلى العزلة الدينية أن يدرك أسرار الغيب؟ كل عاقل يدرك أن هذا غير منطقي.
لقد خُلِق الإنسان ليبحث أولًا في هذا العالم المادي، فيشهد أن له خالقًا، وأنه الرحمن الرحيم، وربّ يوم الدين، وله صفات الرحمة الخاصة. وفي أثناء سعيه لطلب النعم، يواجه أنواعًا من الاختبارات التي تُوقِظ فطرته لتدرك وجود الخالق. والله لا يترك البشر دون هداية، بل يرسل إليهم الرسل والأنبياء ليهدوهم. فإذا كان الإنسان يبحث في أسرار الخلق طلبًا للحق، فسيعلم حتمًا أن لهذا الكون ربًّا. وحين يرى ما في الكتب السماوية من الآيات التي يثبتها العلم، سيستسلم للحق. ولهذا نجد الكثير من العلماء ينتهي بهم الأمر إلى الإيمان، لأنهم من خلال كشف أسرار الكون يدركون وجود الخالق حقًا.
والآن نصل إلى الخلاصة: إن قصة بني إسرائيل وعبادتهم للعجل إنما تُذكَر لنتعلم منها، ولكي لا نقع في الردّة أو اتباع الباطل. واليوم كثير من الناس ورثوا من آبائهم الدين الحق، ولكنهم منشغلون بالدنيا ولا يبذلون جهدًا للإقرار العملي بآيات الله—أي أنهم لا ينظرون في خلق الله ليحمدوه، ولا يدركون أن النعم كلها منه، وأن المخلوقات آياته لا تُعبد. فإذا تأمل الإنسان هذه الحقائق، ثبت في قلبه التوحيد، ولم يشرك مع الله أحدًا.
ومن أعظم نعم الله على البشر هو القرآن الكريم. فالقرآن ليس خاصًا بقوم أو بلد، بل هو رحمة للعالمين. وكلما كشف البشر أسرار الكون، وازدادوا معرفة بالنعم الدنيوية—مادية وروحية—أدركوا أن هناك كتابًا إلهيًا يسبقهم في بيان هذه الحقائق. فإذا رأوا أن القرآن نطق بما يكتشفونه اليوم، وسمعوا من آبائهم أنه كلام الله، ازدادوا يقينًا، وسعوا أكثر للتفكر في الكون ليشهدوا أن القرآن حقًّا كتاب ربّ العالمين.
ومعنى ذلك أن الإنسان حين يطلب من نعم الله الرحمن ويكشف أسرار الخلق، فإنما يحقق قول الله تعالى: “وفي الآفاق آياتٌ للربّ”. فمثل هذا الإنسان لا يترك ذكر الله ولا عبادته أثناء طلبه لنعم الله، ولذلك فهو يُثبت في نفسه صدق ما جاء في القرآن. وعندما يقف بين يدي ربه للذكر والعبادة، لا ينسى كذلك أن يسأله رحمته في النعم الدنيوية، ويسأله البركة فيما أعطاه، وأن يزيده من واسع عطائه. فهو يطلب من ربه المعونة ليكون عبدًا متوكّلًا عليه في طلب خيرات الدنيا.
ومتى توكل على الله، وعبد الله، وذكر الله، رأى في نفسه آية أخرى من آيات ربه؛ وهي أن الله يبارك له في رزقه، فيجد أثر العطاء ظاهرًا في حياته. وعند ذلك، وعبر رحمة الله الخاصة، يعود إلى ذكر الله وعبادته ودعائه وتوكّله عليه، فينسب النعم كلها إليه، فيكون وجود البركة في نفسه آية جديدة تشهد له بالحق، ويزداد يقينًا بصدق كتاب الله. ومثل هذا الإنسان—لِما يرى من آيات الله في حياته—لا يمكن أن يقع في عبادة أصنام المشركين، ولا أن يتبع الطرق المنحرفة التي تقوم على حرمان النفس من رغباتها الفطرية.
ومثال ذلك: أن النبي الخاتم محمدًا ﷺ لما بُعث وأنزل الله عليه القرآن، كان هذا القرآن رحمة للعالمين. ورحمة الله للعالمين تشمل رحمته العامة ورحمته الخاصة. فخيرات الدنيا من المباحات يمكن للإنسان أن يحصل منها على النصيب الوافر، ثم له في الآخرة النجاح الأعظم والمعاد الكامل. وهذه هي الرحمة التي قال الله إنها أُنزلت على النبي ﷺ. فقد حفظ الله لنا هذا الكتاب، ليكون سببًا في صلاح دنيانا وآخرتنا، فلا حاجة بعده لطرق الزهد الشاقّة التي اتبعها السابقون، ولا لحرمان النفس، ولا لمشقة طلب الحقيقة عن طريق التعذيب الروحي، فذلك كله انحراف لا أجر فيه.
وخلاصة القول: إن أصل وقوع المشركين في عبادة الأصنام هو عدم معرفتهم بالعالم المخلوق معرفة صحيحة مرتبطة بالترتيب الذي أراده الله، بل قلبوا الترتيب رأسًا على عقب. ولذلك، لما علّم الله آدم عليه السلام أسماء الأشياء كلها، كان هذا لتبدأ رحلة الإنسان في طلب النعم وإشباع رغباته من خلال التعرف على أن له ربًّا مربّيًا رحمنًا، وأن كل إنسان يمكن أن يطلب من رحمته الواسعة. فإذا عرف العبد هذا، ثم كشف أسرار الكون حتى يشهد أن هناك خالقًا رحمنًا، فإنه لن يعبد سوى الله، ولن يسجد لبشر ولا لصنم ولا لتمثال، ولن يقدّس مخلوقًا مهما كان.
ثم إن البشر، في سعيهم لإشباع حاجاتهم المادية والروحية، يحتاجون إلى مجتمع متعاون، يكشف لهم خيرات الله في الكون، ولهذا ظهرت الحضارات وتراكمت المعارف—عقلية وحسية وتجريبية—وبسعي البشر معًا تُكشف خيرات الله. فلا حاجة لطرق العرافة، ولا ضرب الودع، ولا قراءة الطالع، فكل ذلك ضلال. فالإنسان متى اجتمع على الحق، استطاع أن يكشف أسرار النعم التي قدّرها الله، لأن الله هو الرحمن. فلا حاجة لطرق المشركين وآفتهم.
ومن خلال معرفة العالم المادي، ومعرفة المجتمع البشري، يمكن للإنسان أن يشهد شهادة واضحة بوجود الخالق الرحمن. فكل من يكشف أسرار العلم—سواء علوم الطبيعة أو علوم الإنسان—يصل إلى هذه الحقيقة. ولذلك قال الله تعالى في سورة فاطر: “إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ”.
ثم إن معرفة الخالق الرحيم لا تكفي وحدها؛ بل يحتاج الإنسان إلى معرفة كيفية عبادته سبحانه. ولهذا أرسل الله الأنبياء ليُعرّفوا الناس بطريقة طلب الرحمة الخاصة، وهي معرفة الغيب—عالم الروح والبعث والآخرة. فعندما يصل الإنسان لمعرفة الخالق من خلال الكون، تأتي الخطوة الثانية: وهي السعي لمعرفة ما وراء الطبيعة من خلال هداية الرسل والكتب، لينال رحمة الله الخاصة.
إن عالم الغيب لا يمكن الوصول إليه بالحواس الخمس الخارجية للإنسان، ولا بالطرق التي نستخدمها لمعرفة العالم المشهود. ولأن عالم الغيب لطيف خفي، فلا سبيل لمعرفته إلا من خلال الوحي الإلهي، ومن خلال الذين يختارهم الله من البشر ليكونوا رسلًا وأنبياء. فالله يوحي إليهم، وينـزّل عليهم الكتب، ليدلّوا الناس على حقيقة عالم الغيب—عالم الروح. فمن أراد حقًا أن يعرف عالم الغيب، وأن يبلغ برحمة الله حالًا من صفاء الروح وعلوّها كتلك التي للملائكة، فعليه أن يتبع النبي والرسول الذي أرسله الله.
والآن، بما أن الله قد أنزل علينا كتابه العظيم، فقد بيّن لنا بوضوح كيف نكبح شهوات النفس، وكيف نربّي أخلاقنا، حتى نصل إلى حالة من السموّ والطمأنينة الروحية، حالة طاهرة عالية كتلك التي تكون للملائكة. فالقرآن يعلّمنا كيف نكبح أهواءنا، ويأمرنا بالسعي لنعيم الجنة في الآخرة، والحذر من عذاب النار. وهذه الأمور الغيبية قد بيّنها القرآن بيانًا واضحًا، وعلّمنا كيف نسلك الطريق الصحيح.
وعندما يجمع الإنسان بين الأمرين—أي بين مشاركته في كشف خيرات الله في العالم المخلوق والتدبر في نعم الرحمن، وبين اتباع النبي في معرفة عالم الغيب، والإيمان به، والسعي لعبادة الله—فإنه ينجو من الضلال الذي وقع فيه المشركون. فهو يجمع بين النظر في آيات الله الكونية وبين الإيمان بالوحي، فيناله فضل الله وبشارته، ويصبح من أوليائه الذين يبشرون بالجنة في الدنيا قبل الآخرة. ومثل هذا الإنسان لا يمكن أن يجعل لله شريكًا، ولا يمكن أن يصنع من موجودات الدنيا صنمًا يتقرب إليه، فذلك من أبشع صور الضلال.
ولما عبد بنو إسرائيل العجل وجعلوه ندًّا لربهم، أمرهم الله حين تابوا أن يقتل بعضهم بعضًا، ليُقبل توبتهم، وفي هذا بيانٌ شديد على خطورة الشرك وقبح تلك الحالة.
وبهذا نختم حديث اليوم، سائلين الله تعالى أن يحمينا من فتنة الشرك وأن ينجّينا من شروره، وأن يرزقنا خيري الدنيا والآخرة وتمام الرضا في الدارين. وإن كان في الكلام خطأ أو نقص أو غموض، فنسأل الله المغفرة، ونطلب من الإخوة والأخوات العذر والمسامحة. وشكرًا لكم جميعًا على مشاركتكم.
تعليقات
إرسال تعليق