(26) سورة البقرة - العهد الإلهي مع بني إسرائيل ودلالته على ختم النبوة
: المقدمه
إن من أعظم سنن الله في تاريخ الرسالات أنه يأخذ العهود والمواثيق مع
الأمم لتقوم بواجب الإيمان والطاعة، وليتهيأ الناس لاستقبال الهداية التي تتتابع
عبر الرسل حتى تكتمل بنور النبوة الخاتمة. ومن بين تلك الأمم التي اصطفاها الله
وابتلاها بالميثاق، بنو إسرائيل، الذين خصّهم الله بنعمٍ عظيمة، وأرسل فيهم سلسلةً
من الأنبياء الذين حملوا رسالاتٍ متتابعة هدفها تزكية النفس وتطهيرها من أهواء
الدنيا، وتعليم الإنسان كيف يسمو بروحه إلى مقام الإحسان.
وقد كان عهد الله مع بني إسرائيل قائمًا على الإيمان بجميع الأنبياء،
والاتباع للنبي الخاتم محمد ﷺ عند بعثته، كما جاء في كتبهم وبيّنته آيات القرآن.
ومن خلال دراسة سير أنبيائهم — من يوسف وموسى إلى داوود وسليمان وآل عمران — نرى
كيف أراد الله أن يُربّي فيهم روح الطاعة، والصبر، والزهد، والعلم، والتواضع،
تمهيدًا لبعثة النبي ﷺ الذي أُرسل رحمةً للعالمين، ليُتمّ الله به نعمته ويُكمل
دينه.
وفي هذا الدرس سنتأمل في هذا العهد الإلهي بين الله وبني إسرائيل، ونستعرض
كيف مثّلت رسالات أنبيائهم مراحل من التربية الروحية التي بلغت كمالها بخاتم
الأنبياء محمد ﷺ، الذي جمع بين تزكية النفس وترقية الروح، وجعل من الدين طريقًا
إلى لقاء الله في رضاه وجنته.
أيها الإخوة والأخوات ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الحمد لله رب
العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد ﷺ، وعلى آله
وصحبه أجمعين.
اليوم نتدارس موضوعًا عظيمًا: وهو أن الله سبحانه وتعالى قد أخذ ميثاقًا مع
بني إسرائيل — بأن عليهم أن يصدقوا بخاتم النبيين ويتبعوه. ونحن لا نقتصر على
دراسة الآيات التي ورد فيها هذا العهد في سورة البقرة، بل نريد أن نفهم
أيضًا لماذا كان بنو إسرائيل قادرين على التعرف على النبي الخاتم ﷺ، ولماذا بشّر
الله ببعثته في كتبهم، وكيف ينبغي لنا أن نفهم ذلك.
نبدأ بقوله تعالى في سورة البقرة الآية 40:
﴿يَا
بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ
وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾.
في تفسير هذه الآية، قال المفسرون إن الله تعالى قد أخذ على بني إسرائيل عهدًا
بأنهم إذا جاءهم نبي فعليهم أن يطيعوه ويؤمنوا به ويتبعوه. فإذا صدّقوا واتبعوا
خاتم الأنبياء والمرسلين ﷺ، فإن الله سيرفع عنهم الأثقال والأغلال التي حملوها
بسبب ذنوبهم.
وقد فسّر التابعي الحسن البصري هذا العهد بقوله إن معناه مذكور في الآية 12 من
سورة المائدة:
﴿وَلَقَدْ
أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ
نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ
وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ
اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ
وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ
بَعْدَ ذَٰلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾.
وقال بعض العلماء إن هذا العهد هو العهد الذي أخذه الله في التوراة على
اليهود، وفيه أن الله تعالى سيبعث نبيًّا عظيمًا من ذرية إسماعيل عليه السلام،
وستخضع له الأمم كافة، وهذا النبي هو محمد ﷺ.
كما ذكروا أن من يتبع خاتم الأنبياء والمرسلين ﷺ سيغفر الله له ذنوبه، ويدخله
الجنة، ويمنحه جزاءً مضاعفًا.
وقال آخرون إن قوله تعالى: «أوفوا بعهدي» يشير إلى العهد بين الله وعباده، وهو الإيمان
بالإسلام واتباعه.
وقال ابن عباس رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: «أوفِ بعهدكم» إن معناه أن الله يرضى عنهم ويدخلهم الجنة.
ونعلم أن هذه الآية نزلت في حق جميع بني إسرائيل، وأن العهد الذي أخذه الله
عليهم هو أن يصدقوا بالنبي ﷺ ويتبعوه، ووعدهم الله بأن من يفعل ذلك فله الجنة
جزاءً.
ولذلك يجب أولًا أن نعرف النعم التي أنعم الله بها على بني إسرائيل، ثم نفهم
لماذا ذكر الله في كتبهم البشارة بخاتم النبيين محمد ﷺ.
أولًا: معرفة النعم
التي أنعم الله بها على بني إسرائيل
لقد أرسل الله إلى
بني إسرائيل أنبياء ورسلاً، وأنزل عليهم الكتب، وهدَاهم إلى طريق الحق، وجعل فيهم
نماذج من الأنبياء الذين جمعوا بين الرسالة والقدوة الأخلاقية، حتى يتعلم الناس من
سيرهم كيفية تهذيب النفس والسيطرة على شهواتها، ثم بعد إدراك هذه النعم نفهم كيف
أكرم الله نبيه الخاتم محمدًا ﷺ بالرسالة الجامعة والرحمة للعالمين.
نبدأ بالتأمل في يوسف
عليه السلام، وهو أحد ورثة النبوة من نسل إسرائيل عليه السلام —
و"إسرائيل" هو اسم يعقوب عليه السلام، ولذلك نُسبت ذريته إليه فسموا بني
إسرائيل.
وقد وردت قصة يوسف
عليه السلام في القرآن الكريم وفي كتب أهل الكتاب، وفيها بيان لكيفية تغلبه على
النفس الأمّارة بالسوء. فقد تعرض للإغواء من امرأة العزيز ونساء المدينة، بدافع
الشهوة، لكنه آثر السجن على الوقوع في الفاحشة، فكان مثالًا للقائد المتقي الذي
يقهر شهواته طاعةً لله.
وهكذا أراد الله أن
يكون يوسف عليه السلام قدوةً للناس في ضبط النفس ، وألا يدعها تجرّه إلى
المعصية والشهوات، بل أن يسمو بها إلى الطاعة والعفة.
ومن جوانب القدوة
الأخرى في شخصيته أنه لم يكن ظالمًا، فقد عفا عن إخوته الذين أساؤوا إليه، وردّ عليهم
بالإحسان رغم ما فعلوه به. فهو نموذج لمن يكظم الغيظ ويعفو عن الناس، ويقابل
الإساءة بالإحسان.
وباختصار، فإن
الرسالة التي حملها يوسف عليه السلام كانت تهذيب النفس البشرية ومنعها من اتباع
الهوى، والدعوة إلى ترك الظلم والقيام بالخير والإحسان.
ثانيًا: موسى عليه
السلام ونِعَمُ الله على بني إسرائيل
موسى عليه السلام من
ذرية إسرائيل، وقد منَّ الله عليه وعلى قومه بالنجاة من بطش فرعون وظلمه، فكانت
هذه من أعظم النعم التي أنعم الله بها على بني إسرائيل.
لقد اختصّه الله
بالرسالة، وأنزل عليه الكتاب، وأيّده بالمعجزات، وجعله مثالًا للعبد الصادق الذي
لا يتبع الباطل. فعلى الرغم من أن فرعون ربّاه في قصره، لم يتخذه موسى ابنًا له،
ولم يرضَ أن يكون تابعًا للظلم والطغيان، بل كان يسعى إلى الحق والعدل.
كان يمتلك ميزانًا
دقيقًا في التفريق بين الخير والشر، ويعلم أن ما عند الله هو الباقي، وأن متاع
الدنيا زائل. فكان يعمل الصالحات طلبًا لرضوان الله وحده لا طمعًا في جزاء الناس.
ومن مواقفه العظيمة
أنه عندما فرّ إلى مدين، رأى ابنتي شعيب عليه السلام تحاولان سقي الغنم، وقد تأخرن
حياءً من مخالطة الرجال، فتقدّم وسقى لهما رغم أنه كان في حالة ضعف وهروب. ثم دعا
الله قائلًا كما في سورة القصص:
﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ
إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾،
فطلب الخير من ربه لا
من الناس، دلالةً على صدق توكّله وإخلاصه.
وبعد أن دعاه شعيب
عليه السلام وزوّجه إحدى ابنتيه، أوفى موسى بالعهد، وكان وفيًّا صادقًا لا يخلف
الميثاق، متمثلًا في قول شعيب عليه السلام الذي ربّى فيه خلق الإحسان وردّ الجميل،
فتعلم منه موسى عليه السلام أن يُقابل الإحسان بالإحسان، وأن يردّ المعروف بالجميل.
ثم كانت ذروة حياته
عندما واجه فرعون وجنوده، فكان من المتوكلين الكاملين على الله، عارفًا أن القوة
ليست في ذاته بل في معية الله له.
وكان موسى عليه
السلام أيضًا مثالًا للتواضع والرجوع إلى الله، فكلما وقع في خطأ بادر بالاستغفار.
فقد استغفر ربه عندما قتل الرجل خطأً، كما استغفر عندما عاتب أخاه هارون عليه
السلام دون قصدٍ، مبينًا أنه نبيٌّ رحيمٌ رقيق القلب، يسارع إلى التوبة والاعتذار.
ثالثًا: موسى،
وداوود، وسليمان، وآل عمران عليهم السلام — تجليات النعمة الإلهية وتزكية النفس
البشرية
في سورة الأعراف
نتعلم أن موسى عليه السلام حين سأل ربَّه أن يراه في الدنيا، تجلّى الله للجبل
فانهار، وخرَّ موسى صَعِقًا، ثم لما أفاق استغفر ربَّه. وهكذا نرى أنه كان عبدًا
كثير الاستغفار، متواضعًا، يُعلِّم الناس كيف تكون النفس البشرية متسمةً بالتواضع
لا بالكبر، وكيف يكون الخضوع لله علامة الإيمان.
وقد علّمه الله العلم
والفهم في القضاء والقدر، ليُدرك أن ما عنده من العلم محدود، وأن الفضل بيد الله
يؤتيه من يشاء، فيزداد بذلك تواضعًا. فصار هو والمؤمنون معه مثالًا للتواضع في
مقابل المتكبرين من أتباع فرعون، الذين استكبروا عن قبول الحق، بينما موسى عليه
السلام وأهل بيته كانوا أهل خضوعٍ وتواضع، فمكَّنهم الله من الانتصار على الجبابرة.
أنعم الله عليه
بالكتاب الذي تضمّن بيان طريق الخير والشر، وجعل فيه الهداية لبني إسرائيل ليسيروا
على نهج الصلاح والعدل. وكان من رحمته تعالى أن جعل موسى عليه السلام قدوة في
التوكل، والصبر، والتوبة، والتعليم الإلهي.
داوود وسليمان عليهما
السلام — الملك المقترن بالحكمة والعبادة
أنعم الله على داوود
وسليمان عليهما السلام بالملك الواسع والحكمة البالغة، لكنهما لم يجعلا من هذه
النعمة وسيلةً للترف أو الجبروت، بل وسيلةً لإقامة العدل وعبادة الله.
فداوود عليه السلام
استخلفه الله في الأرض، كما قال تعالى في سورة ص:
﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا
جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ﴾،
فكان عبدًا عابدًا
زاهدًا، يصوم يومًا ويفطر يومًا، ولا يزال هذا الصوم هو الأكمل بعده، كما أخبر
النبي ﷺ.
أما سليمان عليه
السلام، فقد سخّر الله له الجن والريح، وأعطاه علمًا عظيمًا، لكنه لم يغترّ به، بل
كان عبدًا شاكرًا. فعندما أُرسلت إليه ملكة سبأ بالهدايا، رفضها وقال: ﴿أتمدوننِ
بمالٍ فما آتاني الله خيرٌ مما آتاكم﴾، ثم دعاها وقومها إلى الإسلام، مؤكدًا أن
غايته هي عبادة الله لا جمع المال أو المجد الدنيوي.
كانا عليهما السلام
يعلّمان الناس أن الملك والقدرة لا ينبغي أن تكون وسيلة لإشباع الشهوات أو اتباع الهوى، بل يجب أن تُسخّر لخدمة
الحق. فداوود كان يعبد الله في الليل، ويصوم النهار، وسليمان كان يذكر الله صباح
مساء، وقد أعانه الله حتى صار يرى من عالم الغيب ما لا يراه غيره.
هذان النبيان علّما
الناس أن السعادة ليست في إشباع رغبات النفس، بل في ترويضها وتوجيهها نحو عبادة
الله، وأن من استخدم سلطته أو قدراته لاتباع الهوى فقد انحرف عن طريق الحق.
آل عمران — نموذج
الزهد والإيمان بالغيب
أما آل عمران، فقد
خصّهم الله ببركةٍ عظيمة، فكانوا جميعًا أهل زهدٍ وإخلاص، لا يطلبون من الدنيا إلا
ما يعينهم على طاعة الله. قصصهم كثيرة، لكن كلها تؤكد معنى واحدًا: أن الإنسان
خُلق ليعمل للآخرة لا للدنيا الزائلة.
من زكريا ويحيى ومريم
إلى عيسى عليهم السلام، نرى أمثلة للعبودية الخالصة. فقد كانت مريم عليها السلام
مثالًا للطهر والتقوى، وكانت الملائكة تخاطبها وتبشرها، وكذلك يحيى عليه السلام
وهبه الله الحكمة في صباه. وأما عيسى عليه السلام، فقد أكرمه الله بالمعجزات منذ
ولادته، إذ تكلّم في المهد، وأحيا الموتى بإذن الله، وكلها دلائل لتذكير بني
إسرائيل بأن ما لا يُرى بالعين هو حقّ، وأن الإيمان بالغيب هو جوهر الدين.
لقد أراد الله من
خلال آل عمران أن يعلّم الناس أن الحياة الدنيا قصيرة، وأن النعيم الأبدي في
الآخرة هو الجزاء الحقيقي، وأن الإيمان الصادق يقتضي الإعراض عن زخارف الدنيا
والسعي لنيل رضوان الله.
فكانت سيرة هؤلاء
الأنبياء جميعًا — من يوسف وموسى إلى داوود وسليمان وآل عمران — سلسلة من النماذج
التي تُرشد الإنسان إلى تزكية النفس، وترك التكبر، وضبط الشهوات، والإيمان بالغيب،
ليكونوا بذلك ممهّدين للتصديق بخاتم الأنبياء محمد ﷺ، الذي جمع في شخصه كمال
الرحمة، والعلم، والعبودية لله رب العالمين.
إن جميع أنبياء بني
إسرائيل عليهم السلام قد نالوا نعمًا عظيمة من الله، وكانت رسالاتهم سلسلة من
الهداية الإلهية التي تهدف إلى تزكية النفس البشرية وضبطها عن اتباع
الشهوات والمصالح الشخصية، وتوجيهها إلى فعل الخير وطلب رضوان الله.
فقد أرشدوا الناس إلى
ألا تكون النفس أسيرةَ اللذة المادية، وألا يتبع الإنسان الهوى )، بل يطهِّر نفسه ليصل إلى
مرتبة النفس المطمئنة، فتتجلى الروح الرُّوح التي أودعها الله فيه.
بدأ هذا الطريق منذ
يوسف عليه السلام الذي علّم الناس كيف يضبطون النفس، ثم تتابعت الأنبياء — من موسى
إلى داوود وسليمان وآل عمران — كلٌّ منهم يضيف بُعدًا من بُنى التزكية الإلهية،
حتى بلغ الأمر قمّته عند عيسى عليه السلام، الذي سماه الله رُوحًا منه،
لأنه بلغ مرتبة الصفاء الروحي الكامل، وكانت نفسه مطمئنة خاضعة لله منذ ولادته،
فكان مظهرًا للروح الطاهرة التي تسير بنور الله.
فكل هذه الرسالات
كانت تمهيدًا لبعثة النبي الخاتم محمد ﷺ، الذي جاء ليُتمّ النعمة ويُكمل الدين،
كما قال تعالى:
﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ
دِينًا﴾.
لقد كان دين الله في
الأمم السابقة يقوم على أركان العبادة الأربع: الذكر، والصلاة، والصيام، والزكاة، أما الحجّ — وهو الاجتماع الأعظم للقاء الله في بيته الحرام — فقد أُكمِل بدين
الإسلام، الذي ورثه من ملة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.
ذلك لأن إبراهيم عليه
السلام حين همّ بذبح ابنه إسماعيل قد بلغ مقام الإحسان — أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك — فصار الحجّ رمزًا لمقام الإحسان، ومظهرًا لمشاهدة العبد لربه بعين القلب.
أما بني إسرائيل فلم
يكن في شريعتهم هذا الركن العظيم، إذ كانت قبلتهم إلى المسجد الأقصى لا إلى البيت
الحرام، فكانت عبادتهم محصورة في طلب الجنة والنجاة من النار.
لكن الإسلام أتمّ
نعمة الله على البشر؛ فجمع بين تزكية النفس وترقية الروح فصار الإنسان لا يسعى فقط إلى دخول الجنة، بل إلى رؤية وجه الله الكريم
في الآخرة.
ولهذا، كانت رسالة
النبي محمد ﷺ هي ذروة النعمة الإلهية:
- فهو الذي يقود الناس إلى الفردوس الأعلى،
- ويرتقي بهم من عبادة الطمع في الثواب إلى عبادة الشهود والمحبة،
- ويجمع بين تزكية النفس وإحياء الروح،
- ليجعل من الحجّ ومن كل عبادة وسيلةً لـ“لقاء الله”.
إن بعثة النبي ﷺ هي خاتمة
العهود الإلهية مع البشر، إذ بها كَمُل الدين وتمّت الرحمة للعالمين، فأصبح
الإسلام جامعًا لكل مقامات العبودية السابقة: ذكر، صلاة، صيام، زكاة، وحجّ — كلّها
تؤدي إلى غاية واحدة، وهي أن يرى العبد ربَّه في الآخرة راضيًا مرضيًّا.
ولهذا بشّرت كتب بني
إسرائيل بقدوم هذا النبي الخاتم، لأنه هو الذي يُكمل دائرة النور التي بدأت بأنبيائهم،
وهو الذي سيجعل أعمالهم الخالصة مضاعفة الجزاء، إذ يتّصل نور طاعتهم بنور اتباعه ﷺ.
ولذلك سينزل عيسى
عليه السلام في آخر الزمان تابعًا للنبي محمد ﷺ، ليشهد بصدق رسالته ويتمّم طريق
العبودية الكاملة لله، فيكون نزوله تحقيقًا نهائيًّا للعهد الإلهي.
وفي الختام، نسأل
الله تعالى أن يغفر لنا التقصير والزلل، وأن يجعلنا من أتباع النبي الخاتم ﷺ الذين
يُزكّون أنفسهم، ويحيون أرواحهم بذكر الله، ويسعون إلى لقائه في رضاه وجنته.
جزاكم الله خيرًا،
وبارك فيكم، والحمد لله رب العالمين.
وهكذا يظهر أن موسى
عليه السلام جمع بين النبوة، والأمانة، والتواضع، والإحسان، فكان نموذجًا للمؤمن
الكامل الذي يجمع بين الإيمان والعمل، وبين القوة في الحق والرحمة في التعامل،
وقدوةً عظيمةً لبني إسرائيل في الوفاء بالعهد والتوكل على الله.
تعليقات
إرسال تعليق