(25) سورة البقره - القرآن الكريم: مصدِّق ومهيمن على الكتب السابقة


المقدمة:

   من أعظم القضايا التي جاء بها القرآن الكريم أنه ليس كتابًا جديدًا منفصلًا عن الرسالات السابقة، بل هو مصدِّق لما أنزله الله على أنبيائه من قبل، ومهيمنٌ عليها في الوقت نفسه. فهو يشهد لما فيها من حق، ويكشف ما أصابها من تحريف، ويضع المقياس الفاصل بين الحق والباطل، والحلال والحرام، والخير والشر.

وقد أوضح الله تعالى ذلك في مواضع عدة من كتابه، منها قوله في سورة البقرة: ﴿وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾، وقوله في سورة المائدة: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾. وهذا يبيّن لنا أن القرآن جمع بين التصديق والهيمنة، فهو جامع لفضائل الكتب السابقة، وزيادة عليها، وهو المرجع الخاتم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

ومن هنا كان لزامًا على المسلم أن يعرف كيف صدّق القرآن الكتب السابقة، وكيف هيمن عليها، ليزداد يقينًا بعظمة هذا الكتاب وخلوده، وليشهد أن الله قد أتمّ به نعمته وأكمل به دينه.


أيها الإخوة والأخوات في الله، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين محمدٍ ﷺ، ورضوان الله على جميع الصحابة أجمعين.
موضوعنا اليوم: فهم كون القرآن الكريم مُصدِّقًا لما قبله من الكتب، ومهيمنًا عليها، وذلك من جانبين:

1.   كيف صدّق القرآن الكتب السابقة.

2.   وكيف هيمن عليها وحرسها.

في سورة البقرة، الآية (41)، يخاطب الله سبحانه أهل الكتاب، إذ كانوا أصحاب كتب، فلما نزل القرآن قال لهم:
﴿وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ﴾.

وفي مواضع أخرى بيّن الله أن القرآن جاء مصدِّقًا لما سبق، وأشملها ما ورد في سورة المائدة، الآية (48):
﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾.

هاتان الآيتان أوضحتا أن القرآن الكريم يجمع بين التصديق لما قبله من الكتب السماوية، والهيمنة عليها.

أولاً: معنى التصديق
فسّر المفسرون أن المراد من التصديق هو دعوة أهل الكتاب للإيمان بما أنزل الله على نبينا محمد ﷺ، لأن القرآن كتاب هداية، ونور مبين، وبشارة ونذارة، يشتمل على الحق من عند الله، ويشهد لما في التوراة والإنجيل.
وقال بعضهم: إن القرآن مصدِّق بمعنى أنه جاء موافقًا لما ورد في التوراة والإنجيل من ذكر أوصاف النبي محمد ﷺ، فلما بُعث ﷺ صار نزول القرآن تصديقًا لما ذكروه.

ثانيًا: معنى الهيمنة
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "مهيمنًا" أي: "أمينًا"، أي حافظًا وضامنًا. وقال غيره: القرآن أمين على ما قبله من الكتب، فما وافقه فهو حق، وما خالفه فهو باطل. وقال بعض المفسرين: "مهيمنًا" بمعنى حاكمًا، أي القرآن هو المرجع الذي يُحتكم إليه بين ما اختلف فيه من الكتب السابقة.

إذن فالقرآن مصدّق ومهيمن معًا: مصدِّق لأنه يشهد لما في الكتب السابقة من الحق، ومهيمن لأنه المرجع الذي يُفصل به بين الحق والباطل فيما حُرّف أو غُيّر.

خاتمة
القرآن الكريم هو آخر الكتب السماوية وأكملها وأعظمها، جمع فضائل الكتب السابقة كلها وزاد عليها، فصار هو الكتاب الخاتم الشامل، لا يُدانيه كتاب. وهو الكتاب الذي تولى الله حفظه بنفسه، فقال في سورة الحجر، الآية (9):
﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾.

ولهذا أجمع العلماء على أن القرآن مصدّق ومهيمن، جامع ومرجع، نور وهدى، وحجة على العالمين.

التعرّف على الكتب السابقة وكيف يشهد القرآن عليها

إخوتي وأخواتي في الله، حتى ندرك أن القرآن الكريم هو المهيمن على الكتب السابقة والمصدّق لها، فلا بد أولًا أن نتعرّف على تلك الكتب، ثم نرى كيف جمعها القرآن في معانيه الكاملة والشاملة.

لقد ذكر القرآن أن الله أنزل على بني إسرائيل ثلاثة كتب: التوراة، والإنجيل، والزبور، كما ذكر أن إبراهيم عليه السلام أُوتي صحفًا، قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَىٰ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ﴾.

أولًا: صحف إبراهيم عليه السلام
إبراهيم عليه السلام كان إمامًا في التوحيد، عابدًا لله وحده لا شريك له. والصحف التي أوتيها لا شك أنها تضمنت عقيدة التوحيد الخالص، وكيفية عبادة الله وحده. فقد عرفنا من قصته أنه حطّم الأصنام بيده، وواجه المشركين، ورأى في ملكوت السماوات والأرض دلائل ربه، فأيقن أن العبادة لا تجوز إلا لله.

كما ابتلاه الله بذبح ابنه، فاستسلم لأمر ربه، وصدق في توحيده، ليكون قدوة في الإيمان بالغيب، والتصديق بالآخرة، واليقين بلقاء الله. فكانت الصحف التي أوتيها دعوةً للتوحيد والإخلاص.

وهذا المعنى العظيم أكده القرآن نفسه، فهو يدعو إلى التوحيد الخالص، ويُبطل عبادة الأصنام، ويروي لنا مواقف إبراهيم عليه السلام ليكون لنا قدوةً، حتى إن شعيرة الحج كلها قائمة على إحياء سيرته وسيرة ابنه إسماعيل عليهما السلام. وبهذا يكون القرآن شاهدًا ومصدّقًا لما في صحف إبراهيم.

ثانيًا: التوراة التي أُنزلت على موسى عليه السلام
التوراة تضمنت بيان نعم الله على بني إسرائيل، وكيف أنقذهم من فرعون وظلمه، وأخرجهم من الذل إلى العز. ولم يكن لهم حينها نظام اجتماعي أو سياسي راسخ، فقد كانوا عبيدًا مضطهدين، بلا كيان مستقل. فجاءت التوراة لتضع لهم منهجًا للحياة، وتشريعات تُنظم شؤونهم كأمة، وتُميزهم عن غيرهم بالعدل والحق.

فالتوراة إذن تضمنت أصول الشرائع والأنظمة، وحددت الحلال والحرام، والخير والشر، لأن أي مجتمع لا يستقيم أمره إلا إذا بُني على معيار واضح بين الحلال والحرام. فكانت تشريعًا يؤسس لهم حياةً قائمة على عبادة الله والالتزام بشرعه.

وهذا كله يؤكده القرآن الكريم الذي وصف التوراة بأنها "هدى ونور"، ثم جاء ليكمل مسيرتها، ويبين ما حُرّف منها، ويضع المقياس الصحيح للحق والباطل.

الكتب السابقة كما يشهد لها القرآن الكريم

لقد تضمنت كتب بني إسرائيل أحكامًا تفصيلية في العلاقات الإنسانية، تبيّن ما هو خير وما هو شر، كما تضمنت كيفية عبادة الله، لأن رفعة بني إسرائيل من ذلِّ العبودية إلى شرف المكانة كان سببها توحيدهم لله وعبادتهم له. ولذلك كانت كتبهم مليئة بالشرائع والسنن التي توضّح معايير الحلال والحرام، وأعمال العبودية لله تعالى.

وفي القرآن الكريم جاء البيان واضحًا حول ما أصاب بني إسرائيل من اضطهاد فرعون، وكيف أنجاهم الله منه، وكيف أنزل على موسى الألواح التي تضمنت شرائع في المعاملات، مثل: "النفس بالنفس، والعين بالعين، واليد باليد، والرجل بالرجل"، وهي قوانين تضبط معايير الخير والشر في العلاقات الإنسانية. كما جاء فيه أن الله أمر موسى وأخاه هارون أن يجعلا في مصر بيوتًا يُذكر فيها اسم الله وتُقام فيها الصلاة.

هذه التفاصيل الدقيقة التي وردت في القرآن، مع أن النبي محمد ﷺ كان أمّيًا لا يقرأ كتب أهل الكتاب، هي دليل على أن هذا وحي من عند الله، وتأكيد أن القرآن مصدّق لما في الكتب السابقة. فقد جاءه العلم من الله لا من البشر، وهذا وحده شاهد على أنه الحق.

ولذلك لما وصل النبي ﷺ إلى المدينة، وكان فيها من أحبار اليهود من يعرف نصوص التوراة، مثل عبد الله بن سلام رضي الله عنه، سمع من النبي ﷺ قوله: "أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام". ففهم أن هذا الكلام لا يقوله إلا نبي مرسل، لأنه موافق لما جاء في التوراة من شرائع تتعلق بعبادة الله ومعاملة الناس. فبادر إلى الإسلام، وأصبح من خيرة الصحابة.

أما الزبور الذي أُعطي لداود عليه السلام
فإننا نعلم أن بني إسرائيل بعدما أنقذهم الله من فرعون، وأكرمهم بالكتب والشرائع، أخذوا يتطورون في شتى مجالات الحياة، حتى صار لهم مكانة في الأرض. ففي عهد داود عليه السلام برع كثير منهم في الصناعات، وكان داود نفسه صانعًا ماهرًا في الحديد، يصنع منه أدوات القتال. ثم جاء سليمان عليه السلام من بعده، فكان له ولأتباعه فضل في مجالات الصناعة والزراعة والجيش، حتى ظهر عليهم أثر نعم الله الواضحة.

ولما اصطفى الله داود عليه السلام نبيًا ورسولًا، لم يعطه الزبور فحسب، بل جعله خليفةً في الأرض، يحكم بين الناس بالعدل. ومن المعجزات التي أكرمه الله بها أن سُخّرت له الجبال والطير تسبّح معه بحمد الله، ليكون ذلك آيةً تذكّر بني إسرائيل بأن ملكهم وقوتهم ليست للزهو بالدنيا وزخارفها، بل لشكر الله وتسبيحه.

ولهذا جاء الزبور على هيئة "مزامير" وأشعار مملوءة بالتسبيح والتحميد، تذكّرهم أن نعم الله في الكون، وما آتاهم من ملكٍ وقوة، كلها تستوجب التسبيح بقول: سبحان الله عند التأمل في خلقه، و الحمد لله عند استشعار نعمه. فكان الزبور كتابًا يفيض بالثناء على الله وتمجيده وتسبيحه بلا حدود.

الزبور والإنجيل كما يشهد لهما القرآن الكريم

كان داود عليه السلام متميزًا في البلاغة وحُسن البيان، فجاء الزبور الذي أنزل عليه مليئًا بالتعبير الأدبي البليغ، يشرح ويُفصِّل ذكر الله وكتبه. وكان من دروس الزبور أن من يُمكَّن له في الأرض، لا يجوز له أن يظلم أو يفسد، بل عليه أن يستخدم ما أُوتي من سلطان ونعمة في هداية الناس إلى عبادة الله وحده، لا أن يتكبّر أو يتسلّط.

لقد كان داود وسليمان عليهما السلام قدوة في ذلك، فقد استُخدمت مكانتهما في الأرض للدعوة إلى طاعة الله وتسبيحه. أما من اتّبع هواه من بني إسرائيل، فكان يرى نفسه وأمته أرفع من غيرهم، ولم يوجّهوا غيرهم إلى الهداية. وأما الذين صدقوا واتّبعوا الزبور حقًا، فقد كانوا يسبّحون الله بالغدوّ والآصال، ويستقيمون على العدل، ويهتدون بالحق، ويهتدون الناس إليه. ولهذا فإن ما جاء في القرآن الكريم من قصص داود وسليمان إنما هو تأكيد لما في الزبور، وشهادة بصدق ما أنزل على داود.

ثم جاء القرآن الكريم ليُحدّثنا عن المهاجرين والأنصار، وعن الذين جاهدوا في سبيل الله، كيف أن الله مكّن لهم في الأرض بعد أن أتمّ لهم دينهم. فصاروا نماذج واقعية، في عهد النبي ﷺ وصحابته، على كيفية الجمع بين التمكين في الأرض والعدل والإحسان وعدم الظلم. وبذلك كان القرآن مهيمنًا، يُظهر أن أتباعه هم الامتداد الحقّ لمن اتبع الزبور من قبل، فيُثبت صدق الكتب السابقة، ويُظهر هيمنته عليها.

أما الإنجيل الذي أُنزل على عيسى عليه السلام
فلفهم الإنجيل، ينبغي أن نتأمل في أسرة عمران كلها. فزكريا وزوجه، وعمران وزوجه، كانوا جميعًا زاهدين في الدنيا، مقبلين على الله. ومن هذه الأسرة وُلدت مريم العذراء عليها السلام، التي اصطفاها الله، ورفع مكانتها فوق نساء العالمين.

لقد قدّمت مريم عليها السلام حياتها كلها لله، متخلّية عن متاع الدنيا وزينتها، حتى الزواج الذي هو من سنن البشر تركته ابتغاء وجه الله. فجعلها الله خادمةً لدينه، قائمةً على عبادته. ومع ما لاقته من اتهامات باطلة وأذى الناس، صبرت واحتسبت، فزادها الله رفعةً وكرامة.

وكانت أعظم نعمة عليها وعلى أسرتها أنهم كانوا يؤمنون بالغيب، ويوقنون أن ما عند الله في الآخرة هو الجزاء الحق، فطهرت أرواحهم وصفَت نفوسهم. ومن صفاء أرواحهم أن الله أكرمهم برؤية الملائكة والتحدث إليهم، وأراهم من عالم الغيب ما لا يراه عامة الناس، كالنعيم والجنة.

ومن أعظم فضائل مريم عليها السلام أن دعاء أمها استُجيب استجابةً كاملة. فقد دعت أن يكون مولودها خادمًا لدين الله، فاستجاب الله دعاءها، فجاءت مريم مطيعةً خاشعةً، مسلّمةً أمرها كله لله، بخلاف حال كثير من الأبناء الذين لا يطيعون والديهم. لكن استجابة الله لدعاء أمها جعلت مريم عليها السلام منذ نشأتها منقطعةً لله، صافية الروح، نقية النفس، فكانت مثالًا للنفس المطمئنة.

الإنجيل وما جاء فيه عن عيسى عليه السلام

لقد استجاب الله دعاء زكريا عليه السلام، فبشّره وزوجه بيحيى، ومنذ ولادته بُشّر بالرسالة والنبوة، فكان هذا من أعظم النعم. وهذه الأسرة ـ آل عمران ـ بما عُرف عنها من الزهد في الدنيا، نالت من الله كرامةً عظيمة: كلما دعوه استجاب لهم، وزادهم فضلًا بأن جعل ذريتهم وارثةً لطريق الحق. فمريم عليها السلام كانت ميراثًا لوالديها، وعيسى عليه السلام حفيدًا لهم كان وارثًا لدينهم، وكذلك يحيى كان امتدادًا لدعوة زكريا. وكلما ازدادوا زهدًا في الدنيا، زادهم الله رفعةً وخلودًا في الذكر، وورّثهم الخير في الدنيا والآخرة.

أما عيسى عليه السلام، فقد سماه الله "روحًا" منه، لأنه كان محفوظًا من الله في نفسه ونوازعه. فلم يتجه إلى شهوات الجسد ولا إلى أهواء النفس، بل كان دائم الطهر، مستقرًّا في مقام "النفس المطمئنة". فكان روحًا طاهرةً نقية، قلبه سليم، جسده طاهر، وروحه مقدسة، وهو في هذا كله آية من آيات الله.

وبحكم هذه الروحانية العالية، ظهرت على يديه المعجزات: كان يشفي مرضى الأجساد، ويعالج علل القلوب، ويهدي النفوس المريضة إلى الطهر. فمن كان أعمى ردّ الله له بصره على يديه، ومن كان أبرص شفاه، ومن مات أحياه الله على يديه، وكل ذلك بإذن الله. وهذه المعجزات لم تكن مجرد خوارق، بل دلائل على أنه عبدٌ لله ورسول، آتاه الله من الروح ما يجعله آيةً للعالمين.

بل إن الله أراه من الغيب ما شاء له، فكان يعلم بعض ما يدّخره الناس في بيوتهم، كما جاء في القرآن. وكان ذلك شاهدًا على صفاء روحه واتصاله بالوحي.

فالإنجيل الذي أنزل عليه تضمن هذه المعاني: الطهر الروحي، وصفاء النفس، واليقين بالآخرة، والدعوة إلى التوحيد والإيمان بالبعث. غير أن بعض أهل الكتاب لم يحسنوا فهم هذه الروحانية، فغَلَوا في عيسى عليه السلام، فجعلوا له مقامًا إلهيًّا، وحرّفوا معنى الروح الذي منحه الله له، فضلّوا في فهم الغيب والباطن، وزاغوا عن الصراط المستقيم. وكان السبب في ذلك أنهم لم يحيطوا بعيسى وأسرته المعرفة الكاملة، ولم يقدّروا مقاماتهم حق قدرها.

القرآن الكريم وتمام النعمة بمحمد ﷺ

أما نبينا محمد ﷺ، فما من دعاء له إلا استجاب الله له. فقد رأى الملَك جبريل عليه السلام في صورته الحقيقية مرتين، ورأى من ثمار الجنة عنبًا بعينه، وشهد أصحابه الكثير من الخوارق والمعجزات الخارجة عن السنن المعتادة، وكلها دلائل على عناية الله به.

لقد اختار ﷺ الزهد في الدنيا، فكان "نبي الفقراء"، ولم يرضَ أن يكون ملكًا مع التمكين الذي حصل للإسلام في الأرض، بل ظل متواضعًا زاهدًا، يعيش مع الناس أبسط حياة. ومن صحابته من بُشّر بالجنة في حياته، وكثير منهم رأوا الملائكة رأي العين، كما في بدر حين نزلت الملائكة تقاتل مع المؤمنين، وكما كانوا يشاهدون جبريل وهو ينزل بالوحي.

وكانت أعظم معجزاته القرآن الكريم، الذي لم يكن معجزًا في زمنه فقط، بل بقي معجزًا إلى يومنا هذا، تتكشف معانيه كلما تقدمت العلوم. فقد سبق العلم الحديث بذكر أسرار لم تُكشف إلا مؤخرًا، مثل أطوار الجنين في بطن أمه. وكذلك كشف عن الغيب: عالم الملائكة والجن، ونعيم الجنة وما فيها من الولدان والحور. فهو كتاب يجمع الحديث عن عالم الغيب وعالم الشهادة معًا، ويعرض للروح والنفس والفطرة، وكيف يزكّي الإنسان نفسه ويكبح شهواته، ويجاهد هواه ليصل إلى مقام "النفس المطمئنة"، ويكون في مقام الروح الطاهرة الموصولة بالله.

فالقرآن إذن يبيّن للإنسان كيف يسلك سبيل الهداية ليكون عبدًا خالصًا لله، فينال في الدنيا والآخرة نعيمًا مقيمًا. ومن ثمرات ذلك أن دعاءه يُستجاب، كما كان حال أتباع الإنجيل الحق قبل تحريفه، إذ كانوا بصدق اتباعهم ينالون كشف بعض الغيب، وتُستجاب أدعيتهم، ويُبشرون بالجنة.

وهكذا كان شأن أتباع القرآن من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان: منهم من برز في العلم، ومنهم من اشتهر بالخلق، ومنهم من تميّز بالعمل الصالح، وكثيرًا ما ظهر عليهم أثر استجابة الدعاء، ونيل البشريات في الدنيا والآخرة. فدلّ ذلك كله على أن القرآن مصدّق لما سبقه من الكتب، جامع لحقائقها، ومهيمن عليها.

القرآن مهيمن على الكتب السابقة

ولأن القرآن الكريم هو مصدّق لما سبقه من الكتب، فهو كذلك مهيمنٌ عليها وحافظ لها. فكل ما وافق معاييره فهو الحق، وما خالفها فهو الباطل. فهو المقياس في الحلال والحرام، وفي الخير والشر، وفي الحق والباطل، وفي الحُسن والقُبح. فما لم يتعارض معه يُقبل على أنه حق، وأما ما تعارض معه في توحيد الله أو في عبادته أو في إدراك الغيب، فإنه يُطرح ويُترك.

وقد قال ربنا جل جلاله:
﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9].

فالقرآن الكريم هو ذكر الله المحفوظ، وهو رحمة للعالمين، وشاهد على أن الله أنزل لعباده أعظم نعمة بالهداية والبيان.

هذا ما أحببنا أن نشارككم به اليوم، فإن كان فيه خطأ أو تقصير فأسأل الله العفو والمغفرة، وأرجو من الإخوة والأخوات الصفح والمعذرة. جزاكم الله خيرًا على حسن الاستماع والمشاركة.

 

 

 

 

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رحلتي من الصين الى الاسلام

دروس سورة الفاتحه (1) الاستعاذة بالله – درع المؤمن ضد الوسوسة والانحراف

دروس سورة الفاتحه (4) "رَبِّ الْعَالَمِينَ" — سر العوالم وشهادة الخلق بوحدانية الله