(24) سورة البقرة – الصبر والصلاة سبيل معية الله والفوز في الدنيا والآخرة


المقدمة:

أيها الأحبة في الله،
القرآن الكريم كتاب هداية، يوجّه قلوب المؤمنين إلى ما فيه قوتها وثباتها، ومن أعظم ما أمر الله به عباده أن يلجؤوا إليه بالصبر والصلاة. وقد جمع الله بينهما في مواضع عدة، ليبين لنا أن طريق الاستعانة لا يكتمل إلا بهما معًا؛ فالصبر يحفظ القلب على الطاعة ويقيه من المعصية ويثبّته عند البلاء، والصلاة توصل العبد بربه، وتغذيه بالذكر والخشوع واليقين.

وحين نتأمل في الآيات الكريمة من سورة البقرة، ثم ما جاء في سورة الزمر من الحديث عن قيام الليل والصابرين الذين يوفَّون أجرهم بغير حساب، ندرك أن سرّ الفلاح في الدنيا والآخرة إنما هو في الجمع بين الصبر والصلاة، فمن جمعهما نال معية الله في الدنيا، وثوابه غير المحدود في الآخرة.

 


أيها الإخوة والأخوات في الله، الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

موضوعنا اليوم حول آيتين كريمتين من كتاب الله تعالى، في سورة البقرة، حيث أمرنا ربنا جلَّ وعلا بالاستعانة بالصبر والصلاة. فلماذا جمع الله سبحانه بين الصبر والصلاة، وجعل بهما الاستعانة؟ هذا ما نحاول أن نتأمله اليوم.

في الآية (45) يقول تعالى:
﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾.

وفي الآية (153) يقول:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾.

كلا الآيتين جمع الله فيهما بين الصبر والصلاة، وأمر بالاستعانة بهما، فذلك سرٌّ عظيم.

أولاً: معنى الصبر
ذكر المفسرون أن الصبر في الآية الأولى قد يكون المقصود به الصيام، لأن شهر رمضان يُسمى "شهر الصبر". وقال آخرون: الصبر هو حبس النفس عن المعصية. وقال بعض الصحابة: الصبر نوعان: صبرٌ عند البلاء، وصبرٌ عن المعصية، والثاني أعظم.

ومن مجموع أقوالهم يتضح أن الصبر يشمل ثلاثة أمور:

1.   الصبر على الطاعة، أي المداومة على فعل الخير.

2.   الصبر عن المعصية، أي ضبط النفس والهوى، وعدم اتباع الباطل.

3.   الصبر على أقدار الله من البلاء والمصائب.

ثانيًا: أهمية الصبر في العمل الصالح
المداومة على الطاعات تحتاج إلى صبر، سواء في العبادة المحضة لله، أو في الأعمال الإنسانية والاجتماعية. والناس قد يعملون الخير ويصبرون عليه، لكن بدون نية صادقة لله وبدون ذكرٍ له، لا ثواب لهم في الآخرة.

ثالثًا: ارتباط الصبر بالصلاة
الصلاة عبادة عظيمة، تجمع أركان الشهادة والذكر والخضوع لله. ففيها:

  • قراءة القرآن، وهو كلام الله ووحيه.
  • الركوع والسجود، وفيهما تعظيم وتسبيح لله وطلب المغفرة.
  • التشهد، وفيه أعظم الشهادات: "لا إله إلا الله" و"محمد رسول الله".

الصلاة إذن هي أعظم مظهر للشهادة والذكر، وهي التي تجعل أعمال الخير متصلة بالله. فمن صلى فقد شهد لله بالوحدانية، ولنبيه بالرسالة، وأيقن بلقاء الله في الآخرة، وبأنه هو الذي يجزي ويثيب.

رابعًا: الجمع بين الصبر والصلاة
الإنسان في طريقه إلى الخير لا بد أن يواجه ابتلاءات وصعوبات، فيحتاج إلى الصبر. وقد ينال منافع الدنيا بالصبر والعمل، لكن إن لم يربط ذلك بالصلاة، أي بالشهادة لله والتوجه إليه، فلن يكون له أجر في الآخرة.

فقد يعمل الإنسان الخير ويصبر عليه، لكن إن لم يشهد لله ويؤدي الصلاة، فإن ذلك لا ينقذه من عذاب النار يوم القيامة. ولهذا جمع الله بين الصبر والصلاة، لتكون الاستعانة بهما معًا، فالصبر يحفظ الاستقامة، والصلاة تحفظ الصلة بالله والنية الصادقة.

ومن الأسرار أيضًا في الجمع بين الصبر والصلاة

إن هذا الخير يحتاج إلى المداومة والدوام، والصلاة كذلك هي عبادة قائمة على الاستمرار، بل هي أوضح عبادة مرتبطة بالوقت، لها مواعيد محدَّدة ينبغي المحافظة عليها. وكل من آمن أن الصلاة فريضة من الله تعالى، واعتقد أن هذه العبادة فُرضت على البشر بعد الإسراء والمعراج بواسطة النبي محمد ﷺ، فعليه أن يوقن أن من ينكر هذه العبادة أو يتركها ـ حتى وإن لم ينكرها بلسانه ـ فهو من الخاسرين.

فالذي يؤمن بفضل الصلاة ويُداوم عليها، يُرزق يقينًا صحيحًا في مسألة الوقت، فيدرك أن كل المخلوقات حادثة زائلة، وأن لها نهاية وقيامة وبعثًا وحسابًا، ثم جنة أو نارًا أبدية. وصاحب هذا الإدراك يسعى إلى خير الدنيا والآخرة معًا، ولا يحصر الخير في فترة محدودة أو منفعة عاجلة. ومن ثم يكون عمله الصالح متواصلًا غير متقطع، لأنه يعلم أن الدنيا مزرعة الآخرة، فكيف يكون غافلًا؟ بل تجده يحرص في كل لحظة أن يعمل للآخرة، ليكون ذلك زادًا للقائه بربه ورجاءً في رضوانه.

ثانيًا: الصبر بمعنى كفّ النفس عن الهوى
فالنفس البشرية كثيرًا ما تأمر بالسوء، وتميل إلى الباطل، وتحب الشهوات الفانية من جاهٍ أو سلطان. وهنا يأتي الصبر بمعنى كبح جماح النفس وتقييدها عن المعاصي، وحملها على الطاعة.

ولذلك جاءت فريضة الصلاة لتربي النفس على هذا المعنى. ففي سورة العنكبوت (45):
﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾.
فالآية صريحة في أن الصلاة تُعين المؤمن على ترك الفحشاء والمنكر، لأنها تغذيه بالذكر، وتربطه بربه، وتطهّر قلبه.

لماذا للصلاة هذا الأثر العظيم في كبح النفس؟

  • أولًا: لأنها تبدأ بالطهارة، وضوءًا وغُسلًا، مما يجعل المسلم دائمًا في حال نظافةٍ حسيةٍ ومعنوية. والطهارة الجسدية سبب للراحة النفسية.
  • ثانيًا: لأنها ترفع الروح، ففيها تلاوة القرآن، حتى من لم يقرأ كثيرًا خارج الصلاة فهو في صلاته يقرأ الفاتحة وآياتٍ أخرى، فيتأمل معاني الوحي ويتصل بالله وحده. فيصبح قلبه صافيًا طاهرًا، وفطرته محفوظة.
  • ثالثًا: لأنها تحقق للإنسان قلبًا سليمًا، وروحًا مطمئنة.

والصلاة لا تقتصر على البُعد الفردي، بل لها جانب جماعي عظيم، ففيها صلاة الجماعة، وصلاة الجمعة، وحضور المسجد، وكل ذلك يربي المسلم على معاني الوحدة والأخوة، ويمنعه من التفرق والأنانية. وبعد الصلاة يعود المسلم إلى عمله في الأرض باحثًا عن فضل الله، ولكن بنفسٍ متواضعة، لا متكبّرة ولا مفسدة.

وهكذا تُثمر الصلاة شخصيةً خاشعة متواضعة، لا تظلم ولا تعين الباطل، بل تدعو إلى الخير، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. وبذلك تتحقق فيها صفة "النفس المطمئنة" التي لا تقترف الفواحش ولا تركن إلى الباطل، وإنما تسعى في نصرة الحق والخير.

الصبر عند البلاء وعلاقته بالصلاة

نأتي الآن إلى النوع الثالث من الصبر، وهو الصبر عند نزول البلاء والمحن، وهذا مما يمرّ به كل إنسان بدرجات متفاوتة؛ فهناك ابتلاءات في الجسد بالمرض، وابتلاءات في النفس والروح، وابتلاءات بالكوارث الطبيعية وغيرها.

ولكي نفهم لماذا قرن الله تعالى الصبر بالصلاة، ينبغي أن نلتفت إلى أن فاتحة الكتاب التي نقرأها في الصلاة، وهي "سورة الفاتحة"، تحمل معنى عظيمًا. فهي تبدأ بتمجيد الله وتسبيحه وحمده، ثم تنتهي بطلب العون والهداية، ﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾.

فالإنسان إذا نزل به بلاء، قد يتجه إلى غير الله، كأن يظن أن فلانًا من الناس أو جماعة ما بيدهم رفع البلاء عنه، أو يطلب منهم أن يخففوا عنه همَّه. لكن المؤمن حين يقف بين يدي الله في الصلاة ويتلو الفاتحة، يعلن أن العبودية لله وحده، والاستعانة به وحده، وأنه لا يملك كشف الضر إلا الله. ومن هنا تكون الصلاة أعظم مظهر للاستغفار واللجوء إلى الله وحده، فهي تُعيد الإنسان تلقائيًا إلى الاعتصام بربه دون غيره.

والناس جميعًا إذا نزلت بهم الكُرَب يرفعون الدعاء، لكن القبول مرتبط بصفاء العقيدة والعمل. فقد يكون الدعاء مُدَّخرًا للآخرة، وقد يُستجاب في الدنيا كما وقع مع أيوب عليه السلام بعد ثمانية عشر عامًا من البلاء، فلما دعا ربَّه رفع الله عنه البلاء وزاده نعمة. والسؤال: كيف ينال العبد استجابة عاجلة لدعائه في الدنيا؟ الجواب: أن يكون مخلصًا لا يشرك بالله، بعيدًا عن الذنوب.

لكن الذنوب حائل بين العبد وربه، فكيف تُغسل سريعًا؟ إن أعظم عبادة تغسل الذنوب هي الصلاة، كما قال النبي ﷺ: «أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟» قالوا: لا، قال: «فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا». فالصلاة في قيامها وركوعها وسجودها وتسبيحها وطلب المغفرة، كلها مطهِّرة للعبد. ومع التوبة وأداء الحقوق للناس، يغفر الله الذنوب، ويقبل الدعاء.

الخلاصة:

  • من داوم على فعل الخير وابتغى به وجه الله، فلن يفرّط في أعظم عبادة تحتاج إلى المواظبة، وهي الصلاة.
  • من قُبلت صلاته عند الله، فهو حتمًا ليس ممن يظلم أو يعين الباطل، بل هو من يزكّي نفسه ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
  • من صبر عند البلاء ودعا الله مخلصًا، فإن الله يحوّل بلاءه إلى رحمة ونعمة، بشرط ألا يكون من المشركين ولا من أصحاب الذنوب المصرّين.
  • والصلاة بما فيها من طهارة ظاهرية وباطنية، ومن قراءة الفاتحة، والركوع والسجود، والتشهد بشهادتي التوحيد والرسالة، تجعل المؤمن في حال ذكرٍ دائم لله، فيُكتب عند الله من الصابرين.

ولهذا قال تعالى: ﴿واستعينوا بالصبر والصلاة﴾، وقال: ﴿إن الله مع الصابرين﴾. فالمؤمن الذي يجمع بين الصبر والصلاة هو الذي ينال معية الله الخاصة ونصره وتأييده.

التأمل في آيتين من سورة الزمر

الآن ننتقل إلى آيتين كريمتين من سورة الزمر، تتحدثان عن قيام الليل، وعن الصابرين الذين ينالون الأجر العظيم، وبذلك نختم موضوعنا.

في الآية التاسعة يقول الله تعالى:
﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾،
فهذا وصفٌ لعباد الله الذين يقومون الليل خاشعين، ساجدين وقائمين، يخافون الآخرة ويرجون رحمة ربهم.

وفي الآية العاشرة يقول سبحانه:
﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.
وقد فسّر العلماء "بغير حساب" بأن أعمال هؤلاء لا توزن يوم القيامة، بل يدخلون الجنة بغير حساب، وقال بعضهم: بل معناه أن الجنة أجرهم، وهي بلا حد ولا نهاية.

وقد تعلّمنا فيما مضى أن الله مع الصابرين، ومن كان الله معه فإنه يدخل الجنة بغير حساب. وأهل هذا المقام في الآخرة هم الذين كانوا في الدنيا راسخين في إيمانهم، وأول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة هو الصلاة، فكيف يفرّطون فيها؟ بل هؤلاء الصابرون لا يضيّعون الصلاة أبدًا، بل يحافظون على الفرائض ويكثرون من النوافل، رجاء رضوان الله.

فمن وُصف بالصبر حقًا، لا يمكن أن يترك الصلاة، بل يرى فيها نعمةً من الله، ويجعلها طريقه إلى مرضاته. ومن بلغ مقام "معيّة الله" بالصبر، نال عونه وتوفيقه في الدنيا، وأجراً غير محدود في الآخرة.

وفي ختام الحديث، لا بد من التذكير بعِظم شأن الصلاة. فقد أُعطيت لنبينا محمد ﷺ في ليلة الإسراء والمعراج، حين كان في أشرف مقام وأقرب منزلة من ربه، فدلَّ ذلك على أن الصلاة عبادة عظيمة وشرف رفيع.

وعليه، فإن حياة المسلم كلها لا تقوم إلا بالصبر، ولا تُبنى إلا بالمحافظة على الصلاة. فمن أراد الفلاح فليستعن بالصبر والصلاة، كما أمرنا ربنا عز وجل.

ونسأل الله أن يجعلنا من المحافظين على الصلاة، المستعينين بالصبر والصلاة، وأن يكتبنا من عباده الصابرين الذين ينالون أجرهم بغير حساب.

هذا ما أحببت مشاركته معكم اليوم، فإن كان فيه تقصير أو خطأ أو زلل، فأسأل الله المغفرة، وأرجو من الإخوة والأخوات المعذرة. جزاكم الله خيرًا على حسن الاستماع والمشاركة.

 

 

 

 

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رحلتي من الصين الى الاسلام

دروس سورة الفاتحه (1) الاستعاذة بالله – درع المؤمن ضد الوسوسة والانحراف

دروس سورة الفاتحه (4) "رَبِّ الْعَالَمِينَ" — سر العوالم وشهادة الخلق بوحدانية الله