(19) سورة البقرة - الملائكة والجن وآدم عليه السلام: أسرار الابتلاء وحِكَم الاستخلاف


  المقدمة:

الحمد لله الذي خلق الخلق بحكمته، وجعل الابتلاء سُنّة ماضية في الملائكة والجن والإنس، ليظهر من يطيع أمره ممن يعصيه، ومن يستجيب لهدى الوحي ممن يتبع الهوى. والصلاة والسلام على سيدنا محمد ﷺ، الذي بيّن للناس معاني الهداية، ودلّهم على عبادة الله وحده لا شريك له.

إن موضوع الابتلاء من أعظم أبواب المعرفة، إذ نقرأ في القرآن الكريم عن ابتلاء أبينا آدم عليه السلام، وابتلاء إبليس من الجن، وابتلاء الملائكة حين أخبرهم الله بجعل الإنسان خليفة في الأرض. ومن خلال هذه القصص يتجلى لنا أن كل مخلوق، على اختلاف طبيعته: من نور، أو نار، أو طين، إنما هو داخل في دائرة الامتحان، وفق ما أودع الله فيه من خصائص.

وفي هذا الدرس سنتأمل الحكمة من هذه الابتلاءات الثلاثة، وكيف أنها تكشف عن سرّ الخلق، وعن أن الله وحده هو العليم الحكيم، الملك الحق، الرحمن الرحيم، المستحق وحده للتسبيح والقداسة.

السلام عليكم أيها الإخوة والأخوات في هذه المجموعة..

   نحمد الله سبحانه وتعالى رب العالمين، ونصلي ونسلم على خاتم النبيين محمد ﷺ تسليمًا كثيرًا، ونسأل الله أن يرضى عن جميع الصحابة أجمعين.

من خلال القرآن الكريم نتعلم أن الملائكة والجن خُلقوا قبل آدم عليه السلام، وأنهم جميعًا أرواح، بينما خُلق آدم عليه السلام من مادة تجمع بين الجسد والروح. وقد نفخ الله فيه من روحه، وعلّمه الأسماء كلها، وجعل في سابق علمه أن يكون آدم وذريته خلفاء في الأرض، ولذلك أمر الملائكة أن يسجدوا له.

أما إبليس، فرغم أنه ليس من الملائكة وإنما من الجن، فقد شمله الأمر بالسجود، لكنه عصى أمر الله ولم يسجد، فكان أول من أخفق في الاختبار، وظهرت منه صفات الخسة والتمرد.

وأما آدم عليه السلام، فابتلاءه كان يسير الفهم: إذ أذن الله له ولزوجه أن يعيشا في الجنة، لكنه نهاهما عن الاقتراب من شجرة معينة. غير أنهما استجابا لوسوسة الشيطان واقتربا من الشجرة، فكان ذلك مخالفةً لأمر الله، ودليلًا على أن آدم أيضًا وقع في الابتلاء ولم ينجح فيه ابتداءً.

وأما الملائكة، فكيف نفهم أنهم ابتُلوا؟ إنما يتضح ذلك من قول الله تعالى حين أخبرهم أنه سيجعل في الأرض خليفة، فقالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟ فأجابهم رب العالمين بقوله: إني أعلم ما لا تعلمون.

وهذا يُبيّن لنا أن الله وحده العليم بالغيب، الحكيم في تدبيره، وأن كل ما في القدر من أسرار إنما هو بعلمه وإرادته. ومع أن الملائكة مخلوقات رفيعة المنزلة، وموجودة في عالم الغيب، وبعض أمور ذلك العالم موكول إليها تدبيره، إلا أنها مع ذلك جاهلة بأسرار القدر، مترددة في بعض معانيه، مما يدل على أنها أيضًا داخلة في الابتلاء والامتحان، وإن كان ابتلاؤها غير ظاهر كابتلاء الجن والإنس.

إذن، فهذه الأنواع الثلاثة من المخلوقات – الملائكة والجن والإنسان – كلها داخلة في سُنّة الابتلاء، وإن كان امتحان الملائكة ألطف وأخفى.

ابتلاء الإنسان: معنى النعمة والامتحان في قصة آدم عليه السلام

إن ما نريد تحليله هنا هو النعم التي وزعها الله على هذه المخلوقات الثلاث (الملائكة، والجن، والإنسان) وما تحمله من ابتلاءات في جوهرها.

ونبدأ بالإنسان، لأنه الأقرب لنا فهمًا، بخلاف الجن الذين هم لطائف غيبية، والملائكة الذين هم أبعد وأعظم من أن نحيط بحقيقتهم.

فالإنسان خُلق من طين، ونُفخ فيه الروح، فصار جسدًا حيًّا بروحه. والجسد له حاجات مادية لا بد أن تُلبى، ولذلك واجه الإنسان العالم المادي بكل عناصره. فالله أودع في الإنسان حاجات الجسد: من شهوة الطعام والشراب، وشهوة الجنس.

ولذلك كان أول امتحان لآدم عليه السلام متعلقًا بالطعام، لأنه أعظم ما يحتاج إليه الجسد للبقاء. فالله نهاه وزوجه عن الأكل من شجرة معينة. وكان هذا الابتلاء عظيمًا؛ لأن حاجة البقاء هي أقوى ما في الجسد. فمن أجل أن يأكل الإنسان يسعى في عالم الخلق، يبحث في عناصر الطبيعة: في الماء والهواء والنار والتراب، وفي النبات والحيوان. وهو في أثناء هذا السعي يكشف أسرار الخلق طلبًا للرزق.

لكن من دون وجود حدٍّ شرعي يفرق بين الحلال والحرام، يصبح الإنسان متجهًا فقط نحو تلبية حاجات نفسه، وينسى خالقه. فجعل الله هذا الابتلاء بالتحليل والتحريم ليبقى الإنسان ذاكرًا دائمًا أن وراء الحلال والحرام ربًّا حاكمًا، له السلطان، له يوم الحساب، لا يُعصى أمره.

كما أن وجود معيار الحلال والحرام هو علاج للنفس ,التي بطبيعتها إذا تُركت دون ضابط أمرت بالسوء وأظهرت صفات الظلم والعدوان. فالإنسان يحتاج إلى الطعام يوميًا، وكلما أكل تذكّر أن هناك حلالًا وحرامًا، ومع تذكر الحلال والحرام يتذكر واهب الشريعة وهو الله رب العالمين.

فمن دون هذا الضابط، لو تُركت النفس على سجيتها، حتى لو ضبطتها الأخلاق أو التربية أو الأعراف، فلن تتجاوز حدود طلب لذائذ الدنيا الفانية، ولن ترتقي إلى مطالب الروح التي تشتاق إلى البقاء الأبدي بعد البعث، وترغب في لقاء الله ورؤيته في الآخرة.

ولهذا كان ابتلاء آدم عليه السلام مرتبطًا بالطعام: أن يتعلم أن وراء الحاجات المادية ابتلاءً أعظم، وهو أن يظل ذاكرًا لله، ملتزمًا بحدوده.

فإذا غلبت الشهوة الإنسان، وتسلطت عليه نفسه، ووسوس له الشيطان فعصى، فإن العلاج هو التوبة السريعة كما فعل أبونا آدم عليه السلام، الذي بادر بالاعتراف والإنابة وطلب المغفرة. وبذلك تستعيد الروح طهارتها وصفاءها، لأن الله هو الغفور الرحيم، يقبل التوبة ويغفر الذنب، فيشهد التائب أن الله هو المتفرد بالصفات الحسنى، ويذكره بأسمائه، فيكون ابتلاؤه سببًا في مزيد من معرفة الله وتعظيمه.

ابتلاء الجن وما يحمله من أسرار

ننتقل الآن إلى ابتلاء الجن كما ورد في القرآن الكريم. فقد سمّى الله هذه المخلوقات بأسماء مختلفة بحسب أحوالها: فتارة يسميهم جنًّا، وتارة يسميهم إبليس، وتارة يسميهم شياطين.

فعندما يُطلق عليهم اسم الشياطين، فالمقصود أنهم في حال الطرد من رحمة الله، منغمسون في الظلم والشر والفساد.
وحين يُذكر اسم إبليس، فإنه يشير إلى الكِبر والتعالي، وإلى كونه يملك جندًا وأتباعًا يعيثون فسادًا، مع ملاحظة أنه رغم طغيانه كان مؤمنًا بوقوع البعث والقيامة، ولكنه يستخدم تفكيره الشيطاني ليضل الناس ويؤذيهم.
أما لفظ الجن، فهو اللفظ الجامع لهم باعتبارهم جنسًا واحدًا، كما يُقال عن البشر: "الناس"، ويُقال عنهم أيضًا: "بنو آدم" أو "بشر" باعتبارهم ذوي لحم ودم.

فبعد أن خلق الله آدم عليه السلام، وأمر الملائكة بالسجود له، امتُحن إبليس بهذا الأمر، لكنه رفض السجود. والسبب راجع إلى طبيعته: إذ إن الجن مخلوقون من نار، والنار تحمل خصائص لا انضباط لها، وفيها حرارة وقوة واندفاع. فأورثته هذه الصفات شعورًا بالكِبر والعلو، فزعم أنه أشرف من آدم.

ومن هنا نعرف أن الجن لهم خصيصة بارزة: حب الحرية والانفلات من القيود، والسعي لإشباع نزواتهم الروحية والفكرية، بخلاف الإنسان الذي يميل إلى مطالب الجسد والجانب المادي. فالجن – لكونهم أرواحًا مخلوقة من نار – اشتد عندهم جانب الهوى: التطلع إلى السلطة، والجاه، والعزّة، والحرية.

وعندما جاءهم الابتلاء، كان بمقتضى هذه الخصائص: فقد أمرهم الله بالسجود لآدم. لكن إبليس رأى في ذلك انتقاصًا لمكانته، وإذلالًا لمجده وكرامته. فسقط في الامتحان، وكشف عن استكباره، وعصى أمر ربه، فأصبح مطرودًا مذمومًا.

ومع ذلك، يخبرنا القرآن – في سورة الجن والأحقاف – أن من الجن من سمع القرآن فآمن به، وخضع لله، فقيّد شهواته ونزعاته، فكان مهتديًا. ومن استسلم للكبرياء والهوى صار في عداد "إبليس"، أي كل من اتصف بتلك الصفات صار شبيهًا به، وإن لم يكن شخصه.

فجنس الجن إذًا قائم على هذا التباين: منهم من استجاب لله، ومنهم من غلبت عليه نزعة الحرية المنفلتة، والكبرياء، والغرور، فاستحق اللعنة.

والحقيقة أن الذي يشبع حاجات الروح ومطالب الهوى عند الجن ليس التمرد، وإنما الطاعة لأوامر الله، لأنها صادرة عن كلامه، وفي كلامه يكمن سر الأسرار وحقيقة الوجود. ومن أطاع الله منهم مُنح قدرةً على الأمر والنهي، وصار له شأن في تبليغ الحق والدعوة إليه، فتحقق له الشرف والرفعة الحقيقية.

أما إبليس، فلم يُحكّم عقله ولا يتفكر في أمر ربه، بل اتبع هوى نفسه مباشرة، فكشف عن كِبره واستعلائه، فأصبح من المطرودين الأذلاء إلى يوم الدين.

ابتلاء الملائكة وما يكشفه من أسرار

نقرأ الآن عن ابتلاء عالم الملائكة. فالملائكة مخلوقون من نور، وللنور خاصية الكشف والإضاءة لما في داخله. وهم يعيشون في عالم الحقائق الواضحة (عالم الغيب المكشوف)، لا يعتريهم تكليف، ولا يعرفون تبدل الأحوال والمراتب كما هو حال البشر. وقد أوكل الله إليهم إدارة شؤون العالم الغيبي، كما أوكل إليهم مهام في تدبير العالم المادي: من إدارة الجبال والأنهار وسائر الخلق، وإنزال العقوبة على من عصى، ومجازاة من أطاع، فهذه من النعم التي وهبها الله لهم بما جعل فيهم من خصائص النور.

لكن مع ذلك، فإنهم عاجزون عن إدراك عالم الظلمة؛ إذ كيف يُدرك الظلام بالنور وحده؟ فهم يعرفون الحقائق الواضحة، أما ما يُدرك بالخبرة والتجربة والحواس – كالمس والمعايشة والشم والشعور – فهذا مما يختص به الإنسان. فالإنسان قادر على إدراك ما في الظلام عبر تجربته وإحساسه، بينما الملائكة قاصرون عن ذلك.

ولهذا قال الله: إنه سيجعل في الأرض خليفة من البشر، المخلوقين من طين – من طبيعة مادية معتمة – قادرة على خوض هذا العالم المظلم، واستخراج الدلائل منه لتكون آيات شاهدة على الخالق. عندها تساءلت الملائكة: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟ فأجابهم رب العالمين: إني أعلم ما لا تعلمون.

أي أن الله لم يمنحهم ما وهبه للإنسان من وسائل الإدراك التجريبي (كاللمس والشم وغير ذلك من الحواس)، فلم يُقدّر لهم أن يعرفوا الله من خلال عالم الظلمات، ولا أن يجعلوا من ذلك العالم آيات تدل على خالقه. فالخلافة في الأرض عهدها الله للإنسان، لأنه قادر على إدراك أسرار هذا العالم المادي المظلم.

فالملائكة، وإن كانوا يعيشون في عالم الحقائق الواضحة، ويعرفون شيئًا من أسرار القدر بما أوكل إليهم من حمل الصحف واللوح، فإنهم محدودو الإدراك من جهة التفكير. فهم أصحاب عقل محض، لكنهم عاجزون عن إدراك ما يحتاج إلى مزيج من التفكير العقلي والتجربة الحسية والتفكير الوجداني. لذلك حين أخبرهم الله عن خلافة الإنسان، لم يدركوا تمام الحكمة، وظلت عندهم أسئلة وشبهات، فأوضح الله لهم أن العلم الكامل عنده وحده، لأنه هو العليم الحكيم.

وهكذا يتبين أن الله سبحانه امتحن كل صنف من خلقه بما يليق بطبيعته:

  • امتحن الملائكة بالعلم، لأنه هو وحده العليم الحكيم.
  • وامتحن الجن باتباع الهوى، لأنه هو الملك الحق، صاحب السلطان المطلق، الحرية المطلقة التي لا تحدها قيود.
  • وامتحن الإنسان بشهوات الجسد وحاجاته، لأنه هو الرحمن الرحيم، البرّ المحسن، الذي جعل الحلال والحرام ضابطًا للنفس، لتنال به خير الدنيا والآخرة.

فكل الخلق آيات على الله، وهو الذي يعلم سر خلقهم، ويعلم كيف يبتليهم. ومن خلال هذا الابتلاء يظهرون شهادتهم بأن الله وحده المستحق للعبادة، لا شريك له، فيكونون دلائل على صفاته وأسمائه الحسنى.

وهكذا نفهم أن هذه الابتلاءات الثلاثة إنما تكشف عن الحكمة الإلهية العظمى، وأن الله تعالى وحده هو الإله الواحد، رب العالمين، المستحق للتسبيح والتنزيه والتقديس.

وبذلك نختم هذا الدرس، فإن كان فيه خطأ أو تقصير فأسأل الله العلي العظيم أن يغفر لي، وأرجو منكم المعذرة. جزاكم الله خيرًا على المشاركة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رحلتي من الصين الى الاسلام

دروس سورة الفاتحه (1) الاستعاذة بالله – درع المؤمن ضد الوسوسة والانحراف

دروس سورة الفاتحه (4) "رَبِّ الْعَالَمِينَ" — سر العوالم وشهادة الخلق بوحدانية الله