(18) سورة البقرة : الاستخلاف والتسبيح بالاسماء الحسنى ودلالتهما على كرامة الانسان
المقدمة:
الحمد لله الذي خلق
الإنسان وشرّفه بالعلم، وعلّمه الأسماء كلها، وجعله خليفة في الأرض ليعمرها بالحق
والعدل، ويكون شاهدًا على وحدانيته وتنزهه سبحانه. والصلاة والسلام على سيدنا محمد
ﷺ، الذي بلّغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه
اليقين، ورضي الله عن آله وأصحابه أجمعين.
إن موضوع كرامة
الإنسان موضوع عظيم ورد ذكره في القرآن الكريم منذ بداية خلق آدم عليه السلام، حيث
علّمه الله الأسماء كلها، وأمر الملائكة بالسجود له تكريمًا وتشريفًا. لكن هذه
الكرامة لم تقتصر على العلم وحده، بل شملت جوانب أعمق، منها: شهادة الإنسان على
وحدانية الله وصفاته، وقدرته على التسبيح والتنزيه من خلال كشف أسرار الخلق، وتزكية
النفس، وذكر أسماء الله الحسنى في حالاته المختلفة.
ولأن الإنسان مخلوق
مكلَّف يواجه الابتلاء والاختبار، فإن شهادته على ربه تكون أعمق من شهادة
الملائكة، لأنها تنبع من التجربة والمعاناة، ولأنها مقرونة بالخوف والرجاء،
وبالسعي لنيل الخير في الدنيا والآخرة. وهذا ما يجعل الإنسان مكرمًا عند الله،
مستخلفًا في أرضه، قادرًا على أن يكون آيةً على عظمة خالقه وقداسته.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أيها الإخوة والأخوات .. الحمد لله رب العالمين،
ونحمده على جلاله وعظمته، ونصلي ونسلم تسليمًا كثيرًا على خاتم الأنبياء محمد ﷺ،
ونسأل الله أن يرضى عن جميع الصحابة أجمعين.
موضوعنا اليوم: هل
كان آدم عليه السلام كريمًا ومكرمًا عند الله لمجرد أنه أوتي العلم؟
من خلال الآيات
القرآنية نعلم يقينًا أن الله علّمه الأسماء كلها، وأن الملائكة سجدوا له، وهذا من
مظاهر تكريمه. لكننا اليوم نريد أن نقرأ بتعمق وبدقة النعم التي أسبغها الله عليه،
والتي جعلته مكرمًا، وأن الكرامة ليست محصورة في العلم وحده.
فالإنسان إنما ينال
الكرامة لأنه يحمل خصيصة عظيمة تجعله آية من آيات الله؛ إذ إنه في الغيب يعرف ربه،
وفي الغيب يذكر ربه، ويعبده، فيشهد على تفرد الله بصفاته وأسمائه الحسنى. ومن هنا
كان آدم عليه السلام، حين خلقه الله، أول من رحم بالعلم، فعلّمه الأسماء كلها
ليتيسر له طلب المنافع في العالم المادي. لكنه وهو يطلب المنافع لا بد أن يشهد على
عظمة الله وتنزهه، من خلال مواجهته لعالم الخلق المادي ومحاولته كشف أسراره خطوةً
خطوةً في سبيل البقاء.
فأول شهادة أُعلنت
على لسان أول إنسان، وآدم ومن بعده ذريته، هي: أن المخلوقات ليست مثل الله، وأن
الخلق ليس مثل الخالق. فما يُدرك بالبصر من ذوات الأشكال والصور يُنَزَّه الله عنه
بالنفي، وكذلك ما يصل إليه العقل من مجردات لا يجوز أن يُشبَّه بالله، بل يُنَزَّه
عنها. وما يُعرف بالقرائن أيضًا – كالقدرة والقوة والمجالات المغناطيسية والأشعة
تحت الحمراء وغيرها – فكلها تُرد إلى الخلق وتُنَزَّه ذات الله عنها.
ومعنى ذلك: أن كل ما
في الكون آيات مخلوقة دالة على الخالق، لكنها ليست الخالق نفسه. فإذا شهد الإنسان
بهذه الحقيقة، فإنه يكون قد شهد أن للخالق وجودًا حقيقيًا وذاتًا مستقلة، وأن كل
ما عداه مخلوق ناقص لا يشبهه. وبذلك يُثبت الإنسان وحدانية الله وتنزهه المطلق عن
مشابهة خلقه في أي حال أو طور أو مكان أو زمان أو مرتبة.
فالإنسان حين ينطق
بهذه الشهادة يصبح آية على ربه، ويشهد بوجوده الحقيقي وبتفرده. وهذه هي العلة التي
لأجلها كان آدم عليه السلام كريمًا ومكرمًا، لأنه أوتي العلم الذي يقوده إلى
الشهادة على وحدانية الله وتنزهه المطلق.
تفوق شهادة الإنسان
على شهادة الملائكة في تسبيح الخالق
لا شك أن عالم
الملائكة يشهد على وجود الله ووحدانيته، غير أن شهادتهم لا تبلغ كمال شهادة
الإنسان، لماذا؟
فالملائكة موكّلون
بإدارة شؤون العالم المادي: فمنهم من يُدبّر الجبال والأنهار والزروع، كما نتعلم
من "سورة الذاريات"، ومنهم من ينفذ أوامر الله في عقوبة المجرمين
والعصاة. وهم يتعاملون مباشرة مع المادة، لكنهم لا يكشفون من خلالها عن النعم
الإلهية الكامنة فيها. فعلى سبيل المثال: حين يبذرون البذور، لا يتأملون في سرّ
الخلق الكامن في داخلها ولا في كيفية تحول الجينات.
أما الإنسان، فبحكم
حاجته وطلبه للمنفعة، فإنه يسعى لاكتشاف هذه الأسرار، فيخترع علومًا كالهندسة
الوراثية، ومن خلال بحثه يشهد على بديع صنع الله، فيسبّحه وينزّهه ويعظّمه. وهنا
يتفوق الإنسان على الملائكة في التسبيح، لأنه يخرج من عمق التجربة والمعرفة.
ولذلك، حين قال الله
بعد خلق آدم عليه السلام إنه جاعل في الأرض خليفة، قالت الملائكة: أتجعل فيها من
يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدس لك؟ فهم كانوا يظنون أن التسبيح
الذي يقومون به مباشرة هو أرقى وأكمل. ولم يدركوا أن الإنسان بما أوتي من شهوة
ورغبات، سيدفعه ذلك إلى البحث والكشف عن أسرار الكون طلبًا للرزق وإشباعًا
للحاجات، ومن ثمّ سيكون أقدر على الشهادة بعظمة الله وتنزيهه.
ومن هنا بعث الله
الرسل والأنبياء، وكان آدم عليه السلام أولهم، ليعرّفوا الناس بخالقهم، وليبيّنوا
لهم أن العبادة لله وحده هي الكمال. فالإنسان حين يكشف الأسرار بعلمه، يخرج من
قلبه التسبيح لله والشهادة على وحدانيته.
وبهذا صار الإنسان
متقدمًا على الملائكة في التسبيح والشهادة؛ لأن شهادته تنبثق من معاناة وكشف
وتجربة، بينما شهادة الملائكة مباشرة منذ الخلق. وقد بيّن الله ذلك حين قال: إني أعلم ما لا تعلمون. فهو سبحانه يعلم أن الإنسان بما فيه من شهوة سيدفعه ذلك إلى طلب الخير
واكتشاف أسرار الخلق، ومع بعثة الرسل والأنبياء سيهتدي إلى الحق، ويشهد أن الله هو
الخالق الحق.
لذلك فإن الإنسان،
بما يكشفه من أسرار الخلق ويشهده من دلائل الربوبية، يسبق الملائكة في التسبيح
والتنزيه، فيبقى الملائكة دائمًا متأخرين عن الإنسان في هذه المرتبة، رغم أنهم
خُلقوا ابتداءً للتسبيح والتنزيه، أما الإنسان فمع أنه مخلوق بالاختيار والابتلاء،
فإنه يفضُلهم بما يُظهره من تسبيح صادر عن المعرفة والكشف والإيمان.
تفوق الإنسان على
الملائكة في تسبيح الله وتقديسه
ثانيًا: للإنسان ميزة
عظيمة، وهي أن تسبيحه وتقديسه لله يمكن أن يكون أرقى وأعظم من تسبيح الملائكة.
فالإنسان مخلوق من
مادة، لكن الله نفخ فيه من روحه، فصار قادرًا على تلقي الهداية من ربه. وبفضل هذه
الهداية، يسعى الإنسان من خلال معرفة روحه إلى معرفة ربه وتسبيحه وتنزيهه. وقد
وُضع الإنسان في هذا العالم المادي ليكشف المعاني الكامنة في الروح: كمعرفته
للنفس، وكيف يضبط غرائزه ليترقى بروحه حتى يبلغ حالة النفس المطمئنة، فتظهر بذلك
صفات الروح المقدسة التي أودعها الله فيه.
ومن هنا كان على
الإنسان أن يتعرف أولًا على خصائص نفسه: هل هي شريرة بطبيعتها أم خيّرة؟ وقد دار
حول هذه القضية نقاش طويل في الفلسفة الشرقية والغربية، وكثرت حولها الخلافات
والآراء، وكلها محاولة لفهم حقيقة الروح ومعناها. غير أن الله – الذي خلق الإنسان
– هو وحده الأعلم بباطن النفس الإنسانية. ولهذا بعث آدم عليه السلام أولًا، ثم ختم
بالرسول محمد ﷺ، وأوكل إليهما ومن بينهما سائر الأنبياء حفظ الرسالات التي تُبين
للإنسان حقيقة نفسه (النَّفس) وحاجاته الروحية.
فالقرآن الكريم فصّل
في ذلك كله: بيّن خصائص النفس، وحاجات الإنسان المادية من شهوات الطعام والشراب
والجنس (الشهوات)؛ وبيّن ما يتعلق بعواطفه، واهتماماته الروحية (الهوى)؛ وبيّن حقيقة النفس والعقل ) وشرح ما أودع الله في الفطرة الإنسانية من صفاء (الفطرة)؛ وأوضح أمر الروح )، وكيف يُظهر الإنسان قداستها من خلال عبادة الله.
والمقصود أن الله شرع
للإنسان سُبُل العبادة التي تُزكّي النفس وتُطهر الروح: من أوامر وفرائض، ونوافل
ومستحبات، ومنهج متكامل يضم الشرع، والدين الحق، وشريعة الله التي تشمل حق الله
وحق الإنسان، وحقوق الفرد وتربيته وأخلاقه. وكل هذا يقود إلى أن يبلغ الإنسان حالة
العبادة الكاملة التي تُثمر في قلبه سكينة وطمأنينة، فيتجلى فيه الصفاء والنقاء.
وحينئذٍ يصبح الإنسان
شاهدًا على أن ربه هو القدوس الأزلي الأبدي: الكامل الذي لا يشوبه نقص، الغني عن كل ما سواه، المتعالي المطلق. ومن
خلال عبادته لله، لا يشهد فقط أنه الإله الواحد المستحق للعبادة، بل يشهد أيضًا
أنه القدوس المنزه، الذي لا يعتريه عيب، ولا يحده قيد، وهو المتفرد في كماله
وتنزيهه.
ومن هنا يتبين أن
شهادة الإنسان على قداسة ربه وتنزيهه أرقى من شهادة الملائكة، لأنه يصل إليها بعد
مجاهدة نفسه، وقهر شهواته، وإظهار روح القداسة التي أودعها الله فيه. وبهذا يكون
الإنسان قد تفوق على الملائكة في تسبيح ربه وتقديسه.
تفوق الإنسان على
الملائكة في ذكر أسماء الله الحسنى
الميزة الثالثة التي
تجعل تسبيح الإنسان لله أرقى من تسبيح الملائكة هي أن الإنسان يستطيع أن يذكر
أسماء الله الحسنى ويُثني عليه بها.
فآدم عليه السلام –
وهو أول إنسان – حين ارتكب المخالفة وأكل من الشجرة المحرمة، كان أول ما علم أن
لربه اسمًا جميلاً وهو: التواب. وكيف عرف ذلك؟ لأن الله كان قد علّمه الأسماء كلها، فعرف من خلال دلالتها
أن لله صفاتٍ وأسماءً عظيمة.
أما الملائكة، فإنهم
يرون من العوالم الغيبية والروحانية ما لا تراه عين الإنسان، ويعيشون في مقام لا
يتغير ولا يتبدل، لكن الإنسان مقيَّد بأحوال الدنيا والآخرة، خاضع للتكليف
والامتحان. ولهذا يدرك الإنسان بعمق الفرق بين اسمي الله الرحمن و الرحيم: فلو انغمس في الدنيا عرف أن رحمة الله العامة (الرحمن) قد وسعته، لكن إن
حُرم من نعيم الآخرة علم أنه لم ينل الرحمة الخاصة (الرحيم). ومن ثم فإن الإنسان
حين يذكر هذين الاسمين، يكون إدراكه أوضح وأعمق من إدراك الملائكة.
فالإنسان، بما أنه
مكلَّف وله رغبات ويواجه النعم والمصائب، يعرف أنه لا بد له من عبادة الله لينال
الطمأنينة. ومن هنا حين يذكر اسم الله الأعظم "الله" – أي المعبود الحق – فإنه يذكره بوعي كامل، لأنه يدرك أن من أشرك بالله
عُوقب، وأنه لا يجد الراحة في الدنيا ولا في الآخرة إلا بعبادته وحده. ولذلك فإن
ذكره لهذا الاسم يكون ممزوجًا بالخوف والرجاء معًا.
وبما أن الإنسان
مخلوق ضعيف، تحيط به القيود والابتلاءات، فإنه يضطر دائمًا إلى دعاء الله وذكر
أسمائه بحسب حاجاته:
- فإذا أراد أن يكون صابرًا، ذكر أن ربه هو الصبور.
- وإذا أراد أن يتوكل، ذكر أن ربه هو الوكيل.
- وإذا ظُلم وأُسيء إليه، ذكر أن ربه هو العدل.
وهكذا فإن الإنسان
يعرف كيف يستدعي اسم الله المناسب لحاله، ويستعين به، ويدعوه به.
ومن خلال تعلم
الأسماء الحسنى التسعة والتسعين، يعلم الإنسان أن كل اسم منها يتضمن نعمةً من الله
للعباد، فيلجأ إلى ربه في دعائه وعبادته طلبًا للخير في الدنيا والآخرة، مستعينًا
باسمه المناسب لحاجته.
وبذلك يكون ذكر
الإنسان لأسماء الله شهادة حقيقية على صفاته الحسنى وأسمائه العظمى. فهو حين يطلب
الرزق أو العافية أو المغفرة أو النجاة من البلاء، إنما يُظهر أن الله هو المنفرد
بالصفات كلها، وأنها لا تُشرك بغيره.
ولأن الله هو الكامل
المطلق، الخير كله، والبر كله، فإنه يجعل الإنسان قادرًا على فعل الخير. فالإنسان
يصبح آيةً عليه، لأنه سبحانه هو مصدر كل خير. ولهذا فإن كل من يُظهر الخير في هذا
الوجود – سواء كان إنسانًا مستخلفًا في الأرض، أو مَلَكًا مطيعًا، أو أي مخلوق
تظهر فيه صفات الخير – إنما هو آية على الله، الذي له وحده الكمال في الخير.
الخاتمة – كرامة
الإنسان في الشهادة على وحدانية ربه
وبذلك، إذا جمعنا بين
الأمور الثلاثة:
- شهادة الإنسان على وجود الله ووحدانيته في ذاته.
- وشهادته على قداسة روحه وتنزهه عن الشريك.
- وشهادته على صفاته وأسمائه الحسنى التي لا يُشرك فيها أحد.
تكون شهادة الإنسان
أعمق وأكمل من شهادة الملائكة، لأنه يشهد من خلال معاناته وابتلائه، ومن خلال ذكره
لأسماء ربه وصفاته في حال طلبه للخير والرزق والرحمة، فيخرج ذكره عن تجربة حقيقية.
وخلاصة موضوعنا: أن كرامة الإنسان تكمن في أن الله منحه نعمة العلم، ومع دفع الشهوة فيه،
صار بالعلم يكشف أسرار الخلق، ويهتدي إلى أن الله هو الخالق الحق، فيشهد ربه حق
الشهادة. ومن خلال هداية الله له، يتعلم كيف يعبده ولا يشرك به شيئًا، فتُضبط
شهواته وتُوجَّه توجيهًا صحيحًا.
فالإنسان، وهو يكشف
أسرار نفسه والوجود، يُثني على الله بالتسبيح والتنزيه، لأنه وحده الذي يستحق
العبادة. ومن خلال العبادة يصل إلى حالة النفس المطمئنة، فيكون آية على قداسة
الله، فيُسبّحه ويُقدّسه.
وبما أن الإنسان يعيش
في ابتلاءات من خير وشر، ويطلب نعيم الدنيا والآخرة، فإنه لا ينفك عن دعاء الله
بأسمائه الحسنى: فيدعوه لرفع البلاء، ولإنزال الخير، وللمغفرة والهداية، ولمنحه
حسن الدنيا والآخرة. وهكذا تتحقق في حياته اليومية شهادة حية على أن الله وحده
الذي لا شريك له، وأن الخير كله بيده وحده، فهو المتفرد بالصفات الحسنى.
فالإنسان إذًا لا
يشهد فقط أن الله هو الإله الواحد، بل يشهد أنه سبحانه هو الكامل المطلق، خير محض،
برٌّ محض، وما قدرة الإنسان على فعل الخير إلا أثر من رحمته، لأنه العبد المستخلف.
وبذلك نختتم موضوعنا
لهذا اليوم، فإن كان في الكلام خطأ أو تقصير فأسأل الله العلي العظيم أن يغفر لي،
وأرجو من الإخوة والأخوات العذر والمسامحة. جزاكم الله خيرًا على المشاركة،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تعليقات
إرسال تعليق