(17)"سورة البقره - سرّ استخلاف آدم وذريته في الأرض


  المقدمة:

الحمد لله الذي خلق الإنسان من طينٍ، ونفخ فيه من روحه، فشرّفه بالعقل، وفضّله بالتكليف، واختصّه بحمل الأمانة، وجعله خليفةً في الأرض، يتعبد الله بعمارتها بالحق والعدل، ويُظهر فيها صفات ربه بالتسبيح والشهادة والطاعة. والصلاة والسلام على سيّد الخلق وإمام المرسلين محمد ﷺ، الذي بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.

إنّ موضوع الاستخلاف في الأرض من أعظم الموضوعات القرآنية، فقد تحدّث عنه القرآن منذ بداية خلق آدم عليه السلام، حين أعلن الله للملائكة: "إني جاعل في الأرض خليفة". وهذا الاستخلاف لم يكن حكرًا على آدم وحده، بل سُنّة إلهية متواصلة مع نوح وإبراهيم ويوسف وموسى وشعيب وداود وسليمان عليهم السلام، بل ومع أمة محمد ﷺ التي حمّلها الله مسؤولية الشهادة على الناس جميعًا.

ويتجلّى سرّ الاستخلاف في أمرين عظيمين:

1.   أن الإنسان مخلوق متميّز عن الملائكة والجن بحرية الاختيار، فهو يواجه ابتلاءات الشهوة والهوى، ويقف أمام امتحانات الدنيا والآخرة.

2.   أن الإنسان مُنح القدرة على التوبة، والرجوع إلى الله، والتكامل الروحي والمعرفي، حتى يشهد بأسماء الله الحسنى وصفاته العلا، فيكون آية ظاهرة على أن الله هو المعبود الحق الذي لا شريك له.

إنّ هذا الدرس محاولة للتأمل في أسرار الاستخلاف كما عرضها القرآن الكريم، وكيف أنّ الإنسان إذا أطاع ربّه، وصبر على الطاعات والمصائب، وكفّ عن المعاصي، صار خليفةً بحقٍّ في الأرض، مكرّمًا حتى على سكان السماء.

 

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

   أيها الإخوة والأخوات في هذه المجموعة. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين محمد ﷺ تسليمًا كثيرًا، ورضي الله عن جميع الصحابة أجمعين.

موضوعنا اليوم: التعرف على آدم عليه السلام وعلى أن ذريته هم خلفاء في الأرض، وما يحمله ذلك من معانٍ عظيمة.

بالنسبة إلى كلمة خليفة، فقد تُترجم أحيانًا إلى "الوكيل" أو "النائب" أو "الحاكم بالنيابة"، وكلها تعود إلى أصل كلمة خلف. فعندما خلق الله تعالى الإنسان الأول آدم، قال للملائكة: إني جاعل في الأرض خليفة. ولأن الإنسان هو الساكن في الأرض والمستخلف فيها، كان من الضروري أن نفهم معنى "الخليفة" فهمًا صحيحًا. فهذا الوصف العظيم منحة ربانية خصّ الله بها آدم وذريته منذ لحظة الخلق.

وفي القرآن الكريم، لم يقتصر ذكر الاستخلاف على قصة آدم، بل ورد أيضًا في مواضع أخرى: ففي سورة هود، يذكر الله تعالى إنجاء نوح عليه السلام ومن معه في السفينة، وجعلهم خلفاء في الأرض. يقول تعالى في الآية 57 من سورة هود:
فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قومًا غيركم ولا تضرونه شيئًا إن ربي على كل شيء حفيظ.

وفي الآية يظهر لفظ خلف بمعناه.

وكذلك في سورة يونس، الآية 73، يخبرنا الله تعالى بوضوح:
فأنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين.

فقوله: فأنجيناه إشارة إلى نوح عليه السلام ومن ركب معه السفينة، حيث نصّ الله تعالى على أنه جعلهم خلائف في الأرض، أي خلفاء مستخلفين بعد الهالكين من قوم نوح.

استخلاف ذرية إبراهيم والأنبياء من بعده في الأرض

ونحن نعلم أن هناك بعد ذلك أسرة عظيمة، وهي أسرة إبراهيم عليه السلام وذريته. فقد أخبرنا ربنا في سورة النساء، الآية 54:
فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكًا عظيمًا.

وهنا عبّر ربنا عن السلطان الواسع بلفظ مُّلْكًا عَظِيمًا، أي أنه منحهم الملك، ومتى وُجد الملك وُجدت المملكة، ومتى وُجدت المملكة كان فيها معنى النيابة والاستخلاف.

فعلى سبيل المثال: لقد منح الله يوسف عليه السلام العلم والملك، فقام بتدبير شؤون البلاد في سبع سنوات من الخصب تلتها سبع سنوات من الجدب، ثم أعقبها سنوات خصب أخرى، فكان سببًا في إيصال رحمة الله وبركاته للناس، وأصبح بذلك خليفة صالحًا مستخلفًا في الأرض.

ثم يذكر القرآن أيضًا موسى عليه السلام وبني إسرائيل، حيث أغرق الله فرعون وجنوده، ومكّن لبني إسرائيل في الأرض. ففي سورة يونس، الآية 93، يقول تعالى:
ولقد بوّأنا بني إسرائيل مبوّأ صدق ورزقناهم من الطيبات.

فقد أنعم الله على بني إسرائيل بالتمكين، وكان ذلك استخلافًا ومنحة من الله في الأرض.

وفي سورة هود، الآية 88، نتعلم أن الله سبحانه قد رحم شعيبًا عليه السلام بمنحة الاستخلاف في الأرض، إذ قال لقومه:
وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

وفي التفسير يمكن أن نُفَسِّر كلمة أُخَالِفَكُمْ بمعنى أنه لم يكن يخالفهم إلى ما ينهاهم عنه، بل كان مجتهدًا في الإصلاح. ونحن نعلم أن قوم شعيب كانوا يتلاعبون بالمكيال والميزان ويفسدون في الأرض بالظلم، فكان يأمرهم بالعدل وينهاهم عن الجور. وهذا هو مضمون منحة الاستخلاف التي وهبها الله له.

استخلاف داود وسليمان، والاستخلاف في أمة محمد ﷺ

وهناك أيضًا أحد أحفاد بني إسرائيل العظام، وهو من ذرية يعقوب عليه السلام، ألا وهو داود عليه السلام، حيث أخبرنا ربنا بوضوح أنه جعله خليفة في الأرض. ففي سورة ص، الآية 26، يقول تعالى:

يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله، إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب.

ونعلم أن الله تعالى لم يخص داود عليه السلام بالملك فحسب، بل منح كذلك ابنه سليمان عليه السلام ملكًا لم يُؤتَ أحدًا غيره. ففي سورة ص، الآيتين 34 و35، نتعلم أن الله رحم سليمان عليه السلام، فسخّر له ما في الأرض وما عليها، بل وسخّر له الجن كذلك.

كما أن أمة نبينا محمد ﷺ قد خُوطِبَت بالاستخلاف أيضًا. ففي سورة يونس، الآيتين 13 و14، يقول الله تعالى:

ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين. ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون.

ونحن نعلم أنه بعد نبينا ﷺ جاء الخلفاء الراشدون، ثم الدولة الأموية والدولة العباسية، وكان حكّامهم يُسمَّون خليفة أي نائبًا عن الأمة وواليًا عليها.

وقد علّمنا النبي ﷺ أتباعه حقيقة الاستخلاف، ففي حديث صحيح أخرجه مسلم، قال رسول الله ﷺ:

"إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء."

بين طاعة الملائكة واختيار الإنس والجن

خالق السماوات والأرض ورب العالمين خلق السماوات والأرض، وسكان السماء – أي الملائكة – هم دائمًا في تسبيح وتنزيه وتقديس لربهم. أما سكان الأرض – من الإنس والجن – ففيهم من يفسد ويسفك الدماء.

فعندما خلق ربنا آدم عليه السلام، وأخبر الملائكة أنه جاعل في الأرض خليفة، قالوا: إن في الأرض من يفسد فيها ويسفك الدماء، بينما نحن سكان السماء نسبّح بحمدك ونقدّسك. فظهر بذلك تمايزٌ بين أهل السماء وأهل الأرض.

وربنا خلق بالحق: خلق سكان السماء الذين لا اختيار لهم، وخلق سكان الأرض – من الإنس والجن – الذين مُنحوا حرية الاختيار. فجعل الإنسان خليفة في الأرض، والجن مخلوقاتٌ مسخَّرة يجب ضبطها وقهرها.

وربنا سبحانه هو المقدر، له القضاء السابق الذي لا يُغيَّر ولا يُبدَّل، وهو شاهد على أنه يفعل ما يشاء. ومع ذلك فقد منح مخلوقاته من الإنس والجن قدرًا من الاختيار، يُسمّى القضاء الجزئي أو القدر الصغير، ليكونوا بذلك شهداء على أن الله هو رب الخير كله: فمن اختار الخير زاده الله من فضله، ومن اختار الشر انتهى به الأمر إلى سوء العاقبة.

وبهذا يشهد الخلق أن الله هو خير المحسنين.

وقد جعل الله طريقين ليتجلّى أمره:

  • خلق الملائكة الذين لا يعصونه أبدًا، فيشهدون أنه وحده الذي يُطاع طاعة مطلقة لا يُرد أمره.
  • وخلق الإنس والجن، وأعطاهم حرية الاختيار، لكن مآلهم في النهاية يثبت أن النجاة لا تكون إلا بطاعته. فمن أطاع أمره ووافق إرادته حَسُنَت عاقبته ودخل الجنة، ومن خالف أمره وأعرض عن طاعته ساءت عاقبته وصار إلى النار.

الاستخلاف بين الحرية الإنسانية والعلم الإلهي

إن ربنا سبحانه يشهد من خلال حرية الاختيار التي منحها للإنس والجن أن كل اختيار إذا لم يكن منضبطًا بمقاييسه، وأوامره، وإرادته، فلا بد أن يكون خطأ. ذلك لأن رب العالمين وحده هو الحق المطلق، وهو المتعال عن كل نقص، لا يعتريه خلل. أما كل المخلوقات ففيها النقص، سواء في عقولها أو في أفعالها أو في أخلاقها. ومن خلال هذا النقص يتجلى الدليل على أن الله وحده هو المتصرّف المطلق، وهو السيد الحرّ في أوامره وقدره.

ولهذا جعل في الأرض خليفة، وهؤلاء الخلفاء هم الذين أطاعوا أمره وخضعوا لإرادته، فأظهروا الحق في الأرض، ودعوا الناس إلى أن يضبطوا سلوكهم بمنهجه، لينالوا خير الدنيا والآخرة. وهؤلاء الخلفاء نالوا بالفعل نعم الدنيا والآخرة؛ فالإنسان بطبعه ذو رغبات، لا يوجد من لا يريد خير الدنيا والآخرة. وحتى من لا يؤمن بالبعث بعد الموت، فهو على الأقل يسعى إلى خير الدنيا. أما الذين اصطفاهم الله للاستخلاف، فقد نالوا الحسنى في الدنيا، ثم بعد رحيلهم بقي ذكرهم، وتُعلَّم سيرتهم وتُتَّخذ قدوة.

ثم لنتأمل جانبًا آخر في معنى الخليفة في الأرض: فالفساد وسفك الدماء إنما يقعان في الأرض، لا في السماء؛ لأن الملائكة سكان السماء هم في تسبيح دائم، وتنزيه وتقديس مطلق، في طاعة كاملة بلا معصية. وهنا يبرز السؤال: لماذا يختلف حال الأرض عن السماء؟

عندما قال الله تعالى إنه جاعل في الأرض خليفة، قالت الملائكة: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟ فهم كانوا على علم بهذه الحقيقة. لكن الله رد عليهم بقوله: إني أعلم ما لا تعلمون.

فالله علّم آدم عليه السلام – وهو أول خليفة في الأرض – أسماء كل الأشياء، ليكون هو وذريته شهودًا على عظمة الله، وليعلم الملائكة أن لله من العلم ما لا يدركونه.

ومن خلال الآيات نتعلم أن الملائكة لم يعرفوا أسماء الموجودات ولا كيفية تسميتها، بينما الإنسان تعلّمها. ومن هنا ندرك أن آدم وذريته يبدؤون معرفتهم من العالم المادي المشهود، ومنه يتدرجون إلى معرفة عالم الروح الغيبي، ثم يصلون إلى إدراك الغيب المطلق. فالإنسان – المخلوق من طين وماء – ينطلق من الخارج إلى الداخل، من المحسوس إلى المعقول، حتى يعرف ربه.

أما الملائكة فحالهم مختلف، فهم أرواح نورانية، يمكنهم الاطلاع على عوالم غيبية باطنية: كالجنة والنار التي وُكلوا بالإشراف عليها، والعرش الذي يحملونه، والصحف التي فيها مقادير الله والتي بأيديهم. فهم يعرفون الغيب من الداخل إلى الخارج، لكنهم لا يعلمون أسماء الموجودات في العالم الخارجي المادي.

اختلاف منهج المعرفة بين أهل السماء وأهل الأرض

وهذا يوضح أن سكان السماء وسكان الأرض يختلفون تمامًا في طريقة معرفتهم بالخلق: فالملائكة يعرفون من الباطن إلى الظاهر، بينما الإنس يعرفون من الظاهر إلى الباطن.

فالملائكة يبلغون البشر بالكتب وبأوامر الله وإرادته، وهذه تأتي من العالم الغيبي. أما البشر، فإنهم يتلقون هذه الأوامر ثم يعملون بها في حياتهم. وأما كيفية معرفة الملائكة بالعالم المادي، فإنهم يتلقون ذلك من البشر؛ فالإنسان الأول حين سمّى الأشياء بأسمائها، تعلمت الملائكة تلك الأسماء. وكذلك كلما كشف البشر عن أسرار العالم المادي: من عالم الرياح والنار والماء والتراب، ومن أسرار المغناطيسية والكهرباء، ومن عالم النبات والحيوان، ومن الظواهر الاجتماعية للبشر، فإن الملائكة تتعلم تلك الأسماء من خلال البشر.

ومن هذا يتبين أن المعرفة بين الفريقين متعاكسة، لكنها أيضًا متبادلة المنفعة.

أما البشر، فمعرفتهم من الخارج إلى الداخل طريقٌ شاق؛ إذ عليهم أن يكشفوا الحجب طبقةً بعد طبقة: فإذا انكشف حجاب المادة، انتقلوا لمعرفة عالم الروح، وإذا انكشف حجاب الروح، انتقلوا لمعرفة عالم الغيب الأسمى. وبما أن الإنسان مخلوق من جسد ولحم ودم، فإن هذه العملية لا تخلو من صعوبة، بل قد يقع فيها سفك للدماء.

وذلك لأن البشر لا يمكنهم بمجرد العقل الجمعي أو الأخلاق أو التجارب البشرية أن يكشفوا أسرار العالم الغيبي؛ بل لا بد لهم من عبادة الله، والالتزام بأوامره ودينه وشريعته، ليُيسّر لهم فتح هذه الحجب.

ومع أن الإنسان مُنح حرية الاختيار، إلا أن له نفسًا قوية وشهوات روحية ومادية؛ وغالبًا ما تقوده هذه الشهوات إلى مخالفة الحق إذا لم يضبطها، فيقع في الفساد.

ومن هنا كان لا بد للإنسان أن يتقرب إلى الله بالعبادة حتى ينكشف له سرّ الخلق، والغاية من ذلك أن يعرف ربه حق المعرفة. فالاختيار الذي منح للإنسان هو امتحان عظيم، لاسيما أن شهواته المادية ظاهرة: من حاجة الطعام اليومية، ومن الدافع الجنسي، وهذه ابتلاءات كبرى.

فإذا اجتاز الإنسان هذه الاختبارات بعبادة الله، ومعرفة أسرار الخلق من خلال طاعته، والإيمان بالغيب، والثبات على الحق، فقد بلغ المقام الرفيع، وصار إنسانًا كريمًا.

ولهذا فإن ربنا يكرم هؤلاء الناس؛ لأنهم قبلوا الحق، وكبحوا جماح الشهوة، فكشف لهم أسرار الوجود من المادة إلى الغيب، وجعلهم يسبحون ربهم تسبيحًا كاملًا، ويقدسونه ويعظمونه، حتى يصلوا من عبادة الله إلى رؤية آثار معيته، ويشهدوا معونته، فيصبحون من المتقين، الصالحين، المتوكلين. وهؤلاء بلا شك هم خلفاء الله في الأرض، المكرّمون حتى على سكان السماء.

أما الملائكة فلا يتعرفون على العالم المادي إلا من خلال البشر وما يكتشفونه ويسمونه، بينما البشر ينطلقون من المادة مباشرة إلى الإيمان بالغيب الأسمى.

خصوصية الإنسان في التوبة والشهادة على أسماء الله الحسنى

ومن النعم التي اختُص بها الإنسان ولم تُعطَ للملائكة: أن الإنسان لما كان مخلوقًا من جسد مادي، فقد حمل طبيعة بشرية وروحًا، ولهذه الطبيعة مطالب روحية. وفي أثناء كشفه لأسرار الخلق لا يمكنه أن يهتدي إلا بهداية ربه. غير أن الإنسان إذا تبع شهواته وقع في الخطأ أو الذنب. وهنا منح الله الإنسان نعمة عظيمة: التوبة والاستغفار. فكان أول البشر، آدم عليه السلام، قد تاب واستغفر ربه توبة نصوحًا، فأصبح مظهرًا لاسم الله: التواب، وصار الإنسان بذلك آية على رحمة ربه وغفرانه.

والإنسان، بما أنه مخلوق مادي، يسعى لنيل النعم المادية، وهو محاط بمصائب الطبيعة: من رياح ونار وماء وتراب، وما تحمله من أخطار، إلى جانب كفاحه في زراعة النبات واستئناس الحيوان. ولولا فضل الله ومنحه، لما قدر الإنسان على تسخير الحيوانات أو دفع البلايا الطبيعية.

وفوق ذلك، يعاني الإنسان من شرور نفسه وشهواته، ومن البلاء الذي يقع بين الناس، حتى إن ابني آدم كان بينهما القتل أول ما وقع في الأرض. وزِد على ذلك إيذاء الجن والشياطين للإنسان، وحرصهم على صدّه عن عبادة الله. كل هذه الابتلاءات تجعل الإنسان مضطرًا إلى التوكل على الله وحده، والاستعانة به وحده، فهو وحده الربّ، المربي، الرازق، الكافي. وقد دلّ الإنسان على ذكر أسمائه الحسنى، ليشهد بصفاته الكاملة وآياته الباهرة.

وهو سبحانه الرحمن الرحيم، ومن هنا كان الإنسان وحده القادر على إظهار الشهادة الكاملة؛ لأنه يجمع بين طلب نعيم الدنيا ونعيم الآخرة. غير أن أكثر الناس يقتصرون على إدراك رحمته العامة في الدنيا؛ لأن الجنة والنار من عالم الغيب لا تُرى بالعين، فلا يلتفتون إلى رحمته الخاصة في الآخرة. ومع ذلك، يبقى الإنسان أفضل آية تشهد بربه.

إن الله جل جلاله هو المعبود الحق الذي لا شريك له – الله. والإنسان هو الذي أظهر هذه الحقيقة بالشهادة. وذلك لأنه يخطئ بالشرك العقلي (في التصور) أو بالشرك العملي (في الأفعال)، فإذا تاب ورجع إلى الله، كان اعترافه دليلًا على أن الله لا يُشرك به شيء.

ولهذا لا يرقى الإنسان في روحه إلا بالعبادة، ولا يكشف أسرار الغيب إلا بعبادة الله. وبذلك يعرف أن الله هو المعبود الحق. ومن هنا فإن الإنسان يشهد أن الله لا شريك له، في المعرفة والعمل على السواء.

فصار الإنسان أصدق الآيات شاهدًا على أن الله – جل جلاله – هو المعبود الحق الذي لا شريك له. وذكره لهذا الاسم العظيم "الله" هو ذكر حقيقي صادق.

خاتمة الدرس – الصبر وآية الإنسان في حمله

ونختم موضوعنا بمثال عظيم: إن ربنا سبحانه له اسم من أسمائه الحسنى، وهو الصبور. وبما أن الله هو الصبور، فقد أودع في الإنسان القدرة على الصبر، فيشهد بهذا الاسم من خلال ثلاثة مجالات أساسية لا يقدر عليها الملائكة:

1.   أن يصبر عن المعاصي، فيكفّ نفسه عن اقتراف الذنوب.

2.   أن يصبر في وجه المصائب والابتلاءات، فيحتسب الخير عند ربه ويطلب الثواب.

3.   أن يصبر على الطاعات، فيداوم عليها ويزيد في أعمال الخير دون فتور.

فالإنسان بهذا يكون قد جسّد معنى الصبر، لأنه آية على أن الله هو الصبور، فيشهد باسمه ويذكره.

ومن هنا نفهم لماذا علّم الله تعالى آدم عليه السلام الأسماء كلها؛ لأنه كان يعلم أن آدم وذريته الذين سيُستخلفون في الأرض سيتلقون هدايته، ومن خلال معرفتهم بالموجودات سيدركون أنها آيات من آيات الله، وأن وراءها أسماءه العظمى وصفاته الحسنى. وبذلك تتحقق الغاية من خلق الإنسان: أن يسبّح ربه ويذكر أسماءه صباح مساء.

وفي سورة الإنسان، أمر الله نبيه محمدًا ﷺ بقوله: واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا. ومن سار على نهجه من خلفائه واستخلفه الله من بعده، فإنما يسير على طريق الذكر الدائم لأسماء الله.

ومن صور هذا الذكر: قولنا سبحان الله والحمد لله، ففيها إشارات إلى أسمائه الحسنى، وهي شهادة يتفوق بها الإنسان على الملائكة. وكذلك ما جاء عن نبينا ﷺ من تعليمنا تسعة وتسعين اسمًا لله، لا يستطيع أحد أن يحيط بها حقًا إلا الإنسان الذي يذكرها ويشهد بها، فينال من فضل الله وكرمه.

ولهذا قال الله للملائكة: إني أعلم ما لا تعلمون، إشارة إلى هذه الأسرار.

وبذلك نكون قد أنهينا موضوعنا لهذا اليوم، فإن كان في البيان خطأ أو تقصير فأسأل الله العلي العظيم أن يغفر لي، وأرجو من الإخوة والأخوات العذر والمسامحة، وجزاكم الله خيرًا على المشاركة.

 

 

 

 

 

 

 

 

  

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رحلتي من الصين الى الاسلام

دروس سورة الفاتحه (1) الاستعاذة بالله – درع المؤمن ضد الوسوسة والانحراف

دروس سورة الفاتحه (4) "رَبِّ الْعَالَمِينَ" — سر العوالم وشهادة الخلق بوحدانية الله