(15) سورة البقره - أسباب الخسارة وسبل النجاة
المقدمه:
يتناول هذا الدرس موضوع "الخسارة" كما ورد في القرآن الكريم،
حيث ذُكر لفظ الْخَاسِرِين 65 مرة، دلالة على أهمية هذا المفهوم
في حياة الإنسان ومصيره. يوضح الدرس أن الخسارة لا تقتصر على خسارة دنيوية، بل
تشمل خسارة أعظم: خسارة الآخرة، والبعد عن رحمة الله.
يفصّل الدرس أنواع الخسارة من خلال آيات القرآن، بدءًا من أول خاسر في
البشرية وهو قابيل الذي قتل أخاه هابيل، مرورًا بصفات المنافقين الذين يظهرون
الإيمان ويبطنون العداء، إلى أولئك الذين أنكروا لقاء الله، أو ضلّوا عن الحق ولم
ينصروه، رغم ما أُوتوا من نعم كالمال، والعقل، والرغبة.
يُظهر الدرس أن الإنسان خُلق ومعه خمسة رؤوس مال أساسية
ومن لم يسخّر هذه النعم لنيل 13 خصلة من النجاة (6 أركان الإيمان + 5 أركان الإسلام + الإحسان)، فهو خاسر.
ويؤكد الدرس أن طريق النجاة متمثل في الإيمان، والعمل الصالح، والنصيحة
بالحق، والصبر، كما بينت سورة العصر، التي خُتم بها الدرس.
نسأل الله أن يجعلنا من الفائزين، وأن يجنبنا صفات الخاسرين. آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
تحية طيبة لإخواني وأخواتي في المجموعة،
نحمد الله العلي العظيم، ونصلي ونسلم تسليمًا كثيرًا على نبينا الخاتم
محمد ﷺ، ونسأل الله أن يرضى عن جميع الصحابة.
اليوم نشارك موضوعًا بعنوان:
في القرآن الكريم، وردت كلمة "خُسر" أو "الخاسرين" 65
مرة، ومعناها: الخسارة أو خسران رأس المال.
بما أن هذه الكلمة وردت 65 مرة في القرآن الكريم، فإن هذا يدفعنا للتأمل
فيها وفهم دلالاتها.
والخسارة بطبيعة الحال، تكون موجهة إلى البشر. وقد قال عبد الله بن عباس
(رضي الله عنه) في تفسير الآية:
إذا كانت الآية تشير إلى غير المسلمين، فإن المقصود بالخسارة هو عدم
الإيمان،
أما إذا كانت تتحدث عن المؤمنين، فالمقصود بالخسارة هو الذنوب والمعاصي
التي يقترفونها.
وقد فسّر بعض العلماء الخسارة بأنها تشير إلى أن الإنسان قد ضيّع الرحمة
التي وهبها الله له، والتي خُلق من أجلها لينال بها خير الدنيا والآخرة — فإذا
ضيّعها، فقد خسر رأس ماله.
وأنا أود أن أشارككم وجهة نظري حول ورود كلمة "الخُسر" 65 مرة
في القرآن الكريم، لأتأمل من خلالها الإعجاز العددي في القرآن الكريم، وأشهد على
جماله وروعته.
عندما نتحدث عن الخسارة، فإن بعض الناس قد خسروا في الدنيا والآخرة معًا —
لم ينالوا أي خير في كلا الدارين.
وربنا سبحانه وتعالى هو الرحمن الرحيم، منحنا القدرة لننال نعيم الدارين،
وقد أخبرنا في كتابه أن الإنسان خُلق في "أحسن تقويم"، ولكن إن لم يعبد
ربه، فإن مآله سيكون إلى "أسفل سافلين".
من يستطيع أن يكون من الأشراف، ومن سكان الجنة العالية؟
هو من نال خير الدارين، ولم يخسر لا في الدنيا ولا في الآخرة.
أما من سقط إلى أسفل المراتب من المنافقين، فسيكون في الدرك الأسفل من
النار،
وهؤلاء هم الخاسرون في الدارين، وقد خسروا رأس مالهم الحقيقي.
وقد فسّر بعض العلماء "الخُسر" مباشرة بأنه فقدان الإنسان لما
أعدّه الله له في الآخرة — من الرحمة والمغفرة،
فالذين ضيّعوا في الدنيا رحمة الله التي أُعطيت لهم لينالوا بها خير
الدارين،
ولم يستفيدوا من هذه النعمة، فهم بلا شك خاسرون في الدنيا والآخرة.
المنافق هو أوضح الأمثلة على الخسارة، إذ ليس له سوى نفسه، ولا يمتلك
أيًّا من صفات الرحمة، فلا يمكن أن يكون علامة على صفات ربّ العالمين الرحمن.
فالمنافق هو الأكثر خسرانًا.
وبما أن المنافقين سيكونون في أسفل دركات النار، فهم بلا شك من أكثر الناس
خسرانًا.
ولهذا السبب، كانت أول آية يَرِد فيها ذِكر الخسارة في القرآن الكريم
تتحدث عن المنافقين. ففي الآية 27 من سورة البقرة، يُخبرنا ربّنا عز وجل:
{الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ
مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَـئِكَ هُمُ
الْخَاسِرُونَ} [البقرة: 27]
إذًا، المنافقون هم الخاسرون الحقيقيون، والقرآن بدأ بهم عند أول ذكر
للخسارة، وهذه من حكمة ربّنا، لنتأمل وننال الهداية.
أما آخر آية يرد فيها ذِكر الخسارة في ترتيب المصحف، فهي في سورة العصر.
في هذه السورة، يقسم الله بالعصر، ثم يقول:
إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْر العصر: 2]
أي أن الإنسان في خسارة محققة.
فمن هم الذين لا يشملهم هذا الحكم؟ من هم الناجون من هذه الخسارة؟
يُجيبنا ربّنا في الآية التالية:
{إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا
بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر} [العصر: 3]
أي: إلا الذين آمنوا، وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر.
هذه الآية تخبرنا أن الناس جميعًا في خُسران، إلا من جمع هذه الصفات
الأربع:
1.
الإيمان: ويقصد به الإيمان الصحيح، المبني على العقيدة الراسخة.
2.
العمل الصالح: ويشمل ما هدانا إليه ربنا من أعمال الخير في مختلف جوانب الحياة: في
الإنسانية، وفي طريق الحق، وفي تزكية النفس.
3.
التواصي بالحق: أي أن نعرف الحق وندعو إليه — والحق لا يُعرف فقط من خلال الرحمة الظاهرة،
بل من خلال كشف أسرار العالم المادي باستخدام وسائل العلم، ومن خلال فهم أسرار
الروح وعالم الغيب عبر الوحي الإلهي.
4.
التواصي بالصبر: وهو الاستمرار على طريق الهداية والثبات على الطاعة رغم الصعوبات.
وفي سبيل السعي نحو نيل الخيرات المقدّرة لنا، واكتشاف أسرار الخلق، يجب
علينا أن نسير على نهج الأعمال الصالحة التي رسمها الله لنا.
ومن خلال العبادة الصادقة، نتعرف إلى ربنا أكثر، عبر تجارب شخصية روحية
ومعنوية.
فبعض صفات الله لا يمكن إدراكها إلا من خلال العبادة والتقوى.
وقد أخبرنا الله أن بعض عباده من الأنبياء والصالحين، إذا أحبّهم، رضي
عنهم وقبل أعمالهم، فيكون هو سمعهم وبصرهم وأيديهم وأرجلهم — أي أن معية الله تكون
لهم كاملة.
وهؤلاء العباد يشهدون من خلال تجاربهم أن ربهم لا تقيّده الأقدار، بل هو
سبحانه فوق كل تقدير، حرّ الإرادة والقدرة.
وتتجلّى هذه الشهادة من خلال الكرامات والمعجزات التي تظهر على أيديهم،
فيدرك الناس من خلالها أن الله "إذا أراد شيئًا فإنما يقول له: كن، فيكون"،
فهو مالك القدر، المطلق في حريته،
وشهادتهم تكون نابعة من تجربة إيمانية عميقة، تُمكّنهم من إدراك صفات ربهم
حقًّا.
أن يتواصوا بالحق لا يعني فقط أن يطلب الإنسان الهداية لنفسه من ربه،
ويكشف أسرار التقدير لينال الرحمات، بل يشمل أيضًا أن يعرف الإنسان ربه ويعبده
مخلصًا له الدين، ولا يشرك به شيئًا، ثم يُبلّغ الآخرين بما أنعم الله به عليه،
فيدعوهم إلى الحق، ويتواصوا بالحق، فلا يكون من الخاسرين، بل يرتقي ليكون من
الكرام، من أهل الجنة.
لكن لا بد أيضًا من صفة أخرى، وهي أن يتواصوا بالصبر؛ لأن الإنسان
مخلوق من لحم ودم، وله صفات الضعف، كما أن لديه شهوات يرغب في إشباعها.
وفوق ذلك، هناك عدوٌ مبين، هو الشيطان، لا يفتأ يُوسوس له ويدفعه لاتباع
الهوى، وارتكاب الذنوب، والخسارة.
بل إن الإنسان قد يفتقر إلى اليقين الكامل بوعد الله في الآخرة، فيتكاسل
أو يفتر في عمله.
ثم إن الإنسان كائن اجتماعي لا يستطيع أن يعيش بمفرده،
ولأن الناس يعيشون في جماعات، فمن الطبيعي أن يمرّ بعضهم بابتلاءات
واختبارات،
وفي هذه الحال، من سبق وخاض التجربة، واكتسب الصبر، عليه أن يعين غيره،
فيواسيه ويثبّته، ويتواصى معه بالصبر —
وهذه من صفات الذين لا يكونون من الخاسرين،
وفيها تتجلّى روح الجماعة، والتكافل الإنساني.
إذن، من خلال هذه الآية، نتعلم أن سبيل النجاة من الخسران يقتضي أن يكون
لدى الإنسان هذه الصفات:
- الإيمان
- العمل الصالح
- التواصي بالحق
- التواصي بالصبر
أي أن نؤمن، ونعمل صالحًا، وندعو إلى الحق، ونتكافل في الصبر.
ومن هنا، ندرك أن أبعد الناس عن الخسران هم الأنبياء والرسل،
ومن سار على دربهم من الصدّيقين، والشهداء، والصالحين.
وقد وصفهم الله بأنهم "الذين أنعم الله عليهم"،
وهم النموذج الكامل للنجاة من الخسارة.
فمن لم يتبع طريقهم، لن يجد إلا طريق الخسران.
والآن، ننتقل لفهم سر الرقم (65) الذي ورد فيه لفظ "الخسران" في
القرآن الكريم.
عند تحليل هذا الرقم:
65 = 13 × 5
فلنبدأ بالعدد 13 —
هذا الرقم لم يُنتج عشوائيًا، بل له دلالة عميقة جدًا في الإسلام.
فالإنسان الذي يمتلك "محتوى 13" يكون إنسانًا ناجحًا. كيف ذلك؟
- الركائز الست
للإيمان (6): وهي دليل على الإيمان الصحيح.
- الركائز الخمس
للإسلام (5): وهي النعم التي وهبها الله للعبد من الأعمال.
- درجتان من
الإحسان (2):
- أن تعبد الله
كأنك تراه.
- فإن لم تكن
تراه، فإنه يراك.
أي أن:
6 (الإيمان) + 5 (العبادات) + 2
(الإحسان) = 13
فمن تحققت فيه هذه العناصر الثلاثة، يكون قد تحقّق فيه "العدد 13"،
وبالتالي يكون قد نجا من الخسران.
لكن لا بد أن نقرأ أيضًا: ما هي النعم التي وهبنا إياها ربنا العلي العظيم
حتى نتمكن من تحقيق هذه العناصر الـ13؟
ما هو رأس المال الذي أعطانا إياه؟
الجواب هو: نحن أنفسنا!
والآن لنقرأ ما هي عناصر الإنسان الخمسة التي تُعدّ رأس ماله في فعل
الخير، والتي لا ينبغي التفريط فيها:
أولًا: نحن بشر من لحم ودم — أي الجسد المادي.
ثانيًا: منحنا الله الروح، وعندما دخلت هذه الروح (الـرّوح) في الجسد، صار لدينا النفس
البشرية،
أي أصبح للإنسان طبيعة بشرية، وأصبح له نَفْس (نَفْسُهُ الإنسانية)،
وعندما يواجه المخلوقات من حوله، فإن نفسه تبدأ بالتفاعل معها وفقًا
لاحتياجاته،
فيبدأ بملاحظة كل ما له علاقة به، وباحتياجات نفسه البشرية،
وهنا ينشأ الوعي بالذات.
وبسبب هذا الوعي الذاتي، تبدأ لديه إدراكات حساسة لما حوله.
ثالثًا: نتيجة اتحاد الروح بالجسد، صار للإنسان حياة (نَفَس/روح حَيَوية).
فلو أن شخصًا ما مات، وزالت عنه الحياة، فلن يعود قادرًا على القيام
بالأعمال الصالحة،
إذ إن الحياة الدنيا هي الوسيلة التي يُطلب من خلالها نعيم الآخرة.
ولذا، فالجسد، والروح، والحياة — جميعها رأس مال للإنسان لفعل
الخير.
رابعًا: يحتوي الجانب الروحي للإنسان على العقل،
العقل الذي يشمل: الفهم، والمنطق، والعقلانية، والذكاء، والحكمة.
فالعقل بكل قدراته هو من أهم رؤوس المال لدى الإنسان.
لكن، حتى مع وجود هذه العناصر الأربعة (الجسد، الروح، النفس، العقل)،
قد لا يتحرك الإنسان، ولا يسعى، ولا يطلب أي نعمة،
إن لم يكن لديه دافع نفسي، أو اهتمام، أو شغف، أو مشاعر قوية تحرّكه.
خامسًا: ولهذا السبب، خلق لنا الله أيضًا ما يُعرف بـ الاهتمام النفسي القوي
والرغبة الروحية،
وهو ما يحفّز الإنسان، ويدفعه للسعي، ويشمل المشاعر والعواطف، مثل الحب،
فالحب يتضمن حاجة الإنسان لإشباع مشاعره العاطفية.
هذه الرغبة الداخلية — أو الهوى (اهتمام النفس) — هي أيضًا من النعم التي منحها الله للإنسان،
وتُعدّ من أهم رؤوس المال التي تساعده في طلب الخير.
إذًا، هذه الخمسة هي رؤوس مال الإنسان التي وهبها له الله.
لكن، لو لم يُرشدنا خالقنا سبحانه وتعالى في كيفية استغلال هذه النعم،
وفي كيف نستعمل هذه الرؤوس الخمسة في طلب خيري الدنيا والآخرة،
ولم تكن هناك توجيهات إلهية، وقام الإنسان بالتصرف وفق هواه،
وعاش كما يشاء، دون ضابط ولا هداية —
فإن النتيجة لن تكون إلا الضياع والخسران.
بل إن الإنسان قد يُصبح من المنافقين، أو الزائغين، أو الجاحدين،
إذا لم يُحسن استخدام هذه النعم الخمس في عمل الخير،
وسيكون من الخاسرين،
ونهايته — والعياذ بالله — النار.
الخلاصة:
كل من يستثمر رأس المال الخمسة التي منحه الله إياها — وهي: الجسد، والروح، والنفس، والعقل، والرغبة/الاهتمام النفسي — في طلب الثلاثة عشر نعمة (وهي: الإيمان بالستة أركان، وأداء أركان الإسلام الخمسة، وخصيصتي الإحسان) فقد حقق ربحًا عظيمًا، أي أن رأس ماله قد حقق أرباحًا كبيرة.
ولذلك نقول:
13 × 5 = 65
فمن حصل على هذه الأمور، فإنه قد نجا من الخسران، وابتعد عن الضياع.
أما من أضاع هذه الرؤوس الخمسة ولم يسعَ بها للحصول على تلك النعم الثلاثة
عشر،
فهو الخاسر الحقيقي،
وهو من خسر رأس ماله وأصبح من أهل الخسران والضياع.
ومن هنا، نُدرك سرّ 13 ×
5 = 65،
ولذلك، ينبغي لنا أن نتذكّر هذا الرقم جيدًا، ونتفكر فيه،
وندعو ربنا أن يهدينا وألا يجعلنا من الخاسرين.
الآن ننتقل إلى بعض الآيات التي ذكرت خسران من أنكر الإيمان، وأنكر
الإسلام، وأنكر خصيصة الإحسان،
نقرأها لنتأمل معانيها:
في المائدة، الآية 5، يقول الله تعالى:
"وَمَن يَكْفُرْ بِٱلْإِيمَـٰنِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُۥ وَهُوَ فِى
ٱلْـَٔاخِرَةِ مِنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ"
أي: من أنكر الإيمان فقد بَطَل عمله، وهو من الخاسرين في الآخرة.
وفي آل عمران، الآية 85:
"وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلْإِسْلَـٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ
فِى ٱلْـَٔاخِرَةِ مِنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ"
أي: من يطلب دينًا غير الإسلام، فلن يُقبل منه، وهو من الخاسرين.
وفي الأنعام، الآية 31:
"قَدْ خَسِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُوا۟ بِلِقَآءِ ٱللَّهِ"
أي: الذين أنكروا لقاء الله — خسروا.
إن من ينكر لقاء الله، فهو عديم الإحسان،
لأنه لا يعمل بنية رؤية ربه، ولا يؤمن أنه سيُبعث ليقف بين يدي خالقه،
فهو يعمل دون إحسان، ولا يسعى لرضا الله،
ولذلك فهو من الخاسرين.
ننتقل الآن إلى خمس آيات تُظهر كيف أن الناس خسروا برغم امتلاكهم
لرأس المال الخمسة،
لأنهم لم يستثمروه في الخير، بل ضيعوه، فأصبحوا من الخاسرين.
نبدأ أولًا بـ الجسد — فكل من له جسد يستطيع أن يعمل، لكن منهم من ضيّع هذه النعمة.
في سورة الكهف، يقول الله تعالى:
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِٱلْأَخْسَرِينَ أَعْمَـٰلًا (103) ٱلَّذِينَ
ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ
صُنْعًا
(104)
أُو۟لَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ بِـَٔايَـٰتِ رَبِّهِمْ وَلِقَآئِهِۦ
فَحَبِطَتْ أَعْمَـٰلُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ وَزْنًۭا
(105)
أي: أتعلمون من هم الأخسرون أعمالًا؟
هم الذين ضل سعيهم في الدنيا، وظنوا أنهم يُحسنون عملًا،
لكنهم كفروا بآيات الله، وبلقائه، فأحبط الله أعمالهم،
ولا يكون لهم وزن يوم القيامة.
فهؤلاء لم يخسروا فقط أعمالهم، بل خسروا حياتهم أيضًا،
فهم لا يؤمنون بلقاء ربهم،
ولا يسعون لنعيم الآخرة،
فحياتهم كانت هدرًا.
وفي سورة يونس، الآية 45، يقول تعالى:
"وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوٓا۟ إِلَّا سَاعَةًۭ مِّنَ
ٱلنَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ ۚ قَدْ خَسِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُوا۟
بِلِقَآءِ ٱللَّهِ وَمَا كَانُوا۟ مُهْتَدِينَ"
أي: سيُجمعون يوم القيامة وكأنهم لم يعيشوا في الدنيا إلا ساعة من نهار،
وحينها يتبين أنهم خسروا، لأنهم أنكروا لقاء الله، ولم يكونوا مهتدين.
فهنا الخسران شامل:
خسروا الحياة، واللقاء، والهداية،
فصاروا من الخاسرين في كل شيء.
فيما يخص النفس الإنسانية (نَفْس) وما فيها من خسارة أو خسران،
فهناك آيات كثيرة في القرآن الكريم تتحدث عن ذلك.
نقرأ من سورة الزمر، الآية 15:
قُلْ إِنَّ ٱلْخَـٰسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓا۟ أَنفُسَهُمْ
وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ ۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ
قل (يا محمد ﷺ): "إن الخاسرين حقًا هم الذين خسروا أنفسهم وأهليهم
يوم القيامة."
وهنا جاء لفظ "أَنفُسَهُمْ"، وهو جمع "نفس"، أي
أن من لم يعبد ربه ولم يهتدِ، سيشهد يوم القيامة ضياع نفسه، أي إنسانيته وجوهر
ذاته، وخسران ذلك سيكون ظاهرًا جليًا.
أما من مُنِح العقل ليفكر ويعمل الصالحات، لكنه لم يستخدم عقله ولا
فهمه ولا حكمته في الخير، فقد خسر رأس ماله العقلي.
نقرأ من سورة الأنبياء، الآية 70:
وَأَرَادُوا۟ بِهِۦ كَيْدًۭا فَجَعَلْنَـٰهُمُ ٱلْأَخْسَرِينَ
أراد قوم إبراهيم (عليه السلام) أن يمكروا به، ولكن الله جعلهم من أخسر
الناس، لأنهم رفضوا استخدام عقولهم لتقبل الحقيقة، وبدلًا من ذلك،
استخدموا تفكيرهم ليدبروا مكرًا بالحق، حتى حاولوا حرق حامل الرسالة الإلهية.
فهل هناك خسارة أعظم من أن يُستخدم العقل لهدم الحق بدلًا من نصرته؟
هم عبدة أصنام، وضربٌ واضح لمن أضاع رأس ماله العقلي.
أما فيما يخص الدوافع النفسية والميول الداخلية (الهوى) التي فُطر
الإنسان عليها، والتي هي في الأصل طاقة إيجابية تحفزه للسعي نحو الخير والرضا
والسعادة، إلا أن البعض يستخدمها في الاتجاه الخاطئ، فيتبع الباطل ويعادي
الحق، فيكون من الخاسرين.
نقرأ في سورة يونس، الآية 78:
فَلَمَّا جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا۟ هَـٰذَا سِحْرٌۭ
مُّبِينٌۭ
وحين أتى الحق من عند الله، قالوا عنه إنه سحر،
وفي النهاية، يقول الله تعالى في الآية 78:
وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِٱلْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ ٱلْمُبْطِلُونَ
أي: عندما جاء أمر الله، قُضي بين الخلائق بالحق، والذين اتبعوا
الباطل خسروا، أي الذين أضاعوا اهتماماتهم النفسية وطاقاتهم في خدمة
الباطل بدلاً من نصرة الحق.
لقد بعثتُ من قبلك رسلاً كثيرين، منهم من قصصتُهم عليك، ومنهم من لم
أقصصهم عليك. وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله. فإذا جاء أمر الله قُضي
بالحق، وخسر هناك المبطلون.
الإنسان الذي يستخدم دوافعه النفسية ليحصل على السلطة، أو الجاه، أو
الشرف، أو المال، أو الأولاد، ويحقق بها ما يشبع حاجاته ورغباته، لكنه لا يسخّر كل
هذه النعم في طاعة الله، ولا ينصر بها الحق، بل يكون من المنافقين، فهو خاسر. وإذا
استخدم ما ناله من هذه النعم في معاداة الحق ونصرة الباطل، فإنه حينها يدخل في قول
الله تعالى: "خَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ"، أي: خسر المبطلون هناك، وكان
من أعوان الباطل.
وطبعًا، في القرآن الكريم آيات كثيرة تتحدث بتفصيل عن صفات الخاسرين. من
أول الخاسرين في البشرية، هما ابنا آدم عليه السلام، حين تقرّبا بقربانين، فتُقبّل
من أحدهما لكونه من المتقين، ولم يُتقبل من الآخر، فغلبته نفسه الأمّارة بالسوء
فقتل أخاه، فكان أول خاسر في البشرية.
ولو تأملنا في الآيات، لوجدنا أن الله تعالى قد وصف لنا أنواعًا كثيرة
من الخاسرين وصفاتهم في كتابه الكريم، ولا يسع المجال لذكرها كلها الآن،
ولكننا ذكرنا بعضًا منها للبيان.
ولأن في القرآن أكثر من 60 آية تصف الخسران والخاسرين، فإنه ينبغي علينا
كلما قرأنا القرآن وتأملناه، ووجدنا أنفسنا قد نقع في بعض هذه الصفات، أن نبادر
فورًا إلى التوبة والاستغفار، وأن نرجع إلى الله توبة نصوحًا، ونرد ما استطعنا مما
خسرناه في حق الله أو خلقه. هذا هو طريق التقوى، طريق النجاة، وبه نرجو أن نكون من
الذين لا يظلمون أنفسهم ولا يخسرون دنياهم وآخرتهم، بل ينالون الخير في
الدارين.
وفي الختام، نعيد تلاوة سورة العصر التي تختصر هذا المعنى العميق:
1.
وَٱلْعَصْرِ
2.
إِنَّ ٱلْإِنسَـٰنَ لَفِى خُسْرٍ
3.
إِلَّا ٱلَّذِينَ آمَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ وَتَوَاصَوْا۟
بِٱلْحَقِّ وَتَوَاصَوْا۟ بِٱلصَّبْرِ
نسأل الله أن يوفقنا لاستثمار أعمارنا وأوقاتنا، وأن يجعلنا من الفائزين
في الدنيا والآخرة.
آمين.
هذا ما أردت مشاركته معكم اليوم. وإن كان هناك خطأ في التعبير أو خلل في
البيان، فأستغفر الله عليه، وأرجو منكم المعذرة. جزاكم الله خيرًا .
تعليقات
إرسال تعليق