(14) سورة البقرة –  "مَثَلُ البَعُوضَةِ: عَظَمَةُ الخَالِقِ فِي أَصْغَرِ مَخْلُوقَاتِهِ"

 

 

 المقدمه : 

فقد أنزل الله عز وجل القرآن الكريم هدىً للناس، يضرب فيه الأمثال، ويبيّن من خلال أبسط الكائنات أعظم الحقائق. ومن بين هذه الأمثلة التي حيّرت العقول، قوله تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ [البقرة: 26].

في هذا الدرس، نقف مع هذا المثل القرآني العجيب الذي استخدم فيه الله تعالى "البعوضة" — هذا المخلوق الصغير الحقير في نظر الناس — ليدلّنا على آيات عظيمة من قدرته، وإبداع خلقه، ودقة صنعه، وحكمته البالغة.

سنأخذكم في رحلة تأمل علمي وقرآني في البعوضة، لنتعرف كيف أن هذا الكائن الصغير يحتوي على أجهزة وأعضاء معقدة، ودور بيئي، بل وحتى دلالة إيمانية تربوية. وسنُظهر كيف كشف العلم الحديث شيئًا فشيئًا أسرارًا كانت مخبوءة في هذه البعوضة منذ أكثر من 1400 عام، ورد ذكرها في القرآن الكريم.

ثم ننتقل إلى البعد التربوي من هذا المثل، وكيف أن الله شبّه بعض أهل الفساد والمنافقين بهذه البعوضة في سلوكها وأثرها، رغم صغر حجمها. لنكتشف في نهاية المطاف أن كل مخلوق مهما كان صغيرًا، هو دليل على وجود الخالق وقدرته وعلمه، وأنه ما من شيء يضرب الله به مثلًا إلا وفيه هداية وعبرة لمن تدبر.

والله ولي التوفيق.


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته 
تحية طيبة لإخواني وأخواتي في المجموعة، نحمد الله العلي العظيم، ونُصلي ونسلم تسليمًا كثيرًا على نبينا الخاتم محمد ﷺ، ونسأل الله أن يرضى عن جميع الصحابة.
اليوم نشارك موضوعًا بعنوان: فهم معنى مَثَل البعوضة.
في الآية 26 من سورة البقرة، يضرب لنا ربنا مثلًا بالبعوضة، وسنقوم بتحليل معناه لننال الهداية.

أولًا، لنقرأ الآيتين 26 و27 من سورة البقرة، حيث يجب ربط فهمهما معًا، وقد أخبرنا ربنا بما يلي:

26. إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلًا ما بعوضة فما فوقها، فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم، وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلًا؟ يضل به كثيرًا ويهدي به كثيرًا وما يضل به إلا الفاسقين.
27.
الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض، أولئك هم الخاسرون.

بعض الصحابة (رضي الله عنهم) يرون أن الله سبحانه وتعالى ضرب للـمنافقين مثلين.
في الآيات السابقة، نتعلم أن الله ضرب مثلًا بالموقِد (الذي يشعل النار) والعاصفة الممطرة، للدلالة على المنافقين.
فقال هؤلاء المنافقون: "كيف يضرب الله مثلًا كهذا؟!"
فأنزل الله تعالى الآية التي تقول إنهم هم الخاسرون.

سواء كان المثال الذي ذُكر سابقًا عن مُوقِد النار أو المطر الغزير، أو المَثَل الحالي بالبعوضة أو ما هو أصغر منها، فجميعها أمثلة أُوردت في القرآن الكريم بحق المنافقين.
وقد قال أنس (رضي الله عنه) عند تفسير هذه الآية: "إن الله في هذه الآية شبَّه الدنيا بالبعوضة، فهي لا تعيش إلا عندما تكون جائعة، فإذا شبعت تموت.
وكذلك هؤلاء الذين تحدّث عنهم القرآن، إذا أُشبعوا وأُطعموا طول يومهم، حينها تحين ساعة عقوبتهم."
ثم قرأ قوله تعالى في سورة الأنعام، الآية 44:
﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام:44]

أما عن استخدام ربنا للبعوضة أو ما هو أصغر منها كمَثَل، فقد فسّر العلماء ذلك بقولهم:
"
إن الله العلي العظيم، عندما يروي أو يذكر شيئًا، فإنه لا يستحيي من التصريح به، مهما كان صغيرًا أو عظيمًا."
وفي القرآن الكريم، كثيرًا ما نقرأ عن أن الله يضرب الأمثال بالذباب، والعنكبوت، والنملة، والنحلة — وهي كلها من الحشرات.
وبالطبع، فإن من ضمن آيات الله العلي العظيم، ما يحتوي على الحق، ويمكن للناس من خلاله أن ينالوا الهداية والرحمة.

لكن، مع ذلك، هناك بعض الناس الضالين يقولون:
"
ما الغرض من أن يضرب الله مثلًا كهذا؟"
أي: ما الفائدة من أن يكون المثل بالبعوضة؟
لذلك، دعونا نقرأ عن البعوضة نفسها.

أولًا، نبدأ بالتعرف على البعوضة من الناحية العلمية، لنتأمل عظمة خلق الله العلي العظيم.
لقد اكتشف العلماء أن على رأس البعوضة يوجد مئة عين، ولديها ثمانية وأربعون سنًا، كما أن لها ثلاثة قلوب.
أما أنفها، أي الأنبوب الذي تمتص به الدم، فيحتوي على ستة اتجاهات يمكنها من خلالها امتصاص الدم في آنٍ واحد.
ولها أجنحة: في كل جانب من جانبيها ثلاثة أجنحة.
كما أنها تستطيع أن ترى وتحدد أماكن الجلد البشري وتميّزه في الأشعة تحت الحمراء، أي في الظلام.
وتملك البعوضة جهاز تخدير خاص، فعندما تهمّ بإدخال خرطومها داخل الجلد لامتصاص الدم، فإنها لا تفرز المخدّر فورًا،
بل تفرزه أثناء امتصاص الدم، ولهذا يشعر الإنسان بالحكة في ما بعد.

ولدى البعوضة أيضًا قدرة على تمييز طَعم الدم،
فإذا لم يعجبها طعم دم معيّن، فإنها لا تقترب منه، ولهذا كثيرًا ما نسمع الناس يقولون: "البعوض لا يلدغه."
بينما هناك أشخاص آخرون، ينجذب البعوض إلى دمهم كثيرًا، والسبب في ذلك هو قوة قدرة البعوضة على تمييز الطعم.

وبما أن دم الإنسان كثيف، فإن خرطوم البعوضة لا يستطيع امتصاصه بسهولة،
لذا فقد خلق الله لها قدرة أخرى، وهي أن تقوم بتخفيف كثافة الدم ليسهل امتصاصه.

ويُقال إن البعوضة يمكنها أن تميّز رائحة عرق الإنسان من مسافة تصل إلى ستين كيلومترًا،
ومن خلال هذه الرائحة، تعرف أن هناك إنسانًا قريبًا، وأن هناك جلدًا يمكن أن تمتص منه الدم.

وقد ورد في الآية أن البعوضة التي تمتص الدم هي "بعوضة" بصيغة المؤنث — أي الأنثى
لأن أنثى البعوض فقط هي من تمتص الدم من أجل أن تضع البيوض وتتكاثر،
أما ذكر البعوض فلا يمتص الدم،
ولذلك، فليس كل البعوض يمتص الدم.
هذا ما توصّل إليه علماء الأحياء في تحليلهم للبعوضة.

من خلال هذه البعوضة الصغيرة الحقيرة، لا يسعنا إلا أن نُطلق شهادة التوحيد: هل يستطيع الإنسان أن يخلق مثلها؟
من ذا الذي يمكنه أن يصنع بعوضة بهذه الدقة؟
مئة عين، ويمكنها أن ترى من كل الزوايا — ولهذا من الصعب جدًا قتلها!
ولها ستة أجنحة، لذا فهي تطير بسرعة تفوق التصور،
ورغم صغر حجمها، لديها ثلاثة قلوب،
ورغم ضآلة حجمها، فإن لها ثمانية وأربعين سنًا.

ثم، متى تتمكن البعوضة من امتصاص الدم الذي تعيش عليه؟
تتمكن من ذلك ليلًا، حين يكون الإنسان أو الحيوان نائمًا،
وفي ظلمة الليل، تستطيع أن ترى جيدًا!
فمن الذي منحها هذه القدرة؟
هل هي من صنعت نفسها بهذه المواصفات؟
ثم إن لديها القدرة على معالجة الدم أثناء امتصاصه،
حيث تقوم بتخفيف كثافته ليسهل امتصاصه، لأن الدم الكثيف يسد مجرى أنبوبها،
وبالتالي، لا تستطيع أن تمتصه.
فمن منحها هذه الخاصية؟
أما المخدر الذي تفرزه، فلو أنها أفرزته منذ لحظة غرز إبرتها في الجلد،
لكان الإنسان أحس بها فورًا وضربها فماتت،
لكنها لا تطلق المخدر إلا بعد أن تبدأ بامتصاص الدم،
وحين يشعر الإنسان بالحكة، تكون قد امتصت ما أرادت وهربت.

هل هذه القدرات ذاتية؟
أم أن الخالق هو الذي زوّدها بكل هذه الوظائف؟
كيف يمكن أن يكون ذلك نتيجة تطور طبيعي؟
أو وجود عشوائي محض؟

هذا الخلق الضئيل، يحمل في داخله كل هذه التفاصيل، كل هذه الوظائف، وكل هذه الأعضاء — لا يمكن للبشر أن يخلقوه،
بل ويدرك الإنسان أنه لا يمكن أن يكون قد تطوّر طبيعيًا، أو أنه وُجد صدفة.
وخاصة أن الآية تقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ — أي ما دونها في الصغر.

وقد اكتشف العلم الحديث أنه يوجد على جسد البعوضة كائن حي أصغر منها، يعيش عليها ويتغذّى منها،
وهو كائن لا يُرى بالعين المجرّدة، ولا يمكن رؤيته إلا باستخدام المجهر.
فنبينا الخاتم محمد ﷺ — في زمنه لم يكن هناك مجهر ولا مكبّر بصري
فكيف عرف أن على هذا الكائن الضئيل كائنًا أصغر منه يعيش عليه؟
كلما تعمق البشر في دراسة هذا الكائن الصغير — البعوضة
ازداد إدراكهم لعجزهم، وتجلّت أمامهم عظمة الخالق.

فلا خالق إلا هو، وكل ما في الوجود يدلّ على وجوده، وكل شيء هو من آياته، يشهد بعظمته.
فرَبُّنا ليس فقط موجودًا، بل هو الخالق المصوِّر،
وله صفاته الحسنى، وله أسماؤه العليا، وله أفعاله التي تدل على ذاته الكاملة.

نواصل التأمل في هذه البعوضة كآية من آيات الله،
وقد ذكرنا قبل قليل أن العلماء اكتشفوا — بفضل المجهر — أن هناك مخلوقًا أصغر يعيش على البعوضة.
وهذا الأمر لم يُعرف إلا مؤخرًا في العصر الحديث،
أما قبل ألف وأربعمائة عام، لم يكن هناك مجهر، ولم يكن هناك مكبّر،
لكننا نقرأ في القرآن الكريم إشارات إلى ذلك،
ومن خلال ما نُقل إلينا من النبي محمد ﷺ، نعلم بوجود شيء أصغر من البعوضة.

هذا دليل قاطع على أن هذا العلم لم يكن من عنده،
فهو ﷺ كان لا يقرأ ولا يكتب،
فمن أين له بهذه التفصيلات الدقيقة؟
إنه وحي من الله، كلامٌ من خالق البعوضة ومن عليها.

فمن خلال هذه الآية، وهذا المثل، وهذا الكائن الصغير وما عليه،
نشهد أن الرب هو الذي يرزق ويهدي، وأنه يُعلّم من يشاء،
وأنه هو من يُبلغ الناس كلامه، وأنه وحده هو المتكلم بحق.

كل شيء في الكون خُلِق وفق تقديرٍ مُسبق من الله تعالى،
فعلى سبيل المثال: متى تُكشف أسرار الإنسان؟
إن سرّ البعوضة لم يُكشف إلا في هذا العصر العلمي المتأخر،
لكن الله سبحانه وتعالى نفسه لا يخضع لأي تقدير أو حدود،
فمتى يُكشف عن ذاته؟
إنه كان عليمًا محيطًا بما سيخلقه، حتى قبل أن يخلقه،
فهو لا يخضع لتقدير، ولا يُقيِّده شيء.
ولبيان هذه الصفة — أي أنه غير خاضع للتقدير
اختار أن يكشف بعض أسرار التقدير لأنبيائه ورسله،
وأوحى إليهم بكلامه،
حتى يعرفوا بعض الغيب دون أن يكونوا خاضعين له.

ومن خلال هذه البعوضة، وما يلتصق بها من كائنٍ أصغر،
نتعلّم أن النِّعَم الدنيوية التي يسَّرها الله لنا،
هي بإرشاده وبلُغَته التي يُوحي بها إلى عباده،
وهذا الإرشاد الإلهي يدعونا إلى طلب نِعَم الآخرة كذلك.
لقد منح الله تعالى الإنسان وسائل العلم،
وأعطاه العقل، والأخلاق، والقدرة على الفعل،
وبهذه الوسائل، تمكّن الإنسان من كشف أسرار البعوضة.

لكن، الله عز وجل كان قد أوحى بهذه الأسرار مسبقًا إلى أنبيائه بكلامه،
ليكون ذلك هدىً لنا، ودليلًا على أن له لغةً،
ومن خلال هذه اللغة، يهدينا إلى الصراط المستقيم،
ويُرشدنا إلى طلب نِعَم الآخرة،
فالعالم الغيبي، لا يُدرك بالعلم التجريبي وحده،
بل يُكشف فقط بالوحي الإلهي.

ولذلك، سيستمر البشر في اكتشاف المعجزات في كتاب الله المحفوظ — القرآن الكريم،
وكلما تقدم العلم، ازداد اليقين أن هذا الكلام من عند الله الخالق.
فالأسرار التي يكشفها الإنسان بالعلم الحديث،
تتعلق بالعالم المشهود (الظاهر)،
أما الأسرار الغيبية، فلا تُكشف إلا من خلال دراسة كلام الله، واتباعه.

وبالعبادة الصادقة،
سيُكشف الله بعض هذه الأسرار لعباده المؤمنين،
وهكذا، من خلال لغة الله،
نُدرك أنه يتكلم، وأن كلامه مليء بالرحمة،
فنعبده، ونشكره، ونستدل بكلامه على أسرار الغيب،
فنُثني عليه، ونعترف بجميل رحمته وكرمه.

ننتقل الآن إلى المثل الثالث من أمثال البعوضة في القرآن الكريم.
في مرة من المرات، أنا وصديق لي بحثنا في محرك "بايدو" عن فائدة البعوض،
فوجدنا إجابة ساخرة: "البعوض يجلب الفائدة فقط لأولئك الذين يصنعون الناموسيات، وأجهزة طرد البعوض، فقد أوجد لهم فرصة تجارية!"
بالطبع، هذا مجرد مزحة.
لكن من حيث الواقع، فإن البعوضة لها دور مهم في السلسلة الغذائية للكائنات الحية،
وهي جزء من النظام البيئي الذي خلقه الله، والذي فيه فائدة للبشرية أيضًا.

لكن على المستوى الفردي، لا شك أن البعوض يُعدّ مزعجًا،
ويسبّب الكثير من الإزعاج للناس،
خصوصًا في البيوت التي فيها أطفال،
حيث يشعر الناس بأن البعوض كريه ولا يُحتمل،
ويصعب التخلص منه.

الإزعاج الذي تسببه البعوضة قد جرّبه كثير من الناس.
في الليل، تطنّ قرب الأذن، ومن يتعرض للسعة منها يشعر بالحكة فلا يستطيع النوم،
وفي النهار يظلّ يحكّ جلده بلا راحة.
ويظنّ الناس أن هذه البعوضة لا خير فيها على الإطلاق.
فجعل الله هذا الإزعاج وعدم الراحة الذي تسببه البعوضة مثلًا للفساد (أي الإفساد في الأرض).

ففي الآية التالية مباشرة بعد آية البعوضة،
يتحدث الله تعالى عن صنف من الناس:
أولئك الذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل،
وينقضون العهد بعد ميثاقه،
ويُفسدون في الأرض،
هؤلاء هم المفسدون، وهم الخاسرون.

تمامًا كما تفعل البعوضة،
تتنقل بين الناس دون أن ترتكب ما يُعدّ ذنبًا كبيرًا،
لكنها تُفسد الراحة وتُقلق الناس
كذلك حال المفسدين في الأرض.

وفي زمن نبينا محمد ﷺ،
كان هناك المنافقون الذين يُضايقون المؤمنين ويُعرقلون الدعوة،
فلا يستطيعون هدم الإسلام، لكنهم يزرعون الفتنة والإزعاج،
فكانوا كالبعوض الذي لا يُدمّر الجسد،
لكنه يُعكّر السكون ويُسبب الحكة والقلق.

وقد تساءل بعض هؤلاء المنافقين:
"
لماذا يضرب الله مثلًا بالبعوض؟"
وكان في هذا التساؤل استهزاء،
لكن الحقيقة أنهم هم المثال المقصود.

وهناك أناس في حياتنا الواقعية،
يدورون بين الناس يزعجونهم ويتسببون في القلق،
قد لا يرتكبون الكبائر،
لكنهم يُصرّون على تكرار الذنوب الصغيرة،
ويمنعون الآخرين من الشعور بالسلام
وهذا هو الفساد الذي ضرب الله له مثلًا بالبعوضة.

ونواصل تأمل الأمثلة في البعوضة وما يلتصق بها من كائنات أصغر،
فربّنا عزّ وجل يضرب لنا أمثالًا، ويجب أن نتمعّن في معانيها.

مثلًا:
كل من يُفسد، من المؤكد أنه غافل عن ذكر الله الرحمن الرحيم،
ولم يتّبع تعاليمه.
وبسبب هذا الغفلة، تظهر فيهم صفات الإفساد والفساد.

ففي الآية 36 من سورة الزخرف، يقول الله تعالى:
﴿وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَـٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾
أي: من يُعرض عن ذكر الرحمن،
فإننا نسلّط عليه شيطانًا، فيُلازمه ويُصبح صديقه ومُرافقه.

إن ربنا سبحانه وتعالى ضرب لنا مثلاً بالبعوضة، والبعوضة تفعل ما تفعله من أذى، وكأنها مثال للذين يفسدون في الأرض، حتى وإن كان فسادهم صغيرًا ومزعجًا، فإنه لا يدع الناس في راحة، وهو نوع من الإفساد.
فمثل هذا الإنسان يُعد من المفسدين، لأنه لا يذكر ربه، ولم يتقبل الموعظة، فيُسلط عليه شيطان فيتلبسه، تمامًا كما في المثل: البعوضة التي يلتصق بها كائن أصغر منها لا يُرى بالعين المجردة، ولا يُكتشف إلا بعدسة مكبرة، فهنا يكون التمثيل بأن الإنسان قد تلبسه شيطان، لا يُرى بالعين، لكنه موجود بالفعل.

إن الله تعالى يقول إن من لا يتقبل الموعظة، ويقترف الشر، فلابد أن تظهر عليه صفات من تلبسه الشيطان، ولهذا خلق الله هذا المثل الواضح، لنقرأه ونستنبط منه الهداية، فربنا يهدينا إلى الابتعاد عن المعصية، ويجعلنا من أهل الإحسان، ويحذرنا من خصال النفاق والرياء.

وللبعوضة الأنثى مثل مهم آخر: فهي تمص الدم من أجل أن تضع البيض وتتكاثر، فهنا مثل على الإنسان المنافق، الذي يسعى لمصلحته الشخصية، ولأجل بيته أو محيطه الصغير، ولو على حساب الآخرين.
كما تمتص البعوضة دم غيرها دون أن تبالي بألمه أو انزعاجه، كذلك المنافق لا يبالي بمصلحة الأمة ولا بما هو حق، وإنما همه أن يحقق مصلحته، ولو هدم كل القيم في سبيل ذلك.

وفي زمن النبوة، كان هناك عبد الله بن أبيّ بن سلول، الذي أراد أن يكون ملكًا على المدينة، بل أعدّ تاجه، ولأجل مصلحته وسعيه لنيل متاع الدنيا، بدأ نشاطه النفاقي، لأنه رأى في دعوة النبي ﷺ خطرًا على طموحاته، فهاجم الدين وسعى لتخريب دعوته.
فكان بذلك أعظم "بعوضة" مفسدة، وأكبر نموذج للرياء، إذ فضّل مصلحته الشخصية على الحق الذي فيه خير للبشرية جمعاء.

ولا يزال هناك من الناس من يسلك هذا السلوك، فيفضّل بيته أو محيطه الصغير على المصلحة العامة، فلا يبالي بخير الناس، ما دام هو بخير.

ومن خلال هذه الجوانب الثلاثة، نفهم لماذا قال ربنا: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا"،
لأن كل مخلوق صغير من مخلوقات الله يحتوي على دلائل على عظمة خلقه، وعلى قدرته الكاملة، وفيه من الحكم ما يدلّ على سابق علمه، وعلى أنه الرحمن الذي يرشد عباده إلى الإحسان، وإلى تطهير النفوس بالأعمال الصالحة، كي يفوزوا بخير الدنيا والآخرة.

فالبعوضة كآية من آيات الله، تحمل أسرارًا كثيرة، لأن القرآن الكريم هداية لكل من سبق، ومن عاصر، ومن سيأتي من الناس، وكل منهم يمكنه أن ينظر إلى هذه الآية من زاويته، فيتفكر، ويحمد الله.

وأنا من زاويتي وفهمي المتواضع، شاركتكم بهذه المعاني،
فما كان فيه من زلل أو قصور في البيان، أسأل الله الغفور أن يعفو عني، وأرجو منكم المعذرة،
جزاكم الله خيرًا على حسن الاستماع  

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رحلتي من الصين الى الاسلام

دروس سورة الفاتحه (1) الاستعاذة بالله – درع المؤمن ضد الوسوسة والانحراف

دروس سورة الفاتحه (4) "رَبِّ الْعَالَمِينَ" — سر العوالم وشهادة الخلق بوحدانية الله