(9) سورة البقره - عقيدة الجزاء في الإسلام: ميزان العدل والرحمة
المقدمة:
إن من أعظم ما يميز الدين الإسلامي عن غيره
من الأديان، هو وضوح عقيدته في الجزاء وارتباطها الوثيق بالتوحيد والعبادة والسلوك. فالإسلام لا ينظر إلى الجزاء كفكرة غيبية مجردة، ولا كعقوبة دنيوية فحسب،
بل يربط بين العمل والجزاء في جميع مراحل الوجود: في الدنيا، وفي القبر، وفي يوم
القيامة، وحتى في أعظم مراتب النعيم، وهو رؤية وجه الله الكريم.
لقد انشغلت البشرية عبر التاريخ بفهم العدالة، والمصير، ومعنى الخير
والشر، واختلفت التصورات بين الفلاسفة، وأتباع الديانات القديمة، وأهل الكتاب،
والملحدين. لكن الإسلام جاء بمفهوم شامل ومتكامل للجزاء، يقوم على عدل الله المطلق،
ورحمته الواسعة، ويجعل من الإنسان كائنًا مسؤولًا مكرمًا، يُحاسب على نيّته وعمله،
ويُعطى جزاءه بما كسبت يداه.
في هذا الدرس، نقف على تفاصيل العقيدة الإسلامية في الجزاء، ونُقارنها بتصورات سائر الأديان والمذاهب، لندرك كيف أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يُحقق التوازن بين الجسد والروح، بين الدنيا والآخرة، وبين العدالة والفضل، ويقود الإنسان إلى سعادة حقيقية في الدارين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أهلاً بإخوتي وأخواتي
نحمد الله العلي العظيم، ونُصلّي ونُسلّم على خاتم أنبيائه محمد ﷺ صلاةً
لا تُعدّ ولا تُحصى، ونسأل الله أن يرضى عن جميع صحابته.
موضوعنا اليوم هو: التعرف على العقيدة الإسلامية في الجزاء، وكيف أن هذا
الفهم يُظهر تفوق الإسلام على سائر الأديان.
فربّنا جل وعلا قد أخبرنا في كتابه المحفوظ بوضوح أن الدين الذي ارتضاه
لنا هو الدين الإسلام، وهو دينٌ ونعمةٌ من عنده لنا.
وقد وُضع قبل كلمة "الإسلام" في الآية تعريفٌ
بـ"الدين"، ليُشير إلى أن في هذا الدين مضمونًا متعلقًا بالجزاء. لذا،
فإننا من خلال فهم مضمون الجزاء، نُدرك تفوّق الإسلام، وكيف أنه الدين الوحيد الذي
يقود الإنسان إلى السعادة الحقيقية.
أولًا، لنتعرّف على مفهوم الجزاء:
جميع الأديان تتحدّث عن الجزاء، سواء أكان أصحابها من عبدة الأوثان أو
المشركين أو أهل الكتاب أو أتباع الإسلام. بل حتى الملحدون لديهم نوع من الإيمان
بالجزاء.
ففي الدول التي تقوم على الإلحاد، كثيرًا ما تُطرح مفاهيم تتعلق بالضمير
والأخلاق. ويُقال مثلًا في الثقافة الصينية: "ليس عدم وجود جزاء، بل لم يحن
وقته بعد".
فمن يعقّ والديه، يُقال إنه سيُبتلى بولدٍ عاق، وهذا يعبّر عن الإيمان
بوجود الجزاء.
وهذا يدل على أن فكرة الجزاء موجودة في أعماق النفس البشرية، حتى وإن لم
يُعِر الشخص اهتمامًا لمفهوم الجزاء، فإن فطرته تشعر بوجوده.
فمثلًا، في البلدان التي تنكر وجود الله، حين يُصاب أحدهم بمصيبة، يشعر
وكأنها عقوبة، ويقول الناس في عاداتهم وكلامهم: "لقد نال جزاءه"،
"هذه عقوبة لما فعله"، خاصةً في المجتمع الصيني، وهذا من أوضح الأمثلة.
كل هذا يُثبت أن فكرة الجزاء متجذّرة في أعماق روح الإنسان، حتى وإن أنكر
وجود الروح.
لكن، ورغم أن البشر قد يدركون وجود الجزاء، إلا أن فهمهم مَن الذي يُحاسب
ويُجزي، وكيف، ولماذا، لا يكون دائمًا كاملاً أو صحيحًا.
الآن نتابع الحديث من منظور العقيدة في الجزاء عند الملحدين، ثم عند عبدة
الأوثان ومتعددي الآلهة، لنُبيّن كيف يختلف مفهومهم عن المفهوم الإسلامي للجزاء:
أولًا: الملحدون
الملحد يرى أن الجزاء مرتبط فقط بعلاقته مع المخلوقات من حوله، أي أن كل
فعل يصدر عنه، سواء كان ظلمًا أو إحسانًا، سيعود إليه بطريقة ما.
فإذا أصابته مصيبة، يربطها بما فعله سابقًا من شرّ أو ظلم تجاه شخص ما،
فيقول: هذا "جزاء" لما فعلته. وإذا رأى شخصًا آخر في نهاية طيبة أو نسل
صالح، يُرجع ذلك إلى كونه قد عمل خيرًا أو "راكم حسنات" على مستوى
العلاقات أو الأخلاق.
فمفهوم الجزاء عندهم محصور في دائرة المادة والعلاقات المجتمعية فقط. وهم يؤمنون بأن من يعمل خيرًا سيحصل على خير، ومن يظلم سينال نتيجة ظلمه،
ولكن في إطار هذه الدنيا فقط، وفي حياته أو حياة ذريته.
هذا المفهوم في حقيقته نابع من رحمة الله العامة (الرحمة العامة أو الرحمة
الكونية)، حيث جعل البشر خلفاء في الأرض، وأعطاهم فطرة تدفعهم لفعل الخير
والابتعاد عن الشر طلبًا للسلامة، وسنّ لهم قوانين طبيعية في الكون قائمة على
الأسباب والمسببات.
فهذا اللون من "الجزاء" يُعد من صور الرحمة الكونية التي تشمل
المؤمن والكافر، وهي الحد الأدنى من الإيمان بالجزاء، وهو ما يجب على الإنسان أن
يُدركه كخليفة في الأرض، يُراعي قوانينها، ويُحسن في علاقاته مع غيره اتّباعًا
للضمير أو العرف الأخلاقي.
ثانيًا: عبدة الأوثان ومتعددو الآلهة
أما أتباع الديانات الوثنية أو المتعددة الآلهة، فإيمانهم بالجزاء أوسع
نسبيًا، إذ يعتقدون بوجود الروح، وبالتالي فالجزاء عندهم لا يقتصر على حياة الجسد
فقط، بل يمتد إلى حياة الروح بعد الموت.
فهم يظنون أن أفعال الإنسان الخيّرة أو الشريرة تترك أثرًا في
"روحه"، وعندما يموت، تنفصل روحه عن الجسد، وتحمل معها تلك الآثار.
– فإن كانت الأفعال خيرًا، بقيت الروح في حالة نور وسعادة، وقد تصل – حسب
معتقداتهم – إلى مرتبة "إله" أو "كائن روحي سامٍ"
كالـ"بودا" أو "الجنّ الصالح".
– وإن كانت الأفعال شرًّا، فإن الروح تعيش في شقاء، وتعود في حياة أخرى (عبر
التناسخ) لتلقى العذاب في صورة مخلوق مهان، كأن يُعاد تجسيدها في حيوان مذلول أو
إنسان فقير أو مريض.
هذا التصور قائم على الدمج بين نظرية الجزاء وفكرة تناسخ الأرواح، وهي
رؤية قاصرة لأن فهمهم للروح والجزاء قائم على الظن والتخمين، دون وحي إلهي صحيح،
ودون تصور دقيق عن عدل الله، أو عن مصير الإنسان في الآخرة، أو معنى الحساب الكامل
والشامل.
ومع أن عندهم اعتراف بوجود الروح وبالجزاء، إلا أنهم لم يدركوا من هو
المُجازي الحقيقي، ولا كيف يكون الجزاء عادلًا ومتكاملًا، ولا غاية الوجود
الحقيقية.
وهذا يبيّن أنهم، رغم قربهم من الإقرار بالروح والجزاء، إلا أن تصوّرهم
فاسد وغير كامل، وفيه من التناقض والانحراف عن الحق ما يجعل تصورهم للجزاء غير
موصِل لله، ولا للسعادة الحقيقية في الدنيا ولا الآخرة.
بالنسبة لهؤلاء من عبدة الأوثان ومتعددي الآلهة، فإن ما يحصلون عليه من
إدراك لمفهوم الجزاء هو في حقيقته منحة من رحمة الله العامة، فهو سبحانه منح البشر
فطرةً تُدرك وجود العلاقة بين العمل وجزائه، كما منحهم الإدراك بوجود الروح، وأن
للأفعال أثرًا على حال الروح وحقيقتها.
لكنّ هؤلاء لا يملكون فهمًا كاملًا ومتكاملًا للروح وللجزاء؛ لماذا؟
لأن الخير والشر يجب أن يُقاسا بمقياس خالق الجزاء، وهو الله سبحانه
وتعالى، رب يوم الدين، لا بمقاييس البشر الذاتية، سواءً كانت عقلية أو عاطفية.
هؤلاء يضعون معايير الخير والشر بناءً على مشاعرهم أو عقولهم المحدودة،
فيفقد الجزاء روحه الحقيقية. ولهذا، فإن أرواحهم لا ترقى إلى طهارة الملائكة.
رغم أنهم يحاولون تهذيب النفس والروح بالزهد والعبادة والتقشّف، ويدّعون
بلوغ "القداسة"، إلا أنهم لا يستطيعون إدراك المستوى الكامل للوعي
الروحي كما يملكه الملائكة، لأنهم لم يتلقّوا الوحي، ولم يعرفوا من هو المجازي
الحقيقي، ولا فهموا قوانين الخلق بشكل كامل.
كرامة الإنسان تظهر في جوانب عديدة:
- الإنسان يمكنه كبح جماح رغباته المادية، ثم إشباعها بوسائل مشروعة.
- يمكنه تهذيب طموحه نحو السلطة أو المكانة، وتحقيقه في خدمة الحق لا
النفس.
- لديه نفس يمكن تهذيبها، لا كتمانها أو إنكارها بالكامل، بخلاف
الملائكة الذين لا يملكون شهوات.
فالإنسان لا يُطلب منه كبت نفسه بشكل دائم، بل يُطلب منه ضبطها، وتوجيهها وفق معايير خالقها، وهنا تكمن العظمة الإنسانية التي تفوق بها الإنسان على الملائكة.
الملائكة يعرفون أن عظمة الإنسان ليست في مجرد كبت الشهوات، بل في القدرة
على توجيهها عبادةً لله، وعلى التفاعل مع الابتلاءات والمجتمع بميزان الشريعة.
وهذا ما لا يدركه عبدة الأوثان أو متعددو الآلهة، لذا تبقى عقيدتهم في
الجزاء ناقصة، مهما اجتهدوا في الزهد والرياضة النفسية.
أما الفئة الثالثة: أهل الكتاب (اليهود والنصارى)
فهؤلاء يؤمنون بيوم القيامة والبعث، ويؤمنون بانفصال الروح عن الجسد، ثم بعودتهما
معًا يوم القيامة للحساب.
إيمانهم هذا جاء لأنهم تلقّوا وحيًا من عند الله، عن طريق أنبياء صادقين
ورسالاتٍ سماوية.
فالمعاد والجزاء أمورٌ غيبيّة لا يمكن إدراكها بالبصر، كالجنة والنار، لذا
كانت الهداية عبر الوحي الإلهي شرطًا لازمًا لفهم هذه الحقيقة.
وهذا الوحي نزل عبر الملائكة، الذين هم أمناء الوحي، وهم أيضًا حُرّاس
الجنة والنار.
فالأنبياء والرسل أُرسلوا لإبلاغ البشر بتلك الغيبيات، وتعليمهم كيف
ينالون الجزاء الحسن، وكيف ينجون من العذاب، وقد ورد ذلك كله واضحًا في الكتب
السماوية.
فأهل الكتاب يملكون تصورًا عن الجزاء، لأنه مستند إلى الوحي، لكنه في
الإسلام بلغ تمامه وكماله، كما سنُبيّن لاحقًا في مقارنة العقيدة الإسلامية
بالديانات السابقة.
بما أن الله سبحانه وتعالى يختار من بين الناس أنبياء ورسلاً، فقد وقع بعض
أهل الكتاب المنحرفين عن الهدى، وخصوصًا من اليهود، في تصورات خاطئة حول هذا
الاصطفاء. فظنّوا أن اختيار الله لأنبياء من بني إسرائيل يعني أنهم أشرف الأمم،
وأنهم المختارون دون غيرهم، وأن باقي الأمم أدنى مرتبة ولا يستحقون الجنة. بل ذهب
بعضهم إلى إنكار نبوة أي رسول لا ينتمي إلى قومهم.
لكنّ الذين تمسّكوا بالوحي الحق من اليهود، لم يقعوا في هذا الانحراف، بل
آمنوا أن الله يرسل الرسل بحكمته لمن يشاء، سواء كان لِهداية أقوام مخصوصين أو
لهداية العالمين. وهم يعترفون بأن إرسال خاتم النبيين ﷺ هو رحمة للعالمين،
ويُدركون أن قبول الرسالة مرتبط بالعمل والاتباع، لا بالعرق أو النسب.
فمن آمن بالكتب السماوية حقًا، يعلم أن الجزاء قائم على الإيمان والعمل،
وليس على الأصل والنسب. وكل من يظن أن أمته أفضل لمجرد انتمائها العرقي دون
التقوى، فإن مفهومه للجزاء ناقص ومنقوص.
أما في المسيحية، فقد وقع بعض أتباعها في صورة أخرى من الانحراف في فهم
الجزاء.
فحين رأوا ما منحه الله لبعض الأنبياء من المعجزات والكرامات، خصوصًا في آل
عمران، مثل يحيى، وعيسى عليهما السلام، وأمه مريم (عليها السلام)، غالوا في
تعظيمهم.
– رأوا أن عيسى عليه السلام وُلد بلا أب، فاعتبروا ذلك أمرًا خارقًا.
– رأوا أن مريم (عليها السلام) أُكرمت بمعجزات عظيمة.
– رأوا أن آل عمران نالوا فضلًا عظيمًا من الله.
فبدل أن يدفعهم ذلك إلى الإيمان والعمل والاقتداء، دفعهم الانحراف والهوى إلى
أن يؤلِّهوا هؤلاء أو يرفعوهم إلى مقام الشراكة مع الله، فزعموا أن عيسى ابن الله،
وأنه هو المخلّص، وأنه من خلاله فقط يدخل الإنسان الجنة، متناسين أنه رسول بشر، له
مقامه وحدوده.
هذا الانحراف سببه:
– ضعف فهمهم للغيب
– الاعتماد على الظنون لا على النصوص الواضحة
– التعلّق بالآيات المتشابهات وترك المحكمات
فمن اتبع المتشابهات فقط، ابتعد عن الهداية، وصار يعتقد أن من نال كرامة،
فإن له "صلة خاصة بالله"، بل قد يزعم أنه "ابن لله
والله سبحانه قد وضّح في محكم كتابه أن آدم (عليه السلام) خُلق من تراب،
ونفخ الله فيه من روحه، فصار خليفة في الأرض، وسُخّرت له السموات والأرض، ليطلب
الخير في الدنيا والآخرة، ويتقرّب إلى ربه بالعبادة والطاعة.
لكن عندما يتبع الناس أهواءهم، ويتأثرون بالشيطان، ينحرفون عن الفطرة،
فيتركون شكر النعم، ولا يعبدون الله، ولا يصدقون رسله، ولا يؤمنون بيوم الدين.
فكل من ترك الوحي واتبع الظن والهوى، وأله الناس، أو منحهم صفات الربوبية،
فقد ضل في باب الجزاء، ووقع في الانحراف العقدي، مهما كانت نيّته.
وهذا ما يُظهر لنا عظمة الإسلام، الذي ضبط العقيدة، وأوضح العلاقة بين
العبد وربه، وحدد معايير الجزاء بحق وعدل ووضوح.
إن ربّنا جلّ وعلا لم يتوقف عن إرسال الرسل والأنبياء في ذرية آدم عليه
السلام، ليستمر بذلك توجيه البشرية إلى الصراط المستقيم، وتمكينهم من طلب الخير في
الدنيا والآخرة، وتحقيق معرفة الله، والإيمان به، وعبادته وحده.
فعندما ينفخ الله الروح في الجسد البشري، يَمنح الإنسان طاقةً
روحيةً تمكنه من السعي وراء النعيم الدنيوي والنعيم الأخروي، ويكون عليه أن يعرف
ربه، ويعبده، ويخلص له، وبذلك ينال ثواب الآخرة.
أما إذا اتّبع الإنسان شهواته وهواه ، ولم يظهر على روحه أي طهارة
أو سموّ، فإنه يستحق العقاب في الآخرة، لأن الله وهبه هذه الروح ليسمو بها، لا
ليُطفئ نورها باتباع الهوى.
فمن وحّد الله في ربوبيته، وألوهيته، وأسمائه وصفاته، نال الجنة، بل وأكثر
من ذلك: ينال رؤية وجه الله الكريم في الآخرة، كما ثبت في نصوص صريحة وواضحة في
القرآن والسنة، وهذا مما تعلّمه الأمة من النصوص المحكمة الصريحة.
لكن، من جعل مع الله شريكًا في الألوهية، كمن رفع عيسى عليه السلام فوق
منزلته، وأشركه في صفات الرب، وترك النصوص الصريحة الواضحة واتّبع تأويلات باطلة،
وقع في الضلال والانحراف.
من قال بأن عيسى عليه السلام هو "المخلّص"، وأنه من دونه لا
دخول إلى الجنة، وأنه بنفسه يخرج الناس من النار ويدخلهم الجنة، فقد جعل منه إلهًا
يعبد من دون الله.
وهذا نتيجة ترك النصوص الواضحة (المحكمات)، والجري وراء تأويلات المتشابهات،
مما أدى إلى تصور فاسد للجزاء، بل وتصوّر ظالم لله عز وجل، لأنهم ظنوا أن الله
يُدخل الناس النار أو الجنة بشخص ثالث، وليس بعدله ورحمته وحسب.
في حين أن الإسلام يُقرّر:
- أن عيسى عليه السلام عبدٌ لله ورسول
- وأن الأنبياء جميعًا بشرٌ مصطفون
- وأن الجزاء يكون بناءً على الإيمان والعمل الصالح فقط
- وأنه لا أحد يملك الشفاعة إلا بإذن الله
ثم نختم بالوقوف على عظمة العقيدة الإسلامية في الجزاء، وكيف أنها تتكامل
في الدنيا والآخرة:
- فالله هو الرحمن الرحيم، يجازي في الدنيا والآخرة.
- في الدنيا: قد يرى الإنسان أثر أعماله، خيرًا أو شرًا، في نفسه أو
ذريته، في رزقه أو علاقاته.
- في القبر: هناك نعيم وعذاب، بحسب حالة الروح، ومن كان طيّب الروح،
سهل عليه سؤال القبر، وخرجت منه شهادة صادقة.
- عند البعث: هناك جنة ونار، وهناك ميزان، وصراط، وصحف، وشهادة الأعضاء،
وهناك عرض على الله.
- وأعظم الجزاء: دخول الجنة، ثم رؤية وجه الله الكريم، وهي أعظم النعيم.
والإسلام، دين الله الحق، يربط بين العقيدة والعبادة والسلوك، ويجعل
للجزاء أثرًا في كل جزء من حياتنا:
- في الصلاة: نُطهّر أرواحنا ونعلو بها.
- في الزكاة: نُطهّر أموالنا ونتفاعل مع المجتمع.
- في الصيام: نُهذّب شهواتنا وألسنتنا، ونُدرّب أنفسنا على الصبر
والصدق.
- في قراءة القرآن: نغذّي عقولنا وأرواحنا بنور الشريعة، ونُميّز بين
الحلال والحرام، وبين الخير والشر.
فمثلًا: بر الوالدين في الإسلام ليس فقط خلقًا محمودًا في الدنيا، بل هو عبادة، إن
نويت بها وجه الله، فإنها تصبح عملًا يُثاب عليه في الدنيا والآخرة.
وفي شهر رمضان، حيث أُنزل القرآن، تُجمع كل هذه العبادات: الصيام، الصلاة،
قراءة القرآن، الصدقات... وفيه تتجلّى أوضح صور الجزاء، وتكتمل منظومة الإسلام
الشاملة التي تجعل الإنسان واعيًا لحقيقة الوجود، لحقيقة الجزاء، ولحقيقة الهدف من
حياته.
فالجزاء في الإسلام ليس فلسفة مجردة، ولا تأملًا روحانيًا، بل هو حقيقة
مرتبطة بالعقيدة والعبادة والعمل.
وهذا ما يجعل الإسلام دين الجزاء الكامل، المتكامل بين الروح والجسد، بين
الدنيا والآخرة، بين الفرد والمجتمع، بين العدل والرحمة.
كما أن ربّنا سبحانه وتعالى شرع لنا عبادة الحج، ليؤكد أن البشرية كيان
واحد، لا يمكن أن تعيش منفردة. فالناس بحاجة بعضهم لبعض في تلبية متطلباتهم المادية، ومن خلال التعاون في
الخير تتحقق المدنية الإنسانية.
لكن لاختلاف زوايا نظر الناس، اختلفت كذلك تصوراتهم للخير: فمنهم من أصبح
عالِمًا في العلوم، ومنهم من أصبح عالِمًا في السياسة، أو في الأدب، أو في الدين،
وكلٌ أظهر تفوقًا في مجاله.
إلا أن ربّنا سبحانه أعطانا معيارًا واضحًا ومطلقًا للتفاضل بين الناس،
فقال: "إن أكرمكم عند الله أتقاكم".
فالتقوى هي ميزان التفاضل، وليس النسب أو المال أو السلطة أو الشهرة.
كما شُرع لنا أن نقدم أعمالنا الصالحة قربانًا لوجه الله، وكل من يذكر
الله ويتقرب إليه، فهو عند الله عزيز، بغض النظر عن نسبه أو طبقته أو جاهه.
العالِم الحقيقي الذي يذكر الله، لا يكون متكبرًا ولا متعاليًا، بل يكنّ
احترامًا حتى لعامل النظافة في مختبره، لأنه يدرك أن الخير لا يتم إلا بالتعاون.
ومن عبادة الحج أيضًا، يمكن للبشرية أن تحلّ خلافاتها المعرفية، وتُهذب
سلوكياتها المتكبرة، ليظهر أثر الإيمان في السلوك، ويتحقق التوازن بين الروح
والجسد، بين الفرد والمجتمع.
وهذا يوضح كيف أن مفهوم الجزاء في الإسلام متجذر في حياتنا اليومية، من
خلال العبادات والمعاملات، حيث يسعى الناس من خلالها لرضا الله، وللخير في الدنيا
والآخرة.
في الإسلام، الشهادتان هما الأساس:
- الشهادة الأولى: أن لا إله إلا
الله، وهي توجّه القلب كله إلى الله وحده، فتُنسى التعلقات بالمخلوقات،
ويُخلص العبد في العبادة لله.
- الشهادة الثانية: أن محمدًا رسول
الله ﷺ، وهي الالتزام بطريقه وسنته، في مواجهة الحياة ومتغيراتها، والسعي في
عمارة الأرض وفق توجيهاته، لتحقيق الخير والعدالة.
بهاتين الشهادتين، يصل المسلم إلى مستوى عالٍ من التوازن:
- فيضع الدنيا في قلبه باعتدال، ليس حبًا فيها، بل ليطلب منها ما أحله
الله،
- ويضع الآخرة في قلبه هدفًا ومقصدًا،
- ويربط كل أفعاله بمرضاة الله.
وبهذا، يحصل الإنسان على كامل النعم التي وُعد بها:
- في الدنيا: راحة النفس وطمأنينة الروح
- في البرزخ: أمن وسكون
- في الآخرة: جنة ورضوان
- وأعظم جزاء: رؤية وجه الله
الكريم
وهل تحقق الأديان السابقة هذا الكم من الكمال والربط بين الدنيا والآخرة
والخلق والخالق؟
الجواب: قطعًا لا.
فالتمييز لا يظهر إلا بالمقارنة، ومع المقارنة يظهر تفوّق الإسلام،
وعظمته، وشموليته.
نسأل الله تعالى أن يُثبّتنا على دينه، وأن يمنّ علينا بخيري الدنيا
والآخرة، وأن يرزقنا جزاء الطائعين المخلصين.
هذا ما أردت بيانه اليوم، فإن أصبت فمن الله، وإن أخطأت أو قصّرت أو زلّ
لساني، فأسأل الله المغفرة، وأرجو منكم العذر. جزاكم الله خيرًا على الاستماع
والمشاركة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تعليقات
إرسال تعليق