(12) سورة البقرة – الآية : "لا ريب فيه"
المقدمة:
الحمد لله الذي أنزل الكتاب هدى ورحمة للعالمين، وجعل فيه النور المبين،
والصلاة والسلام على خاتم النبيين محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد،
فإن التأمل في قول الله تعالى ﴿لا ريب فيه﴾ يكشف لنا عن
حقيقة عظيمة تؤسس لفهم شامل للعلاقة بين الإنسان والقرآن، وبين النفس والروح، وبين
الخالق والمخلوق. فالقرآن الكريم ليس مجرد كتاب ديني، بل هو المصدر الأصيل للهداية
الشاملة، وهو الميزان الذي تُوزن به المعارف، وتُكشف من خلاله الأسرار الغيبية.
في هذا الدرس، نتوقف عند تكرار هذا الوصف الإلهي العظيم: "لا ريب فيه"، لنستخرج منه دلائل التقوى،
وأثره في النفوس، ودوره في كشف طبيعة النفس البشرية والروح، كما نتأمل كيف فرّق
القرآن بين المتقين، والباحثين عن الروح من غير هدى، وأهل الكتاب الذين حرّفوا
التصور العقدي عن النفس والبعث.
نتناول في هذه الصفحات مسارًا فكريًا وإيمانيًا يعيدنا إلى الأصل: أن
فهمنا لأنفسنا وللوجود لا يمكن أن يكتمل إلا من خلال ما أنزله الله على نبيه ﷺ.
فبالقرآن فقط تتفتح مغاليق النفس، وبنوره تُكشف أسرار الروح، وباتباعه ينال
الإنسان وصف "المتقين" الذين لا يشكّون في أن هذا الكتاب من عند الله،
فيه خير الدنيا والآخرة.
والله ولي التوفيق.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تحية طيبة إلى الإخوة والأخوات في المجموعة، نحمد الله العلي العظيم،
ونصلي ونسلم تسليماً كثيراً على نبينا الخاتم محمد ﷺ، ونسأل الله أن يرضى عن جميع
الصحابة.
اليوم سنقوم بتحليل بسيط لعبارة: "القرآن لا ريب فيه".
لقد أكد ربنا في ثلاث آيات من كتابه أن القرآن لا ريب فيه. وقد فسّر علماء
التفسير عبارة "لا ريب فيه" على أنها تعني أن القرآن لا يجوز الشك فيه.
سنتناول الآن الآيات الثلاث التي ذكر فيها ربنا أن كتابه لا ريب فيه،
ونقوم بتحليلها بشكل محدد.
أولاً، في الآية الثانية من سورة البقرة، يقول الله تعالى:
ذلك الكتاب لا ريب فيه، هدى للمتقين.
في البداية، يخطر ببالنا أن الشخص الذي يتصف بصفات التقوى، لن يشك أبداً
في أن القرآن هو الحق، وهو كلام الله.
ولكي يصبح الإنسان من المتقين، لا يكفي أن يقبل هداية الله فقط، بل عليه
أيضاً أن يمر بالعديد من الابتلاءات، حتى يتصف بصفة التقوى.
نبدأ أولاً بتحليل الأسباب التي تمنع الإنسان من أن يكون من المتقين. فكل
من لا يتصف بصفات التقوى، سيكون لديه شك في القرآن الكريم.
الإنسانية جمعاء — أي ذرية آدم (عليه السلام) — قد منحهم الله نعمة عظيمة،
وهي "الفطرة".
الفطرة تعود إلى الروح الأصلية، وهذه الروح تحتوي على شهادة بأن لهذا الكون خالقاً ومدبّراً، وأنه هو الإله
الحق، هو وحده المستحق للعبادة، لا شريك له.
القدرة على النطق بهذه الشهادة هي بحد ذاتها نعمة من الله شاملة لجميع
العالمين، وخصوصاً البشر.
ولكن، ما إن تدخل الروح إلى الجسد، حتى تظهر "النفْس" — أي
الطبيعة البشرية — وهذه النفس عندما توضع في الدنيا، فإن الإنسان يتحوّل إلى إنسان
كامل يواجه مختلف أنواع الابتلاءات.
أولاً، من أجل البقاء، يسعى الإنسان وراء الثروات المادية والثروات
الروحية لتلبية احتياجات النفس البشرية.
وبما أن آدم (عليه السلام) هو أول نبي ورسول، فقد علّمه الله أسماء كل
شيء، لكي يسهل على الإنسان أن يسعى في طلب رحمته العامة، لأن الإنسان يحتاج إلى
البقاء، والمجتمع البشري يحتاج إلى التطور.
في زمن بعثة خاتم الأنبياء (ﷺ)، كانت الحضارة البشرية قد بلغت مرحلة
ازدهار متميزة. فعلى سبيل المثال، كانت الصين تقترب من عصر أسرة "تانغ"،
وكانت الحضارات الأربع القديمة قد ظهرت بالفعل.
ولذلك، صار لدى البشرية فهم شامل لعالم الخلق. ومع تطور البشرية إلى يومنا
هذا، أصبح هذا الفهم أوضح وأكثر وضوحاً.
وعليه، عندما أُنزل القرآن الكريم على البشر، كان لديهم بالفعل معرفة
كافية بالعالم المادي.
وقد تطورت الحضارة الحديثة إلى هذا الحد، وكلما تقدمت زاد تعمّق فهم
الإنسان لعالم الخلق. فعلى سبيل المثال، العالم المرئي المثبت علمياً، وتطور
العلوم الاجتماعية البشرية — كلها تشهد لصحة الكتاب الذي أنزل على النبي، الكتاب
الذي حفظه الله.
تشهد بأن ما ورد في هذا الكتاب ليس من قول البشر.
ومهما كشف البشر من أسرار عن العالم المادي، سيجدون أن ما اكتشفوه قد سبق
بيانه في الكتاب الكريم.
فالإنسان في الحقيقة لا يفعل سوى التنقيب والاكتشاف لما هو مذكور بالفعل
في الكتاب، وبالتالي يُدرك الإنسان دائماً أنه متأخر عن ذلك الكتاب.
ولذلك، فإن أولئك المتقين يكتشفون أن هذا الإنسان الكريم — مهما بلغ من
تطور وسرعة في التقدم — فإنه يظل متأخراً عن تلكم "الرسالة"، أي القرآن
الكريم. وكلما ازدادت حضارة الإنسان وارتفع شأنه، كلما أدرك أكثر أنه أمام تلك
الرسالة متأخر ومتخلف.
ولا يملك إلا أن يشهد شهادة واحدة: أن خالق الإنسان، خالق هذا العالم
المرئي، كان يعلم منذ البداية إلى أي مدى سيتطور الإنسان.
وما يتضمنه القرآن من علوم اجتماعية ومعرفية عن الإنسان ما هو إلا فضل من
الله، وهبة منه لعباده، ليتسنى للإنسان أن يسعى ويتطور، فيشهد في نهاية المطاف على
وجوده سبحانه.
والمتقون الحقيقيون هم من يصدر منهم ذلك الشاهد: أن هذه الرسالة لا ريب فيها.
ننتقل الآن إلى التعرف على النوع الثاني من الناس. وبما أن الإنسان يتكون
من روح وجسد مادي، فإن اتحاد الروح بالجسد يؤدي إلى وجود "النَّفْس"،
ومع وجود النفس يكون هناك الموت وما يتبعه من خصائص.
فهناك نوع من الناس لا يهتم بكشف أسرار العالم المادي، ولا يسعون لأن
يصبحوا علماء فيزيائيين أو اجتماعيين، بل يهتمون بكيفية كشف أسرار الروح داخل هذا
الجسد — أي يسعون لفهم باطن النفس.
هؤلاء يؤمنون إيماناً راسخاً بأن داخل الجسد روحاً ذات طاقة وشعور وإدراك،
لكن كيف يمكن للإنسان أن يشعر بوعيه الروحي بنفسه؟ كيف يمكن أن يشهد بنفسه أن
الروح والجسد يمكن أن ينفصلا؟
لذلك، يغوصون في هذا المجال بالبحث والدراسة، ليس فقط من الناحية النظرية،
بل أيضاً من خلال التطبيق العملي والتجربة.
وبالطبع، يصلون إلى نتيجة أن هذا الجسد هو الحاجز الذي يمنع الروح من أن
تُدرَك.
ومن هنا، يبدأون في العمل على الجسد نفسه — فيكبحون جماح النفس البشرية،
ويكبتون شهواتها ولا يسمحون لها بالظهور.
فعلى سبيل المثال، في مسألة الطعام، يزهدون فيه، ويعيشون حياة تقشفية،
وحتى في مسألة الجنس، يتخذون أسلوب "الرهبنة"، فيقيدون أنفسهم ويمنعونها.
ومن خلال بذل الجهد والمشقة، يحاولون قمع الرغبات الجسدية، أملاً في
الوصول إلى الإدراك الروحي والإحساس العميق بكيان الروح، بل والوصول إلى حالة
يمكنهم فيها أن يشهدوا بأن الروح يمكنها أن تخرج من الجسد.
ولأن الروح هي أمر حقيقي فعلاً، فإن أولئك الذين يجهدون أنفسهم في مجاهدة
الجسد، ويكبحون ميولهم النفسية، لا يلهثون وراء السلطة، ولا الشهرة، ولا المجد،
ويزهدون في الدنيا — هؤلاء جميعاً يشتركون في صفة واحدة: أنهم يستطيعون أن يشعروا
بوجود الروح بشكل حقيقي، وأن يعيشوا حالة من الإدراك الروحي والوعي بالروح.
فعندما يكبح الإنسان شهواته الجسدية — سواء كانت شهوتَي الطعام أو الجنس —
بل وحتى يصل إلى درجة الرهبنة، فإننا نعلم جميعاً أن الروح والجسد يكونان في حالة
انفصال أثناء النوم، وخاصة لدى أولئك الذين تفرغوا واعتزلوا الدنيا، فهم يكونون
أكثر قدرة على رؤية الكائنات الروحية أو الجن في حالة الحلم أو بين النوم واليقظة.
أما الذين يكبحون رغباتهم النفسية والعقلية، فيبتعدون عن تسلية النظر إلى
الجبال والأنهار، أو الاستماع إلى الموسيقى، أو غيرها من وسائل الترفيه، ولا
يشاركون في السعي وراء السلطة أو المال أو المجد — فإنهم يفضلون العزلة، والابتعاد
عن الأنشطة الاجتماعية، ويحبون السكون والهدوء.
وفي هذه الحالة، فإن أرواحهم تكون في حالة صفاء ووضوح، ويكون لديهم قابلية
لرؤية "الأحلام الواضحة" المتعلقة بالقدر المسبق.
وبسبب رؤيتهم المتكررة لهذه الأحلام الصافية، فإنهم يلجؤون إلى تفسيرات
تقليدية حول هذه الأحلام التي تحمل معاني القدر، ويكون لديهم شوق عميق لكشف أسرار
"القدر المسبق".
وهكذا ظهرت هذه الفكرة: أن الإنسان يستطيع من خلال كبح شهواته الجسدية
والنفسية أن يصل إلى الإدراك الروحي، وأن يتعرف على عالم الأرواح، ويكشف أسرار
القدر.
وقد نال كثير من هؤلاء نصيباً من رحمة الله الشاملة، فأكرمهم بأن يشعروا
بحالة "الإدراك الروحي"، واطّلعوا على بعض الظواهر من عالم الأرواح،
وفتح الله عليهم بعضاً من أسرار القدر.
وما تراه "عين الروح" هو جزء من هذه الرحمة العامة.
فهم فعلاً قد كبحوا الشهوات الجسدية والرغبات النفسية، وبذلوا جهداً
عظيماً، فجازاهم الله في الدنيا بأجرٍ من عنده، لأنه هو ربّ الرحمة العامة.
لكن الإنسان، اعتمادًا فقط على خبرته وعقله وما يضعه من مناهج وقوانين، لا
يمكنه أن يدرك "النَّفْس" التي تسكن في روحه إدراكًا صحيحًا.
وذلك لأن الروح التي نمتلكها هي منحة من الله، وقد منحها لنا بروحه، وهي
تحمل في داخلها سر "النَّفْس"، الذي يشهد بأن كل شيء زائل، وأن الله
وحده هو الحي القيوم، الباقي الذي لا يموت.
وعندما نُبعث في الآخرة، سيمنحنا ربنا "نَفْسًا" أبدية لا نهاية
لها، لكي تكون بمثابة "شهادة" نُدرك من خلالها هذه الحقيقة.
فالعقل وحده لا يستطيع أن يصل إلى إدراك حقيقي وسليم لماهية
"النَّفْس"، ولذلك أرسل الله الرسل والأنبياء، ومن خلال كتبه المنزَّلة
شرح لنا كيفية فهم "النَّفْس" إدراكًا صحيحًا.
أما أولئك الذين يعتمدون فقط على عقولهم وتجاربهم في مجاهدة النفس،
ويكبحون شهواتهم النفسية والجسدية، فإنهم رغم إيمانهم بوجود الروح، إلا أنهم —
لعدم تلقيهم لهداية الله التي أوصلها للناس — لا يعرفون الطريقة الصحيحة لفهم
الروح وبالتالي لا يستطيعون إدراك "النَّفْس" إدراكًا كاملاً.
ومن هنا ظهرت عندهم عقيدة التناسخ (الرجعة)، لأن أرواحهم لم تستطع أن
ترتقي إلى مرتبة الأرواح الطاهرة النقية كأرواح الملائكة، ولم تتمكن من الإيمان
بحقيقة "النَّفْس" ومقصدها الحقيقي.
والنفس التي نمتلكها نحن البشر، وُجدت لكي تؤدي شهادة، وهي أن الله ربنا
وحده هو الحي القيوم، لا يموت.
فعندما يُفني الله هذا العالم، ويزول كل شيء، ثم يُعيد بعثنا من جديد،
فإننا بعد البعث سنُدرك أن الذي أعادنا إلى الحياة هو الرب الحي القيوم.
وسنشهد في ذلك اليوم: أن من أعادنا إلى الحياة هو الرب الحي القيوم، الذي
لا يموت.
وهذا هو الفهم الصحيح لـ"النَّفْس"
من الذي أخبرنا بهذه الأخبار عن البعث، وعن يوم القيامة؟
هذه الأمور لا يعلمها إلا الرب الحي القيوم وحده، لذلك فهو يرسل الرسل
ليبلغونا بها من خلال كلامه هو.
الإنسان لا يستطيع أبداً أن يبتكر هذه المعارف بنفسه، فحين يحاول التفكير
فيها بعقله المجرد، ينتهي به الأمر إلى اختراع نظرية "التناسخ"، فيقول:
"بما أن الروح لا تموت، فهي تعود مرة أخرى لتتجسد في جسد آخر"، وهكذا
يتخيل أن الروح تظل تدور في الأجساد.
وبذلك تنشأ هذه النظريات والافتراضات.
وبطبيعة الحال، فإن هذا الشخص لا يكون من المتقين.
أما المتقي، فلا يكتفي بالإيمان بوجود الروح، بل يقبل الهداية من الله لكي
يتعرّف على حقيقة "النَّفْس" إدراكًا صحيحًا.
القرآن الكريم هو هدى للمتقين.
وربنا الذي خلق لنا هذا الجسد، وزوّدنا بالروح، هو من سيهدينا إلى الطريقة
الصحيحة لفهم الروح، وإدراك حقيقة "النَّفْس" التي تحملها.
ولهذا السبب، أنزل إلينا شريعة خاصة به — منهجًا وتشريعًا — لتنظيم
سلوكياتنا، وضبط رغباتنا الجسدية والنفسية.
فهذا التشريع لا يكتفي بمنح الإنسان الكفاية والرضا، بل يساعده — حتى دون
مجاهدة شديدة أو تقشف مفرط — على أن يشعر بوجود الروح، ويدرك حقيقتها، بل وقد يرى
بعينه عالَم الأرواح والكائنات غير المرئية، ويكتشف أسرار القدر.
وعندما يسير الإنسان وفق التشريع الإلهي، يكون كل شيء أتمّ وأكمل.
فلا يقتصر الأمر على مشاهدة عالم الجن، بل قد تنكشف له حتى أسرار الملائكة
والملكوت العلوي.
ولهذا، يخبرنا ربنا في الآية الثانية من سورة السجدة:
"تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين".
كما أن السورة نفسها تتحدث عن أولئك الذين يتهجدون بالليل ولا تلهيهم
الفُرُش، أي الذين يقومون الليل.
وهؤلاء غالباً ما يتّصفون في النهار بسُنّة الصيام.
ومن خلال الأحاديث النبوية نعلم أن هؤلاء القوم يسعون لنيل رضا الله من
خلال الفرائض، ويجتهدون في نيل مرضاته من خلال النوافل،
فإذا رضي الله عنهم وقبل منهم عباداتهم، صار هو سبحانه سمعهم الذي يسمعون
به، وبصرهم الذي يبصرون به، ويدهم التي يبطشون بها، ورِجلهم التي يمشون بها.
فإذا كان الله معهم، يؤيدهم ويساعدهم، فهل سيُخفى عليهم شيء من العوالم
الغيبية؟ هل ستُمنع عنهم أيٌّ من نِعَم القدر؟
عندما يكون الإنسان في معية ربه، فإن إحساسه الروحي يكون في أعلى درجات
الوضوح.
فإذا دعا ربه، استجاب له؛ وإذا سأل، أُعطي؛
وحينئذ، تنفتح أمامه أبواب القدر ونِعَمُه، لأن الله هو من يمدّه بالعون.
أما عالم الأرواح وعالم الجن، فالشيطان وإبليس يُطردان ويبتعدان عنه،
ويقترب منه الملائكة.
فهو في معية الملائكة، ويعيش في صحبتهم.
وهذا الإنسان هو بحق إنسان مبارك، قد نال من الله الخير والفضل.
والقرآن الكريم قادر على أن يُخرج مثل هذا الإنسان، فَلِمَ يبحث البعض عن
طرق أخرى؟
فمن يصل إلى هذه المنزلة العالية من الفضل، فهو بلا شك من المتقين،
لأن ربنا قد قال في كتابه: "إن الله مع الذين اتقوا".
الآن ننتقل لقراءة النوع الثالث من الناس — وهم أهل الكتاب.
لأن فيهم أنبياء ورسل، أرسل الله إليهم أنبياء وأنزل عليهم كتبًا سماوية،
وبلغهم من خلالها أخبارًا عن البعث، والجنة، والنار.
وأهل الكتاب — جميعهم — يؤمنون بهذه الأخبار.
لكن، أهل الكتاب المنحرفين يفتقدون فهمًا أساسيًا ومهمًا، وهو: الحساب بعد البعث، والمرور على الصراط.
فكل من يشرك بالله، وكل من لديه صفات الشرك، سيسقط في جهنم.
أما من لا يشرك بالله، حتى ولو كان يحمل إيمانًا بقدر ذرة، فسينتهي به
الأمر إلى أن يكون من أهل الجنة.
لكن أهل الكتاب المنحرفين لا يملكون هذا الفهم، فهم يعتقدون أن مخلّصهم هو
عيسى (عليه السلام)، أو أن مخلّصهم هو عزير (عليه السلام).
وقد ألهوا عباد الله الذين أعطاهم الله نعمًا، فظنوا أن هؤلاء يمتلكون
صفات إلهية، وأن لهم حقًّا في أن يُعبدوا.
وظنوا أنه بمجرد اتباع هؤلاء، وتصديق ما لديهم من صفات، والإيمان بأن
لديهم قدرة على خلاص البشرية، فإنهم سيدخلون الجنة مباشرة.
هذا التصور الخاطئ يعكس جهلًا في فهم الغيب، بل وفي فهم حقيقة الإنسان
نفسه.
هم لم يُميّزوا بين ما هو من خصائص الله، وما هو من خصائص البشر، بل خلطوا
بينهما.
فمثلًا: روح الله وكلامه هي صفات خاصة به — لا يجوز أن يُشرك فيها أحد.
لكن الله سبحانه استخدم هذه الصفات ليرشدنا إليه، لندركه ونعبده.
فهو يُرشدنا بكلامه، ويمنحنا من روحه، لنجعلها شهادة على أنه هو الحي
القيوم، ولنكون عبادًا له.
لكن كثيرًا من الناس خلطوا الأمور، فكيف حدث هذا الخلط؟
مثلًا: كلام الله عندما يُنطق به على لسان إنسان، أو يُترجم إلى أفعال
بشرية، فهذه فقط علامات ودلائل على كلام الله — مجرد إشارات، وليست دليلاً على
الألوهية.
لكن بعض الناس، بما أن اللسان ينطق بكلام الله، والسلوك يُظهر هذا الكلام،
يظنون أن هذا الشخص نفسه أصبح "مقدسًا" أو "ذو طبيعة إلهية".
هؤلاء الناس لا يدركون أن ما يصدر من الإنسان من كلام أو فعل ما هو إلا
علامة وشهادة على أن لله كلامًا حقيقيًا، وأنه هو الذي قاله، وليس لأن هذا الإنسان
بحد ذاته إلهي.
فالله يقول في كلامه: "إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون".
ويقول إنه خلق كل شيء من العدم، وأنه قادر على إفناء العالم، وكذلك خلق
السماوات والأرض والإنسان.
فهل الإنسان يستطيع أن يخلق من العدم؟ هل يمتلك هذه القدرة؟
هذه القدرة من صفات الله وكلامه، لأنه إذا قال شيئًا، فإنه يكون.
أما الإنسان فلا يملك هذه القدرة.
الله جعل الإنسان يتكلم بكلامه، لكي نذكره، ونعبده، ونكون من آياته، وليس
ليُنسب الألوهية للعبد.
أما عن "الروح"، فإن روح خالق العالمين — روح الإله الحق — فهي مقدسة،
متعالية، أزلية، قائمة بذاتها.
إنه يمتلك هذه الصفات، وهي صفات خاصة به وحده، لا يجوز أن يُشرك فيها أحد.
وروحه جل وعلا تتضمن صفاته من الرحمة العامة (الرحمة الشاملة) والرحمة
الخاصة، كما تتضمن صفاته الأخلاقية الرفيعة.
فهو سبحانه يقول في كتابه:
﴿كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ
الرَّحْمَةَ﴾
أي: جعل رحمته واجبة على نفسه، وهذا جزء من خصائص روحه.
وروحه تتضمن صفات الكمال والجمال.
أما نحن — البشر — فكم نمتلك من الرحمة؟
كم من الجهد والتغلب على النفس نحتاج لنُظهر شيئًا يسيرًا من الخير؟
وكم من الكفاح الداخلي يتطلب الأمر لكبح شهواتنا حتى نتمكن من القيام
بأعمال الخير؟ نحن نعلم هذا جيدًا من أنفسنا.
خصوصًا أن الإنسان بطبعه يريد مقابلًا، فكل عمل خير يقوم به الإنسان
غالبًا ما يطمح من ورائه إلى أجر أو رضا نفسي.
حتى أعظم الأنبياء والرسل — مع أنهم لا يطلبون الأجر من الناس — فإنهم
يطلبونه من الله تعالى.
لولا هذا الأجر الإلهي، لما استطاعوا تحمل ما تحملوه من مشقة، ففعل الخير
دون مقابل أمرٌ فوق طاقة البشر.
الفرق الوحيد أنهم لا يُشركون بالله أحدًا، بل يطلبون الأجر فقط من الخالق.
لكن الإنسان — بطبيعته — لديه رغبات، أما روح الله، فهي حقًا غنية عن كل
شيء، ولا تطلب شيئًا.
وفي الروح يوجد "النَّفْس".
كل العالمين — بما في ذلك أهل الكتاب — يؤمنون بأن هذا العالم سيفنى، وأن
جميع الكائنات الحية ستزول.
حتى الأرواح التي كانت تتصف بالصفات الفاضلة، يمكن أن تعود إلى الله، ولا
يبقى في النهاية إلا الله وحده.
وهذا يدل على أن النفس البشرية يمكن أن تزول، والإنسان لا يستطيع أن يسيطر
على ذلك.
فمتى شاء الله أن يقبض نفس الإنسان، ومتى شاء أن يبعثه من جديد، فهذا خارج
عن إرادة الإنسان.
لذلك، فإن الله وحده هو الحي القيوم، المتحكم، الذي لا يُتحكّم فيه.
وعندما نفهم هذا، نُدرك أن روحه لا يمكن أن يُشرك بها أحد.
فهو من منحنا الروح، ومنحنا النفس، لكي نُبعث من جديد ونشهد بأنه هو الحي
القيوم.
لأننا متنا من قبل، وعدنا إلى الله، ثم بُعثنا،
فنكتشف بأننا قد عشنا من قبل في الدنيا، وأن الصحائف كُتبت، وأعمالنا كلها
مُسجّلة،
فنُدلي بالشهادة: أن الذي أعادنا إلى الحياة هو ذلك الحي القيوم الذي لا
يموت.
ونشهد بأن هذه النفس وهذه الروح تحمل في طياتها هذا المعنى،
وأنها لا يمكن أبدًا أن تُرفع إلى مستوى معادِل لروح الله أو مساوية لها.
فعلى سبيل المثال، عُزَيْر (عليه السلام) قد أدرك بنفسه أن نفسه ليست
بيده، إذ أن الله أماته مئة عام ثم بعثه.
وهذا في حد ذاته كان معجزة، وكان ينبغي له أن يُعلن الشهادة: أن الله وحده
هو الحي الذي لا يموت.
لكن أتباعه لم ينظروا إلى هذا الحدث بوصفه معجزة من الله، بل نظروا إليه
بوصفه دلالة على أن لنفسه طبيعة استثنائية، فرفعوا من شأن "نَفْسه" إلى
درجة عظيمة، حتى وصل الأمر بهم إلى أن قالوا إنه ابن الله، وهذا من سوء الفهم.
وكذلك عيسى (عليه السلام)، وُلِدَ وهو في حالة من الطمأنينة الروحية،
وكانت نفسه (نَفْسُه البشرية) مُهذّبة خاضعة، إذ أن الله قد حفظه من أن تميل نفسه
إلى الشر.
فكان دائمًا في حالة "نَفْسٍ مطمئنة"، وقد مُنح الروح (الرُّوح)
التي تجعله دائم الميل إلى فعل الخير.
فمن يَملك صفات روحية مقدسة، تكون أفعاله دائمًا في الخير، ويبتعد عن
الذنوب.
وقد عاش عيسى (عليه السلام) حياته دون أن يرتكب ذنبًا، ولكن إذا أردنا أن
نقارن "الخير" الذي فعله من منظور بشري:
فهل قام بكل أنواع الخير التي قام بها باقي الأنبياء والرسل؟
هل أكمل كل أوجه الخير التي قام بها خاتم النبيين وأتباعه؟
فجميع أعمال الخير التي قام بها البشر الصالحون، إنما هي آيات وإشارات من
الله، الذي هو الخير المطلق.
أما عيسى (عليه السلام)، فقد عاش دون أن يدخل في الحياة الزوجية، فقط من
أجل التفرغ لفعل الخير.
فكيف يمكننا أن نُدرك طبيعة الخير الكامن في روحه؟
إن الخير الذي كان عنده ليس خيرًا كاملاً مطلقًا.
أما الخالق — الله، رب العالمين، الإله الحق — فإن (رُوحَه) تحتوي على العلم الكامل، والحكمة،
والقدرة، والكرم، والرحمة، والكمال المطلق.
فأيّ مخلوق يمكن أن يُقارن به؟
حتى لو أُطلق على أحدهم أنه "روح"، وحتى لو أظهر خيرًا، فإن
الإنسان لا يمكنه أن يُحيط بكل الخير، ولا أن يُنجز كل أعمال البر،
كما أن خيره نسبي، وليس مطلقًا،
فكيف يُقارن بخالق الخير كله، وبالرب الكامل في رحمته، الكامل في حكمته،
الكامل في علمه؟!
إن الخالق — رب العالمين — يعلم أن في أهل الكتاب يوجد من سيقعون في مثل
هذه الانحرافات الفكرية،
وسبب ذلك أنهم لم يعملوا بما جاء في كتبهم،
فمثلًا، عندهم عُزَيْر (عليه السلام) الذي كشف له الله عن "حقيقة
النفس"، ومع ذلك ألهوه.
وقد جعل الله النفس للإنسان ليطلب من خلالها حسن الخاتمة في الآخرة —
الحياة الأبدية.
وفي الكتب السماوية، نجد أن من يُحب الدنيا ويغتر بها، لا يستطيع أن يعبد
الله عبادة كاملة،
وفي هذه الحالة، تظل "نَفْسه" محجوبة،
فيبدأ في تفسير ما رآه من علامات على عُزَيْر (عليه السلام) تفسيرًا
باطنيًا غامضًا،
بل وقد يُشرك به ويعبده،
وهذا هو أحد الظواهر المنتشرة بين المنحرفين من أهل الكتاب.
وهناك نوع آخر من الناس، يؤمنون بوجود الأرواح الخفية والعوالم الغيبية،
ويُقرّون بوجود الجنة والنار،
لكنهم لا يعلمون أن هذه الروح المقدسة لا يمكن إدراكها إلا من خلال عبادة
الله،
ومن خلال الالتزام الصريح بما ورد في النصوص، وضبط النفس وكبح الشهوات.
فمتى تم كبح الرغبات النفسية والهوى،
ووصل الإنسان إلى حالة النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة — النفس المطمئنة — فإنه بذلك يكتسب صفات روحية تشبه تلك التي كانت لدى عيسى
(عليه السلام).
وبالطبع، فإن أهل الكتاب الذين أوتوا الكتاب، إن لم يعبدوا الله وفق ما
جاء في كتابهم بوضوح،
فإن نَفْسَهم البشرية لن تبلغ أبدًا حالة الطمأنينة،
وحينها لن يستطيعوا أن يشهدوا الحقيقة الكاملة للروح (الرُّوح)، ولن
يُدركوا معناها إدراكًا كاملًا.
فإذا حاولوا إدراك الروح فقط من خلال الصفات القليلة التي يمتلكها الإنسان
منها — مثل صفات الخير —
فإن هذه الخيرات لا تتضمن أيًّا من خصائص النفس البشرية الشريرة أو الميول
الشخصية السيئة، بل هي خيرٌ محض.
وبسبب عدم قدرتهم على الفهم الكامل لهذه الأمور، يبدأون بالتخمين حول
طبيعة عيسى (عليه السلام)،
ويفشلون في إدراك الفروق بين صفات المخلوق وصفات الخالق، فيقعون في التصورات
الخاطئة، بل وأحيانًا في الشرك.
ولذلك، فإن الله سبحانه وتعالى وجّه الخطاب إلى هؤلاء من أهل الكتاب،
وأكّد عليهم في القرآن الكريم أن:
"القرآن لا ريب فيه"، أي لا مجال للشك فيه.
ففي الآية 37 من سورة يونس، يقول الله تعالى:
﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ
أَنْ يُفْتَرَىٰ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ
وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ﴾
أي أن هذا القرآن لم يُفترَ على الله، بل هو وحي من الله، جاء لتصديق ما
بين أيديهم من الكتب السماوية،
وهو تفصيل لما شرعه الله من الأحكام، لا شك فيه، أنزله رب العالمين.
وقد شدّد الله بهذه الصيغة التأكيدية أن القرآن لا ريب فيه.
كما بيّن لأهل الكتاب أن لو أنهم اتبعوا أحكام القرآن، لكان بإمكانهم إدراك
حقيقة "النفس" و"الروح"،
ولما وقعوا في الشرك أبدًا.
ومن هنا نصل إلى خلاصة واضحة:
أن الوسيلة الوحيدة لمعرفة الخلق، والاطّلاع على عالم الروح، والعالم
الغيبي الذي لا تراه أعيننا،
إنما تكون من خلال هذا القرآن المحفوظ، كلام الله،
وأن الأسرار الغيبية لا تُفتح لنا إلا إذا سرنا على ضوء ما بيّنه القرآن،
وعبدنا الله وفق أوامره.
فمن خلال القرآن، سنتعرّف إلى ربنا، خالقنا، الإله الحق، وسنصدر شهادة
التوحيد، ونسعى لنَيْل خيرَي الدنيا والآخرة.
لذلك فإن القرآن لا شك فيه،
ومن يصل إلى هذا الإدراك يكون قد تحقّق فيه وصف المتقين.
ونكتفي اليوم بهذا القدر،
فإن كان هناك خطأ في اللفظ أو غموض في التعبير، فنسأل الله العلي العظيم
المغفرة،
ونرجو من الإخوة والأخوات أن يعذرونا،
والسلام عليكم ورحمة الله
وبركاته
تعليقات
إرسال تعليق