(10) سورة البقره - جذور أمراض القلوب ونور الفطرة
المقدمة:
فقد شغلت مسألة "القلب السليم" مكانةً عظيمة في كتاب الله وسنة
نبيه ﷺ، لما له من أثر مباشر في مصير العبد في الدنيا والآخرة. إن صلاح القلب هو
مفتاح النجاة، ومرضه هو بوابة الهلاك. ولأننا نقرأ في القرآن كثيرًا عن قلوبٍ مريضة،
وقلوبٍ سليمة، كان لا بد أن نقف مع أنفسنا وقفة تأمل وتساؤل: ما الذي يجعل القلب
يمرض؟ وما هي جذور هذه الأمراض؟ وكيف نحافظ على نور الفطرة الذي أودعه الله فينا
قبل أن يُخلق الجسد؟
هذا الدرس الذي بين أيدينا هو رحلة في عمق النفس البشرية، نتعرف فيه على
أهم الأسباب التي تُطفئ نور الفطرة في القلب: من تسلط النفس الأمّارة بالسوء، إلى
الانحرافات الفكرية، إلى النفاق السلوكي والإيماني. كما نبيّن الفروق الدقيقة بين
المؤمنين حقًّا والمنافقين، وبين من حافظ على نور قلبه، ومن أظلمت روحه بالخوف
والقلق .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
نحمد الله العلي العظيم، ونسأل أن يُنزل صلواته وبركاته على نبينا الخاتم
محمد ﷺ، ونسأله أن يرضى عن جميع الصحابة الكرام.
اليوم نشارك موضوعًا يتعلق بتحليل بسيط لأسباب نشوء "مرض القلب"
لدى الإنسان.
في كثير من آيات القرآن الكريم، نقرأ أن ربنا يخبرنا بأن في قلوب كثير من
الناس مرضًا. وفي المقابل، هناك من قلوبهم سليمة.
ونحن نسعى لبلوغ القلب السليم، ذلك القلب الذي يطمئن بذكر الله، لذلك من
المهم أن نفهم جذور نشوء مرض القلب.
أولًا، علينا أن نعرف معيار القلب السليم.
في سورة "الأعراف" الآيتين 42–43، يخبرنا ربنا:
"والذين آمنوا وعملوا الصالحات - لا نكلف نفسًا إلا وسعها - أولئك أصحاب
الجنة هم فيها خالدون" (الآية 42).
"ونزعنا ما في صدورهم من غِلٍّ تجري من تحتهم الأنهار، وقالوا الحمد لله
الذي هدانا لهذا..." (الآية 43).
إذن، فإن من يدخلون الجنة، أي المؤمنون، هم أصحاب القلوب السليمة.
وفي سورة "الحجر" الآيات 45–47، يقول ربنا:
"إن المتقين في جنات وعيون" (الآية 45).
"ادخلوها بسلامٍ آمنين" (الآية 46).
"ونزعنا ما في صدورهم من غِلٍّ إخوانًا على سررٍ متقابلين" (الآية 47).
من هاتين الآيتين يمكننا أن نتعلم أن من ينزع الله الحقد من صدورهم في
الجنة يُسمّون إخوة.
ونحن نعلم أن المؤمنين هم من سكان الجنة، وهم ورثة الفردوس، وهم في الدنيا
إخوة، ويملكون هذه الصفات.
ومن هنا نفهم أن من صفات القلب السليم هو أن يكون صاحبه من المتقين، ومن
الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
وهؤلاء لهم صفة عامة يمكن تسميتهم بـ"المؤمنين".
فلنبدأ بتحليل المتقين:
المتقون هم حتمًا من يَتَوقّون عذاب الله الذي جعله للبشر، سواء كان ذلك
الذل في الدنيا أو العذاب في الآخرة.
فمن يعمل الشر في الدنيا، ويعادي الحق، ويصد عن سبيل الأنبياء والمرسلين،
فإنه ينال الذل في الدنيا،
وبعضهم ينال كذلك أنواعًا من العذاب في القبر، وبعد البعث، وصولًا إلى
مستقره في جهنم.
فهؤلاء لم يتوقّوا ذلك العذاب، ولا يمكن اعتبارهم من المتقين.
إذًا، من أبرز صفات المتقي أنه صاحب حق.
لكن ما هو أول ما يملكه الإنسان من خصائص الحق؟
إنه ما حدّثنا به ربنا جل جلاله حين خلق آدم (عليه السلام)،
فقد مسح ظهره، فأخرج منه ذريته، وأخذ منهم العهد والميثاق،
أن يشهدوا بفطرتهم (الفطرة) أنه هو ربهم، الخالق المستحق للعبادة وحده،
وأنه لا شريك له.
وهذا الإدراك - نور الحقيقة - موجود في الروح قبل أن تُنفخ في الجسد.
وعندما يخلق الله الجسد، ويضع فيه الروح،
يكون الإنسان قد أُعطي نفسًا .
فإن لم تُرشَد هذه النفس، مالت إلى المادة، إلى شهوات الجسد،
فتنمو فيها صفات الذات، وتأمر بالسوء، وتميل إلى الغرور وطلب الباطل.
وهنا، بسبب النفس، يُطفَأ ذلك النور الذي حملته الروح،
نور الفطرة، نور التوحيد، الميثاق الأول.
فأي نفس تتّصف بصفات السوء، فهي قطعًا ليست نفسًا تقية،
وبالتالي، فإن نور الحقيقة الذي حملته الروح - وهو التوحيد، وعدم الإشراك،
والميثاق مع الله-
يُطفأ ويضيع.
لهذا السبب نحن نطلب من ربنا أن يهدينا،
فأعمالنا يجب أن تقودنا لأن نكون من المتقين، وأن نكبح أنفسنا
لأن هذه النفس لا بد أن تبلغ حالة "النفس المطمئنة"
حتى تستحق أن تكون عبدًا لله، وتدخل الجنة.
فالقلب في الدنيا، حينئذ، لا بد أن يكون سليمًا.
لكن حين تفقد النفس توجيهها، وتُطفأ النور الأصلي من الحقيقة (نور
الفطرة)،
يظهر ما نسمّيه "أمراض القلب"، مثل:
– الكِبر
– الأنانية
– الغرور
فمن الكِبر ينشأ الحسد،
ومن الأنانية والغرور تنبع الظنون السيئة،
وتظهر أعراض كثيرة من أمراض القلب التي كلها تعود إلى تأثير النفس،
وبسببها يُطفأ نور الروح الذي زُوّد به الإنسان أصلاً من ربه.
ثم النقطة الثانية التي يذكرها ربنا:
أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، يُنزع الحقد من قلوبهم في الجنة،
وهذا من علامات القلب السليم.
ونحن نعلم أنه في الدنيا لا بد من العمل الصالح،
والعمل الصالح نوعان:
– رحمة عامة
– ورحمة خاصة
والنوعان مطلوبان، في الدنيا والآخرة.
الله عز وجل جعل رحمته العامة (الرحمة الكونية) متاحة للجميع،
فنحن في الدنيا نسعى لتحصيل الخيرات المادية والمعنوية،
وهذا السعي لا بد أن يكون مقرونًا بالعمل الصالح.
الناس عندما يسعون لتحصيل هذه الرحمة العامة،
يُنتج المجتمع العلوم والخبرات،
وتتكون الأخلاق والفضائل،
وهذا دليل على أن الإنسان قادر على إدراك الخير،
لأن الله خلقه وفيه خاصية العمل الصالح، ليكون بذلك آية من آيات ربه.
وهنا تظهر ثلاث فئات من الناس:
1.
الفئة الأولى:
من يشهد بأن هناك رب رحيم،
وأنه لا شريك له،
وأنه رب العالمين، وهو وحده المستحق للعبادة،
فهؤلاء ينالون الرحمة الخاصة،
وقلوبهم تكون سليمة،
لأنهم حافظوا على نور الفطرة الأصلي الذي خُلق معهم.
2.
الفئة الثانية:
من لا يعترف بوجود الرب الرحيم أصلًا،
رغم أنهم يعملون الخير،
ويحصلون على النعم المادية والمعنوية،
لكنهم لم يشهدوا بأن الرب هو الذي منحهم ذلك،
فانطفأ نور فطرتهم بسبب الانشغال بالدنيا.
3.
الفئة الثالثة:
من يشهد، في أثناء سعيه لكشف أسرار الكون،
أن هناك خالقًا للوجود،
لكن شهادته سطحية،
لا تشمل الاعتراف بأن هذا الرب هو الواحد المستحق للعبادة،
فشهادته ناقصة، ونور فطرته أيضًا يُطفأ.
وهاتان الفئتان تؤديان إلى ظهور جيل جديد،
يولد وفيه نور الفطرة،
لكن يتم تربيته على مفاهيم خاطئة من قبل الوالدين،
فتنطفئ فيه شعلة الحقيقة،
ويبدأ المرض الروحي بالظهور.
ثاني أسباب مرض القلب هو: المعرفة غير الكاملة.
المعرفة الخاطئة تقود إلى الانحراف في القلب،
لأن نور الحقيقة (نور الفطرة) يُطفأ ويُستبدل بأفكار منحرفة.
ومن هنا تبدأ أمراض أخرى، مثل:
– ضيق الأفق
– التمسك بالرأي
– ضيق الصدر، والكآبة
– اختلال ترتيب الأولويات
– الهروب من المسؤولية
– الجمود الفكري
والقرآن الكريم يطلق على هذا النوع من الانحراف مصطلح "زيغ" (زيغ القلوب)،
ويُلاحظ ذلك في من يتمسكون بأفكارهم الخاطئة رغم وضوح الحق،
ويُصرّون على فرض آرائهم،
حتى لو لم تكن قائمة على وحي أو برهان.
وهناك نوع آخر من الناس،
وهم الذين قال الله عنهم: "نزعنا ما في صدورهم من غِلّ، إخوانًا على
سرر متقابلين في الجنة"،
هؤلاء الناس في الدنيا يظهر عليهم وصفٌ خاص، وهو أنهم "مؤمنون".
وكل من يُطلق عليه لقب "مؤمن" يتمتع بصفات محددة:
– الإيمان الراسخ
– التصديق بالغيب
– الاستقامة في الأمور المتعلقة بعلاقة الإنسان بنفسه،
– وبربه
– وبالخلق.
أي أن تزكية النفس لديهم تامة، فهم يطلبون الخير سواء في السراء أو الضراء.
وفي شأن العبودية (الجانب الرباني)، فهم قد أدّوا ما أمر الله به.
وفي التعامل مع المخلوقات، فإنهم أدّوا العبادات بشكل كامل وسعوا لتحقيق
الخير.
فهؤلاء فقط هم الذين يُعدّون مؤمنين،
وقد بيّنت سورة المؤمنون في بداياتها هذه الصفات الثلاث:
تزكية النفس، العلاقة مع الله، والعلاقة مع الخلق،
إلى جانب التصديق بالغيب.
من يُوصف بأنه "مؤمن" لا بد أن يكون قد تحقق بهذه الصفات،
فهو بعيد كل البعد عن "المنافق"،
بل على العكس تمامًا.
أما "المنافق"، فقد قال الله تعالى عنه في سورة البقرة، الآية
10:
"في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضًا، ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون."
وقد فسّر العلماء هذا المرض بأنه "الشك"،
فالقلوب المريضة بالشك تتردد وتشك في الحقائق التي أنزلها الله،
وتحديدًا يشكّون في هذا الدين (الإسلام)، الذي هو منحة من الله لعباده.
وهذا النفاق القائم على الشك،
يُنتج أعراضًا قلبية مثل:
– سوء الظن
– كثرة التردد
– القلق والاضطراب النفسي
لأن النفاق هو خلل في العقيدة والسلوك،
يظهر صاحبه وكأنه مؤمن،
لكن باطنه مختلف تمامًا عن ظاهره.
لذلك يعيش المنافق دائمًا في خوف،
خوف من انكشاف حقيقته،
وتوتر دائم خشية أن يُفضح،
وهذه كلها أعراض من أمراض القلوب،
وهي صفات أصيلة في المنافقين،
كما بيّنها الله عز وجل.
لنقم الآن بخلاصة صغيرة، مع استعمال تشبيه لتقريب الفهم.
إن الفطرة التي فطرنا الله عليها، والتي أودع فيها الشهادة على الحق، يمكن
تشبيهها بـ"نور"،
وهذا النور هو من أعماق الروح، قد أودعه الله فينا قبل أن تُخلق أجسادنا،
وقد جعله الله في قلوبنا ليكون دليلاً على الحقيقة المطلقة:
وهي أن الله هو الخالق، الموجود، المستحق للعبادة وحده لا شريك له،
له الوحدانية المطلقة.
فإذا ضاع هذا النور، فمعناه أن النور العميق في الروح قد انطفأ.
وما سبب هذا؟
- أولاً: نَفْس الإنسان، أي الأنا المتكبرة، الأنانية، والاعتداد بالرأي.
- ثانيًا: الاعتقادات الخاطئة والانحرافات الفكرية، سواء من الإنسان نفسه، أو
نتيجة لتربية الوالدين وتعاليمهم الخاطئة.
- ثالثًا: النفاق في العقيدة والسلوك، وهو ما يؤدي كذلك إلى إطفاء ذلك النور
الفطري في القلب.
وحين يُطفأ هذا النور، يظلم القلب. وإذا أظلم القلب، أصابه الخوف،
نشأ فيه شعور عميق بالخوف من المجهول.
فقد افتقد إلى النور الحقيقي الذي يمنحه الطمأنينة،
وهو نور التوحيد، ونور الشهادة لله رب العالمين.
وعند غياب هذا اليقين، يشعر الإنسان بأنه بلا حماية.
فهو لا يثق في المخلوقات، ولا يطمئن للطبيعة من حوله،
ويخاف من المجتمع الإنساني، لأن أعماق روحه قد امتلأت بالخوف.
بل وأكثر من ذلك، إذا كان عنده جهل بعالم الغيب،
فقد يتأثر بقصص "الأشباح" أو "الجن" ويسيطر عليه
الخوف،
وإذا علم أن هناك عالمًا غيبيًا لم يُرَ،
ولم يكن لديه إيمان حقيقي،
فإنه سيخاف حتى من الموت.
وربما تظهر عليه أعراض "رُهاب الموت" (الخوف الشديد منه).
أما الذين لا يخافون من الموت،
فهم كما قرأنا عن صحابة رسول الله ﷺ،
الذين كانوا يقولون:
"نحب الموت كما يحب غيرنا الحياة"،
حين كانوا يجاهدون في سبيل الله.
ذلك لأنهم لم يضيّعوا النور الفطري في أعماق قلوبهم،
بل حافظوا عليه، وهو "نور معرفة الله"، "نور الشهادة".
بل إنهم كذلك قبلوا الرسل الذين أرسلهم الله،
وتعلموا منهم كيف يعبدون الله عبادة صحيحة.
وبأعمالهم الصالحة تقربوا إلى الله،
فكان الله معهم،
فلم يبقَ في قلوبهم خوف.
ثانيًا: عندما تؤدي النفس الأمّارة بالسوء، والاعتقادات المنحرفة، وصفات النفاق إلى
إطفاء ذلك النور العميق في القلب،
يعيش الإنسان في الظلام، وتسيطر عليه مشاعر الخوف والقلق،
ويفقد الاتجاه، ويشعر بالضياع، ولا يعلم ما هي النهاية والمصير.
فينشأ في قلبه الحزن والهمّ.
وقد يرى بعض الناس في الدنيا أنهم قد نالوا بعضًا من الرحمة العامة،
مثل المال، أو الراحة المادية، أو الإشباع الروحي المؤقت:
من سلطة، أو شهرة، أو كرامة، أو أبناء، أو مشاعر محبة.
وربما يشعر لبعض الوقت، لسنة أو سنتين، وكأنه لا يحمل حزنًا،
لكن هذا الشعور لا يدوم، فهو غير ثابت، ولا يولّد طمأنينة دائمة أو سعادة
مستمرة.
بل سرعان ما يعود القلق، ويظهر الهمّ من جديد.
فمن هو الإنسان الذي لا يحمل في قلبه هذه الأمراض؟
من هو الذي يحقق قول الله تعالى:
"ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون"؟
من هو الذي قال عنه الملائكة عند قبض روحه:
"ألا تخافوا ولا تحزنوا، وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون"؟
هؤلاء هم أولياء الله الذين رضي الله عنهم،
وهم المتقون، وأصدقاء الملائكة في لحظة الموت.
نضرب لذلك مثلاً:
هؤلاء الناس حافظوا على نور الفطرة الذي أودعه الله في أرواحهم قبل خلق
أجسادهم.
فكانوا متقين.
ثم قبلوا الرسل والكتب، وتعلّموا كيف يعبدون الله،
فاجتهدوا في الأعمال الصالحة،
فأثمر ذلك نورًا ثانيًا: نورًا ناتجًا عن الإيمان والعمل الصالح.
فصار في قلوبهم "نور على نور".
نور الفطرة + نور الهداية = نور على نور.
فهل يكون في مثل هذا القلب مرض؟
بالطبع لا،
بل هو أكمل القلوب صحة وسلامة،
سليم في الدنيا، وسليم في الآخرة في جنات النعيم.
نسأل الله أن يرحمنا، وأن يرزقنا قلوبًا سليمة.
وصلّى الله على سيدنا محمد،
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وما كان من خطأ أو تقصير أو زلل، فأسأل الله العفو والمغفرة.
سامحوني أيها الإخوة والأخوات
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تعليقات
إرسال تعليق