(8) سورة البقره - أسباب ظهور النفاق: نظرة إيمانية وروحية
المقدمة :
حديثنا اليوم يتناول موضوعًا من أخطر ما يهدد إيمان الإنسان ويُفسد
أعماله، ألا وهو: النفاق.
النفاق ليس مجرد خلل في السلوك أو اضطراب في القول، بل هو مرضٌ في القلب،
وفصامٌ بين الظاهر والباطن. وقد حذر الله سبحانه وتعالى منه في مواضع كثيرة من
كتابه، وخصّ سورةً كاملة تحمل اسم "سورة المنافقون"، بيّن فيها صفاتهم
ومصيرهم، وهو الدرك الأسفل من النار.
وفي هذا الدرس، نتأمل في جذور النفاق: كيف يظهر؟ ما علاقته بالنفس والروح؟
كيف يمكن أن يقع الإنسان فيه دون أن يشعر؟ وما الفرق بين من يشهد شهادة حق بروح
مطمئنة، وبين من يتلفظ بها وقلبه خاوٍ منها؟
نسعى في هذا اللقاء إلى فهم هذا الداء الخطير من خلال تحليل قرآني وروحي،
مستلهمين من الرقم (63) وما حملته سورة المنافقون من إشارات، ومعتبرين بسيرة
المنافقين في زمن النبي ﷺ، حتى نتجنّب صفاتهم ونربي أنفسنا على الإخلاص والصدق
والصفاء.
نسأل الله تعالى أن يطهّر قلوبنا من النفاق، وأن يجعلنا من عباده الصادقين.
اليوم موضوعنا هو: التعرف على معنى "النفاق".
كلمة "نفاق" تتكوّن من أربعة حروف، وتُترجم بمعنى "حلاوة
اللسان وخبث السريرة"، أي أن ما يُخفى في قلب الإنسان يختلف عن ما يظهره من
كلامٍ وسلوك.
كما قال العلماء: من اتّصف بهذه الصفات يُعدّ منافقًا، وهم أناس لا يتطابق
قولهم مع فعلهم، يظهرون عكس ما يُبطنون، يتلوّنون بحسب الظروف، يتملّقون، ويظهرون
الولاء وهم يُخفون العداء.
للنفاق أنواعٌ:
الأول: في الإيمان، وهذا النوع إذا وُجد في الإنسان يوصله إلى الخلود في
النار.
الثاني: في السلوك، وهو من أعظم الذنوب، وقد وصف نبينا محمد ﷺ المنافق بأنه
من كانت فيه أربع صفات، فهو منافق خالص، كما ورد في حديثين شريفين:
١. إذا اؤتمن خان
٢. إذا حدّث كذب
٣. إذا عاهد غدر
٤. إذا خاصم فجر
وقد خصّ الله تعالى سورة في القرآن اسمها "سورة المنافقون"،
وبيّن فيها صفاتهم.
وفي "سورة النساء" الآية 145، قال الله تعالى: "إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار، ولن تجد لهم نصيرًا".
واستخدم التعبير "ولن تجد لهم نصيرًا" ليبيّن أن حتى رسولنا
محمد ﷺ – وهو أشرف الخلق – لا يستطيع أن يشفع لهم، فيُظهر ذلك مدى خطورة مصير
المنافقين.
أما "سورة المنافقون" فهي السورة رقم 63 في القرآن، والذين
يكثرون من ذكر الله والصلاة على النبي محمد ﷺ يعرفونها جيدًا، لأن نبينا محمد ﷺ
توفي عن عمر 63 سنة بالتقويم القمري.
وتُظهر أسباب نزول آيات هذه السورة ما تعرّض له النبي ﷺ من مواقف مع
المنافقين عندما هاجر إلى المدينة المنوّرة لإتمام رسالته، وهذه الأحداث هي التي
شكّلت خلفية نزول "سورة المنافقون".
• الآن نُجري تحليلًا لارتباط الرقم 63 ونفهم كيف يظهر "النفاق"،
لنعرف جذوره ونحذر منه إيمانيًّا وسلوكيًّا.
نعلم أولًا أن الإنسان خُلق له جسد مادي، وهذا الجسد أودع الله فيه الروح،
فأصبح له جانب مادي وروحي. والأوضح أن لدينا نفسًا (أي الذات أو الطبيعة
البشرية). فبغضّ النظر عن هذه الثنائية، فإننا في حياتنا نُدرك ما هو ماديّ فقط:
الأجسام، الحواس، المشاعر الظاهرة. أما الجانب الروحي الداخلي فلا يمكن رؤيته
بالعين المجردة، بل حتى الإنسان نفسه لا يستطيع إدراك حال روحه أو نفسه بوضوح.
فمثلًا، الله أعطى الإنسان الروح، فصار حيًا، يمتلك مشاعر واحتياجات
روحية. لكنه لا يستطيع أن يرى داخله كما يرى جسده. فالجسد يُخفي الجانب الروحي
للإنسان، ولهذا يملك الإنسان وجهين:
1.
وجه مادي ظاهر: العيون، الفم، الأنف، يمكن رؤيته ولمسه.
2.
وجه داخلي روحي: يظهر أحيانًا في الأحلام، كأن ترى نفسك أو أقاربك، أو
تسافر خلال دقائق، وهذا يُظهر أن للروح شكلًا وصورة، أي أن لها وجهًا.
• من هنا نفهم أن الروح، عندما تتجلى، فإن لها وجهًا، وهذا أكّده الوحي، حيث
أخبرنا النبي محمد ﷺ أن الملائكة تقبض الأرواح عند الموت، وتخرج من الجسد ليعود
الإنسان إلى ربه. يُسمّيه بعض الناس "موتًا"، أما المؤمنون فيسمّونه
"العودة إلى الحق"، أي العودة إلى الحقيقة الأصلية.
الذي لا يؤمن بالحقيقة لا يمكنه الرجوع الكامل. لكن المؤمن، حينما يُقبض،
يظهر وجهه الداخلي، وإذا كان هذا الوجه الداخلي متطابقًا مع الظاهر، يكون الإنسان
خاليًا من النفاق. فالروح حينها في حالة طُمأنينة، ونفسه مطمئنة، كما وصفها الله
في سورة الفجر: "يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ".
• عندما يمنح الله الإنسان هذه الروح، وتكون نفسه مطمئنة، فإن وجهه الداخلي
يتطابق مع الخارجي، فتخرج منه شهادة صادقة: يشهد أن محمدًا ﷺ رسول الله بصدق، لأنه
يحمل روحًا طاهرة مطمئنة، حافظ على الفطرة التي وهبها الله لبني آدم.
فيشهد بحق أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويؤمن بأن الله لا
شريك له، ويُوقن بأن الله أرسل الرسل ليُعلّموا الناس كيفية عبادته ونيل الخير في
الدنيا والآخرة. هذه الشهادة الكاملة تُظهر أن الروح قد بلغت مرتبة عالية حتى
تُسمى "روحًا" بحق، كما سُمِّي عيسى عليه السلام "روحًا من
الله"، وعندما بشّر بقدوم نبي اسمه أحمد، كان ذلك من صفاء روحه.
لأن من يستحق أن تُسمى روحه "روحًا" مطمئنة، لا بد أن يشهد
برسالة محمد ﷺ، ويؤمن بأنه رسول الله حقًا.
• لذا، في أول آية من "سورة المنافقون"، يقول الله تعالى:
"إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ
اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ ۙ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ
الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ".
أي أن المنافقين يُظهرون الشهادة، لكنّها كاذبة، لأن أرواحهم ليست مطمئنة،
ووجوههم الباطنة لا تطابق وجوههم الظاهرة، ولذلك صدرت منهم شهادة نفاق، لا شهادة
إيمان.
• المعنى أن المنافق يحمل نفسًا تأمره بالسوء؛ فهو أمام المادة أناني، وأمام
الروح متكبر، وأمام نفسه مستبد يظن أن الكون كله يتمحور حوله. مثل هذا الإنسان
روحه شريرة، فاسدة، مذنبة. فكيف يمكن له أن ينطق شهادةً صادقة؟!
وجهه الباطني لا يتطابق مع وجهه الخارجي، أي أن وجه روحه قبيح، لا يُرى
بالعين المجردة، لكن الملائكة ترى هذا الوجه بوضوح، وتعلم أنه وجهٌ قاسٍ شرير، حتى
لو كان ظاهره يضحك. فهل يمكن لهذا أن يخدع ملائكة الله، أو أن يخدع ربّ العالمين
العليم السميع البصير؟
هذا المنافق، أولًا لا يؤمن بوجود الله، وبالطبع لا يؤمن بالآخرة، لأن من
يؤمن بالآخرة يؤمن بأن روحه ستُقبض وستُحاسب، وأنه لن يستطيع الكذب أو الخداع، فكل
أعماله مُدوّنة، وسيُسأل عنها، وسينكشف وجهه الباطني.
من يؤمن بالملائكة وبالروح، يعلم أن الروح لا ينبغي أن تكون في تناقض مع
الجسد، بل أن يكون الإنسان ظاهرًا وباطنًا متسقًا.
ومن يؤمن بالكتاب، يعلم أن الكتاب يُرشد النفس ويُطهّرها. فمن يؤمن حقًا
بالكتاب، يقرأه ويُردّده، ويستلهم منه الأحكام والأخلاق، ويجعل لسانه ناطقًا بالحق
لأن كلام الله هو الحق. ولهذا، فالكذب من علامات المنافقين، لأنه لم يؤمن إيمانًا
حقيقيًا بالكتاب، ولم يُضيء قلبه بنور الوحي.
ومن يؤمن بالرسول، لا يطلب شيئًا من المخلوقين، بل يطلب أجره من ربه. جميع
الرسل قالوا: لا نطلب منكم أجرًا، أجرنا على الله. أما المنافق، فهو يُظهر الإيمان
طلبًا للمدح أو المصالح. ولهذا لم يظهر النفاق في مكة، بل في المدينة عندما بدأت
دعوة الإسلام تترسّخ، وبدأت تظهر معالمها كنظام في الدولة.
فمن أراد الدنيا، وأراد الغنائم، وأراد المدح، حتى لو لم يؤمن، ادّعى أنه
مؤمن. وأخطر هؤلاء هو عبد الله بن أُبيّ، الذي فقد فرصة الملك في المدينة بعد وصول
النبي ﷺ، فصار يُظهر الإيمان ويُبطن العداء، يُخطط للهدم والإفساد لأن هدفه ملك الدنيا
لا الحق.
أما من يؤمن حقًا بالرسول، فإنه يُظهر الروح النقيّة، والطهارة، ويطلب
الأجر من الله فقط، ويكون في داخله توحيدًا حقيقيًا، لا يُشرك فيه أحدًا مع الله.
• أمّا في جانب الإيمان بالقَدَر، فالله هو المقدّر لكل شيء، ولا يخضع هو
للقَدَر، بل كل الخلق في حدود التقدير. فمن أدرك هذا، آمن أن لله في خلقه شؤون،
وأن الناس لهم مجالات مختلفة، ولكلٍّ دوره ووظيفته، سواء في العلوم أو الأعمال أو
الحياة.
لكن المنافق لا يقبل ذلك، يُجادل الناس، لا يعترف إلا برأيه، يتكلم بفجور
وسبّ، ويتصرف دون ذوق ولا خلق، لأنه يظن أن ما يراه بعينه هو الحقيقة الكاملة، لا
يؤمن بأن للروح عينًا ترى ما لا يُرى، ولا أن للقلوب نورًا يتجاوز الزمان والمكان.
فهو متعجرف، يسبّ الناس، يُهينهم، ويعتبر نفسه وحده هو المحقّ والمكرَّم.
• ولأن المنافق يحمل خصائص "النفاق"، فهو في الحقيقة لا يؤمن بأي
من أركان الإيمان الستة. وقد شبّهه الله بـ"الخشب المسنّدة"، أي أجسامٌ
بلا أرواح، قلوبٌ خاوية، لا يحملون صفات الروح الجميلة.
ولأنهم بلا روح راقية، يركّزون على المادة فقط، ويُهملون النفس، لا يسعون
لتهذيبها ولا لتزكيتها، فلا تظهر فيهم صفات الخير، وحتى لو كان وجهه جميلاً أو
مزيّنًا، فإن روحه في الآخرة ستنكشف، وستُظهر قبحها، ولن يكون لها نصيبٌ إلا في
النار.
• أما النفس الطيّبة، فإنها تُربَّى على الخير، فيظهر على صاحبها صفات
الجمال، حتى لو لم يكن وجهه جميلاً، يُمنحه الله في الآخرة هيئة حسنة. أما من أفسد
نفسه، وأهمل تزكيتها، فحتى لو كان جميلاً في الدنيا، فإن وجهه في الآخرة قبيح،
ويُشاهَد في جهنم.
نفس المنافق هي أظلم نفس؛ لأنها لا تحتمل الخير، ولا الحق، ولا حتى
الصداقة الحقيقية، لا تُقيم للعلاقات وزنًا، وتُظهر وجهًا مزيفًا لتُخفي حقيقتها
الشريرة.
فسبب سقوط المنافقين في النار هو النفس المظلمة التي لم تُربَّ على الخير،
بل امتلأت أنانيةً وكبرًا وحبًّا للذات.
ولهذا، يرشدنا الله في سورة المنافقون، في الآية ِ بقوله تعالى:
"وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى
أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين".
فإذا كانت النفس أنانية، متكبرة، لا تريد فعل الخير، فستقع في النفاق، لأن
الروح فيها ميتة، بلا صفاء ولا طهر، ولا رجاء في الله.
أما من أراد تربية نفسه، فعليه بفعل الخير في ثلاثة مجالات:
1.
العبادات الخالصة لله،
2.
المعاملات مع الناس والمخلوقات،
3.
تهذيب الأخلاق والصفات.
فإذا فعل الخير لوجه الله، وسعى لتزكية نفسه، أصبح من المحسنين، الذين
يعبدون الله كأنهم يرونه، فإن لم يكونوا يرونه، فإن الله يراهم.
وحين يصل الإنسان إلى هذه الدرجة، يُصبح من أهل الروح الطاهرة، يشهد بصدق:
"لا إله إلا الله، محمد رسول الله".
لأنه آمن بالنبي، وسلك طريقه، وبلغ مرتبة الإحسان، وصفاء الروح، فلا مجال
للنفاق فيه.
هذا الإنسان يكون ظاهره كباطنه، نقيًّا طاهرًا، نافعًا لنفسه، ولغيره،
وللمجتمع.
• وفي الختام، نسأل الله أن يهدينا لنكون من الصالحين، وأن يبعد عنا آفات
النفاق.
جزاكم الله خيرًا على المتابعة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تعليقات
إرسال تعليق