(7) سورة البقره - سرّ اقتران الصلاة والزكاة في القرآن الكريم
المقدمة :
فإنّ المتأمل في آيات
الذكر الحكيم يلاحظ تكرار اقتران الصلاة بالزكاة، كقوله تعالى:
﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ
وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾.
وهذا التكرار ليس من
باب التكرار البلاغي فحسب، بل هو إشارة ربانية إلى عمق الارتباط بين هاتين
العبادتين، وما تحمله كلّ واحدةٍ منهما من وظيفة روحية واجتماعية تُسهم في بناء
الإنسان الكامل، جسدًا وروحًا.
الصلاة عبادة تُوجّه
إلى الخالق، تُزكّي النفس وتُطهّر القلب وتُعلي الروح، وهي جوهر العلاقة بين العبد
وربه. أمّا الزكاة، فهي عبادة تُوجَّه إلى الخلق، تُطهّر المال، وتُظهر صدق
الإيمان، وتُعزّز التكافل بين أفراد المجتمع.
ومن حكمة الله أن جعل
هاتين العبادتين ركيزتين من أركان الإسلام، وجمع بينهما في آيات كثيرة، ليعلّمنا
أن الإنسان لا يكتمل إيمانه ما لم يعبد الله ويُحسن إلى عباده، وما لم يجمع بين
تزكية النفس وخدمة الناس، وبين السكون الذي يمنحه الذكر والخشوع، والحركة التي
يتجلّى فيها العطاء والبذل.
في هذا الدرس، نتعرّف على أسرار هذا الاقتران، وما تحمله كل عبادة من دلالة، وكيف يُنتج اجتماعهما ثلاث شهادات توحيدية عظيمة، تُميّز الإنسان عن سائر الخلق، وتُبيّن مكانته الرفيعة في ميزان الله عز وجل .
السلام عليكم، إخوتي وأخواتي ..
الحمدُ للهِ العليِّ العظيم، والصلاةُ والسلامُ
على نبينا محمدٍ ﷺ عددًا لا يُحصى، ونسألُ الله أن يرضى عن جميعِ أصحابِه.
موضوعُ مشاركتنا اليوم:
عند تلاوةِ القرآن نجد أنّ ربَّنا يُقْرِنُ كثيرًا بين «إقامِ الصلاة» و«إيتاءِ
الزكاة» في آيةٍ واحدة، فلنقف على سرِّ هذا الاقتران.
قال بعضُ العلماء:
إنّ الصلاةَ حقٌّ خالصٌ لله، وصورةُ عبادةٍ يتقرّبُ بها العبدُ إلى ربِّه؛ فهي
تشتملُ على توحيدِ الله وتمجيدِه ودعائه والتوكُّل عليه. أمّا الزكاةُ والصدقةُ
فهما إحسانٌ إلى المخلوقات. يتجلّى إذن جانبان واضحان: كيف يتوجّهُ العبدُ إلى
ربِّه في عبادته (وهو الصلاة)، وكيف يُحْسِنُ إلى الخَلْق (وهو الزكاة).
لفهمِ دلالةِ الأمر
﴿أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة﴾، نعلمُ أولًا أنَّ تعبير («أقيموا الصلاة» أو
«الصلاة القائمة») مشتقٌّ من فعلٍ جذرُه يدلّ على القيام والوقوف، ومنه «يوم
القيام» و«يوم القيامة»؛ فتذكّرُنا الصلاةُ بالقيامِ بين يدي الله. وقد أمرنا الله
بهذا القيام لربِّ العالمين.
يُوقِظ ذكرُ القيام
فكرةَ الوقوف للحساب يوم القيامة؛ فقبلَ البعثِ تفنى العوالم، وبين الفناء والبعث
يشهد ربُّنا نفسُه قائلًا: ﴿لِمَنِ المُلكُ اليومَ؟ لِلَّهِ الواحدِ القهّارِ﴾
(غافر : 16).
والحديثُ عن القيام
في الصلاة يقتضي أوّلًا معرفةَ مَن نقومُ له، ولماذا شُرعت هذه العبادة: إنَّها
للهِ الواحدِ القهّار.
ثانيًا، للصلاةِ
قِبلةٌ يتوجَّهُ إليها المصلي؛ فحين يفني الله الخلقَ ولا يبقى سواه، أين نتوجَّهُ
قيامًا وسجودًا؟ قبلةٌ حدّدها لنا سبحانه، من البيت الحرام إلى المسجد الأقصى،
كلُّ ذلك بوحيه على ألسنةِ رُسُلِه، ليدلَّ الناسَ على الاتجاه الذي يقومون
ويسجدون نحوه بأمره.
ثالثًا، يضمُّ
القيامُ في الصلاة تلاوةَ الكتاب، وتسبيحَ الله، وحمدَه، ودعاءَه، والشهادةَ له،
والذكر؛ فيتجرّد المصلي من كلّ المخلوقات ويذكر ربَّه وحده. وأثناء التلاوة نتدبّر
آياتِ الله، ونبينا محمدٌ ﷺ إذا قام للصلاة سبَّح ربَّه واستغفره حيث ينبغي، مما
يدلّ على أنّ الأشياءَ كلَّها تصير آياتٍ تُذكِّر بالخالق، وأنّ الصلاةَ ذكرٌ
خالصٌ لله.
من هذه الجوانب
يتبيّن لنا جوهرُ الصلاة: أمرنا الله بالقيام فيها لندرك أنّ ربَّنا كان قبل خلق
العالم، وسيُفنيه ثم يبعثه، وأنه حين لا يكون شيءٌ يبقى هو وحده. ينبغي لنا
الإيمانُ بذاتِه، وعدمُ الإشراكِ به، وألا نتوجَّه في عبادتِنا إلى أيِّ مخلوق؛ بل
نقوم له وحده، وندرك أنّه سيبعثُ الخلق بعد إفنائهم، فنشهد شهادةً صافيةً بأنّ
العوالم كلَّها ستزول، ولا يبقى إلا هو.
وهكذا تُحَقِّقُ
الصلاةُ التوحيدَ الحقيقي؛ إذ يعلم العبد أنّ ما سِوى الله لا يُعبدُ وأن كلَّ
شيءٍ فانٍ، وأن الله خالقَ كلّ شيءٍ سيبعثه ليشهد بأنّه الحقُّ الواحد، فلا يجوزُ
إشراكُ زمانٍ ولا مكانٍ ولا مخلوقٍ به. لذا، ونحن في الصلاة، نحمده، وندعوه،
ونتوكّل عليه، مُتَحقِّقين بأعظمِ مقصودٍ فيها، وهو توحيدُ الله عز وجل.
الآن نتعرّف على
الزكاة، فالزكاة تشتمل على معنى الصدقة، لكنّها صدقة مفروضة، فهي عبادة واجبة يجب
إتمامها. فإذا بلغ مالُ الشخص النصاب الذي حدّدته الشريعة، وجب عليه دفع الزكاة،
ومن لم يُؤدِّها يتعرّض للعقوبة.
أما الصدقة، فهناك من
يستحقّها مثل الأقارب، والأهل، والعبيد وغيرهم. وفي سورة التوبة بيّن الله تعالى
الأصناف الثمانية المستحقّة للزكاة بشكلٍ واضح.
فالزكاة إذًا فريضة
فرضها الله علينا، لكنّها تُوجَّه إلى الخَلْق، إلى المخلوقين، فهي عبادة موجَّهة
إلى الناس. الزكاة عملٌ صالح مفروض، وليس تطوّعًا يُخيَّر الإنسان فيه؛ بل هو واجب
جعله الله وسيلةً لنيل رحمته وفضله، في الدنيا والآخرة.
ومن يعمل خيرًا في
الدنيا ينال جزاءه، ووراء ذلك الربّ الكريم، الذي نرجو وجهه الكريم، ونرجو أن
نلقاه في الآخرة، هذا اللقاء الحقيقي، وهو الذي أمرنا بالإحسان، لننال أجرًا ورضاه.
فالله تعالى شرع لنا
العمل الصالح، لنحصل به على مرتبةٍ عالية، ولنطلب رؤيته يوم القيامة، وهو سبحانه
أهلٌ لكلّ صفات الجمال والكمال، فنحن نشهد بأنّه المتفرّد بصفات الجلال والجمال،
وأنه الإله الواحد، الكامل، العليم، الحكيم، القادر على كلّ شيء.
وحين نتحدث عن
الزكاة، فإنّها مرتبطة بالرزق؛ فالعلم رزق، والقوة رزق، والعمل رزق، والأخلاق
الحسنة رزق، والصفات النبيلة رزق، كلها من عند الله. فنحن نستخدم هذه الأرزاق في
عمل الخير طلبًا لرضاه، وسعيًا إلى رؤيته في الآخرة.
ومن هنا، فإنّ
الإنسان حين يعمل ويُحسن، يُظهر بذلك شهادةً منه على أنّ الله هو الذي منحه
الصفات، والعقل، والحكمة، والرحمة، ليكون قادرًا على السعي والكسب، ثمّ استخدام
ذلك في الخير.
وبهذا، يصبح أداؤنا
للزكاة، وعملنا الصالح بالمال وغيره، وسيلةً لنيل رضى الله، وطريقًا إلى الشهادة
على وحدانيته، وعلى إيماننا بلقائه في الآخرة، رغم أنّه لا يُشبهه شيء، ولا تُدركه
الأبصار، لكنه وعدنا أن نراه، فعلينا أن نُصدّق ذلك، ونشهد له بالوحدانية والإيمان.
الآن نُجري خلاصةً
لما سبق:
إنّ الصلاة تصدرُ
عنها شهادةٌ عظيمة، وهي توحيدُ الربِّ، أي الإقرار بأنّ كلّ ما في الأكوان من
مخلوقات هو من خلقِ من له الذاتُ الإلهية، وأنه سبحانه هو الحقُّ الموجودُ أزلًا
وأبدًا، وكلّ ما سواه زائلٌ، وأنه كان قبل خلقِ الكون، وسيفنيه، ثمّ يُعيده من
جديد. فنحن نشهد بأنّ كلّ ما في الوجود مصيره الزوال، ولا يبقى إلا الله، الأزلي،
الأبدي، الذي لا بداية له ولا نهاية.
الصلاة مرتبطة
بالزمن، والزمن شاهدٌ على أنَّ المخلوقات محدودةٌ بأوقاتٍ، تبدأ وتنتهي، حتى
البعثُ بعد الموت هو ظاهرةٌ وإشارةٌ إلى زوال الأكوان وبقاء الله. فالصلاة
تُذكِّرنا، من خلال ارتباطها بالزمن، بأنّ الله هو الحيُّ الباقي، وأنّ كلّ ما عداه
فانٍ، وهي شهادةٌ على هذه الحقيقة.
أما الزكاة، فهي
شهادةٌ على البعث، وعلى الإيمان بأننا سنُبعث وسنلقى ربَّنا، وأنّ هذه الدنيا قد
خُلقت، وأظهرت صفات الله من جمالٍ وكمال، وأنّ كلّ ما نراه من المخلوقات هو من
آياته، ومن خلالها نعرف صفاته. ومن آمن بأنّ الله يُثيبُ عباده الصالحين في الآخرة
بلقائه، فقد شهد بتوحيده.
فالصلاة تتضمّن: شهادة توحيد الربوبية (معرفة الله الحق)، والزكاة تتضمّن: شهادة الإيمان بالآخرة والجزاء، وهذا يجمع بين جانبين مختلفين من معرفة
الخالق. أحدهما الإيمان بأن لا شيء سوى الله، والثاني أن الله خلق هذا العالم،
وسيجزي الصالحين برؤيته.
وبذلك، يجتمع من خلال
الصلاة والزكاة ثلاثُ شهادات عظيمة:
1.
شهادة "معرفة الله" وتوحيده من خلال الصلاة .
2.
شهادة "الإيمان بالله وباليوم الآخر" من خلال الزكاة .
3.
شهادة "عبادة الله وحده" من خلال أداء الصلاة والزكاة خالصًا لوجهه، دون رياء أو إشراك .
فاجتماع هاتين
العبادتين في آيةٍ واحدة يُنتج ثلاثَ مراتب من التوحيد: معرفة الله، الإيمان به، وعبادته وحده. وهذه من أسرار اقتران الصلاة بالزكاة في القرآن الكريم.
أمّا لماذا تُقدَّم
الصلاة على الزكاة في الآيات، فلأنّ الصلاة تطهّر النفس، وتُهذّب الروح، وتُقوّي
صلة العبد بربّه، فهي ذكرٌ خالصٌ لله، تهدّئ النفس وتُخضعها، وتسمو بها، وتمنعها
من الفحشاء والمنكر، وتُظهر كمال طاعة العبد لله بتكبيره وامتثال أمره، مما يجعل
النفس ميّالةً إلى الخير، وقريبةً من الصفات الملائكية.
وهكذا، عندما يصبح
الإنسان صالحًا من داخله، يصبح فعلُ الخير في المجتمع (كالزكاة) طبيعيًّا وسلسًا،
فيعطي ماله طوعًا لا كرهًا، في كلّ عام، دون رياءٍ أو منّة.
ومن هنا، فترتيبُ
الصلاة قبل الزكاة له حِكمةٌ عظيمة: لأنّ مَن لم يُربِّ نفسه بالصلاة، فإنّ إنفاقه
في الزكاة قد يكون خاليًا من الإخلاص، ويقع في الرياء أو النفاق، فيُحرم بذلك من
ثواب الله ومن رؤيته يوم القيامة.
فالصلاة تُهذّب
الروح، والزكاة تُهذّب التعامل مع الخلق، ومن جمع بينهما بإخلاص، نال خيرَي الدنيا
والآخرة، ورضا الله، ورجاء لقائه العظيم.
الآن نصل إلى الختام،
وفيه بُعدٌ روحي ومعنوي عميق:
إنّ هذين العملين
(الصلاة والزكاة) إذا اجتمعا، فإنّهما يمنحان الإنسان توجيهًا خاصًا للوصول إلى حالة
من التوازن بين السكون والحركة، بحيث يدخل المرء في طمأنينة وسكينة داخلية، ثم
ينطلق في تعاملاته وعلاقاته الاجتماعية والعملية بنشاط وبركة.
فلو كان الإنسان
دائمًا في حالة سكون فقط، فلن تُشبع طبيعته البشرية. ولو كان في حالة حركة دائمة
من مسؤوليات وعلاقات اجتماعية، فلن تُشبع روحه ولن تسمو، ولن تظهر صفات الكمال
الروحي فيه.
وقد خلق اللهُ
الإنسانَ من جسدٍ وروح؛ فهو كائنٌ ماديٌّ وروحيٌّ في آنٍ واحد. ومن رحمته بنا، شرع
لنا الصلاة لنتذكّره بها، فنسمو بأرواحنا ونُطهّر أنفسنا. وشرع لنا الزكاة لنتطهّر
ماديًّا، ولنُبارك أرزاقنا وننمو بها بالخير.
فالصلاة تُطهّر
الروح، والزكاة تُطهّر المال، والاجتماع بينهما يُكمل الإنسان، فينال رضا الله
ويُظهر البركة في الجسد والروح.
ثم ننتقل إلى نقطة
أخيرة في الفهم:
الملائكة يُصلّون،
لكن لا زكاة عليهم، لأنهم لا يملكون شيئًا ماديًا، ولا يحتاجون لطعام أو مأوى، ولا
يخوضون في كسب المال والعمل كالبشر.
أما الإنسان، فهو
يحتاج إلى الماديات، فبدون طعام أو مأوى ينهار جسده. ولهذا، يسعى في الأرض،
ويُنتج، ويتعب، ويحصل على المال، ثم يُؤمر أن يُزكّيه ويُطهّره. فهذا العمل
المادي، حين يُؤدّى بطاعةٍ، يُصبح بركة، ويُظهر صفةً ربانية وهي البركة في الرزق،
وهو أمر لا يملكه الملائكة.
لهذا، عندما خلق الله
آدم عليه السلام وعلّمه الأسماء كلّها، وبيّن للملائكة أن الإنسان قادرٌ على الجمع
بين الروح والمادة، أمرهم أن يسجدوا له. فكان هذا السجود شهادةً على علم الله،
وحكمته، وكمال خلقه للإنسان، الذي يستطيع أن يُصلّي فيسمو، وأن يُزكّي فيَطهر،
ويجمع بين الشهادة لله بتوحيده، والإيمان به، وعبادته وحده.
هذه الثلاث شهادات (معرفة
الله، الإيمان به، وعبادته) لا يستطيع أحدٌ من الخلق أن يُحقّقها بهذا التكامل سوى
الإنسان، ولهذا كرّمه الله وخصّه بخاتم الرسالات، وأنزل عليه الكتاب الكريم، وأرسل
إليه خاتم النبيين ﷺ رحمةً للعالمين.
نسأل الله أن يجعلنا
من المُقيمين للصلاة، والمؤدّين للزكاة، المُوحّدين له بإخلاص، وأن يتقبل منا
القليل، ويغفر لنا التقصير والزلل.
جزاكم الله خيرًا ، وإن كان في الكلام زلل أو ضعفُ بيان، فأسأل الله أن يغفر لي، وأستسمحكم
أيها الأحبة.
السلام عليكم ورحمة
الله وبركاته.
تعليقات
إرسال تعليق