(4) سورةُ البقرة وسِرُّ تحصينها: لماذا يعجز السَّحَرة عن حفظها؟
المقدّمة
تتميّز سورة البقرة بخصائص
عظيمةٍ دلّت عليها السنّة، ففيها ألفُ أمرٍ وألفُ نهي، ومن شؤونها أنّها درعٌ
حصينٌ يطردُ الشياطينَ ويمنعهم من دخول البيوت، حتى عُدَّتْ «سَنام القرآن» ونالت
بركةً لا يُضاهيها شيء. وقد أخبرَ النبيُّ ﷺ أنّ السحرةَ – وهم بطلةُ القلوب
المفسدون – لا يستطيعون حفظها، إذ يتعاملون مع الجنّ العصاة، بينما تتنزّل
الملائكةُ لسماع تلاوتها، ولا يجتمع نورُ الملائكة مع ظلمة الشياطين في مكانٍ واحد.
يهدف درسُنا إلى
بيانِ حكمة الله في هذا العجز، واستعراض الأحاديث الصحيحة التي تؤكّد فضل السورة،
ثم تحليل العلاقة بين تلاوتها ونزول الملائكة، وما يترتّب على ذلك من هروب
الشياطين وتعطيل السحر وأهله. كما نتوقّف عند قصّة موسى عليه السّلام والسحرة،
وآية سليمان عليه السّلام، وآية الكرسي، لإبراز كيف يُبطل القرآنُ أباطيلَ السحر
ويُعيد المسحورين إلى الصراط المستقيم.
موضوعنا اليوم: عجز السحرة عن حفظ (سورة البقرة )
تدل الأحاديث النبوية
على أن مَن يمارس السحر لا يقدر على حفظ هذه السورة، وقد ورد ذلك في «مسند أحمد»
المرتَّب، و«سنن ابن ماجه»، و«صحيح مسلم». وعند ذكر فضل «سورة البقرة» يُذكر أيضًا
أن الشياطين لا تدخل بيتًا تُتلى فيه هذه السورة.
ورد حديثان يبيّنان
أن الساحر ــ أي المؤذي بسحره ــ يعجز عن حفظها:
- ففي «صحيح مسلم» قال النبي ﷺ اقرؤوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها
البطلة ؛ والبطلة هم
السحرة.
- وفي «مسند أحمد» المرتَّب و«سنن ابن ماجه» رُوي عن والد عبد الله أنه
قال: جلستُ إلى رسول الله ﷺ فسمعته يقول:
«تعلَّموا سورة
البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها السحرة .
لفهم سبب عجز السحرة والمشعوذين عن حفظ «سورة البقرة»،
يكفي الرجوع إلى ما بيّن النبيّ ﷺ من عظيم فضلها؛ إذ إنّ أيَّ شيطانٍ من الجنّ—أي العصاة
منهم—لا يستطيع دخول البيت الذي تُتلى فيه هذه السورة. وفيما يلي بعض الأحاديث الواردة
في ذلك:
في «صحيح مسلم» و«سنن الكبرى» وغيرها أنّ النبيّ ﷺ قال:
لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، فإنّ الشيطان ينفر من البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة
* وفي «سنن الكبرى» ذُكر أنّ الشيطان يفرّ من البيت الذي تُتلى فيه سورة البقرة.
كما رُوي في «سنن الكبرى» و«معجم ابن حبّان» أنّ النبيّ ﷺ قال:
«إن لكل
شيءٍ سَنامًا، وسَنام القرآن سورةُ البقرة؛ مَن قرأها في ليلةٍ في بيته لم يدخلِ الشيطانُ
بيته ثلاثةَ ليالٍ، ومَن قرأها في نهارٍ في بيته لم يدخلِ الشيطانُ بيته ثلاثةَ أيام».
يُفهم من هذه الأحاديث أنّ مَن يقرأ سورة البقرة ــ ليلًا أو نهارًا ــ لا
يقدر الشيطان على دخول بيته. ونحن نعلم أنّ الذين يمارسون السحر إنما يتعاملون مع
الجن، ولا سيّما مع الجنّ العُصاة المُفسدين، لأنّ أعمال السحر كلّها شرّ وإيذاء
وظلم. والجنّ، كالبشر، لهم منازل اجتماعية متفاوتة في القوّة والضعف؛ وغالبًا ما
يتواصل الساحر مع جنّ يتمتّعون بشيءٍ من السلطة والمكانة، فيأتمرون بأمره، وهؤلاء
الجنّ ذو المكانة يُعجبهم خضوع الإنسان لهم وربما سجوده لهم، فيُرسلون من أتباعهم
من صغار الجنّ لخدمة ذلك الساحر.
فعندما يقصد الناس الساحر لإيقاع الأذى بغيرهم، يبعث هؤلاء الجنّ الصغار
ليتلبّسوا أجسادَ الضحايا، بل قد يدخلون فيهم فيُمرِضونهم، ويوسوسون في صدورهم
لإحداث الفرقة بين الزوج وزوجه، أو بين الأب وولده، بل قد يعتدون على أعصاب
الإنسان مباشرة فيُصيّبونه باضطراب عصبي يمنعه من التفكير السليم.
نتعلّم من النصوص أنّ أصلَ أولئك الجنّ، حين صار إبليسُ واحدًا منهم، كان
متكبرًا جريئًا طلب من ربّه الإمهال ليَستأصل ذرّيّة آدم عليه السلام؛ أي ليجعل
البشر أذلّاء كما أبى هو السجود لهم، فيُرغمهم على الدناءة ويصرفهم عن كلِّ صلاح،
حتى يكونوا على شاكلته. لذلك هو وذريّتُه يسعون دومًا ليُجبروا الناس على السجود
لهم. وهكذا ترى كثيرًا من السحرة يَخرّون سُجّدًا لذلك الجنيّ ذي المنزلة — زعيمٍ
من جند إبليس — فيخضعون له، فيُرسل بدوره جنودَه الأبالسة ليطيعوا الساحر طاعةً
عمياء: يتلبّسون أجساد البشر فيُمرِضونهم، أو يدخلون فيهم فيُثيرون الحقدَ
والغيرة، ويفسدون العلاقات الزوجيّة والأُسَريّة، بل يُعطّلون العقول، ويغرسون حبّ
الدنيا من سلطةٍ وشهرةٍ ومجدٍ، فيتبع الناس أهواءهم ويعينون الباطل ولا ينصرون
الحقّ.
وهؤلاء الجنّ الذين يقبلون سجود البشر لهم يتّصفون بخصال إبليس، ويُدعون
«زُعَماء» يجتذبون كثيرين ليسجدوا لهم ويطيعوهم، والسحرة أبرز الأمثلة. وفي بعض
البلدان العربيّة يوجد رُقاة بالقرآن؛ فإذا ابتُلي امرؤٌ بسحرٍ لجأ إلى رجل صالح
عالمٍ بالكتاب، فيقرأ عليه القرآن فيطرد الشياطين. ويعلم الرقاة أنَّ الجنَّ
المتلبّس يصرّح باسم زعيمه الذي أرسله، ولا يجرؤ على الخروج إلا بأمر.
فيعمد الراقي إلى إسلام ذلك الجنيّ — سواء كان خارج الجسد أو بداخله —
بتلاوة القرآن عليه حتى يسمع ويتأثر، لأن الجنَّ خُلِقوا من روح، وهم سريعو الصعود
إلى السماء لاستراق السمع من الملائكة، فيعلمون بوجود الروح، لكن الإيمان بالآخرة
عندهم عائقٌ يشبه إيمان الإنس بالروح. يعرفون عالم الملائكة، غير أنّ اتباع
شهواتهم يضلّهم فيتبعون الباطل ويُطيعون إبليس المطرود، الذي عقد العزم على إفناء
ذرّيّة آدم، فكوّنَ جيوشًا من الجنّ الجهلة يقودهم ضد البشر، ولو كانوا مُوقنين
بوجود الملائكة؛ فهم يسترقون السمع ويُفسدون ولا يسلكون سواء السبيل. أمّا
الملائكة فهم عباد الله المكرمون لا يأمرون إلا بالحقّ.
فإذا قُرئ القرآن — ولا سيما سورة البقرة — على المسحور، أسلم الجنّيّ واستقام وترك الأذى، بيد أنّه يظلّ خائفًا من زعيمه. هنا ينصحه الراقي بالذهاب إلى مكّة أو المدينة، لأنّهما محروستان بالملائكة؛ فلا يدخل حرمهما جنٌّ أو إنسٌ مُفسدٌ غير مُسلم، إذ تحرس الملائكة المسجد الحرام، فلا يدخلها جنٌّ شرير، وإنما يدخلها مَن أسلم منهم.
هؤلاء السَّحَرةُ إنما يمارسون استحضارَ الأرواح؛ فيتواطؤون مع بعضِ
الجنِّ ذوي المكانة، ثم يوجِّهون الجنَّ الأقلَّ منزلةً ليهبطوا إلى مرتبةِ
الشياطين ويقترفوا أعمال السحر. فهؤلاء الناس يصاحبون الشيطانَ ويُوالون إبليسَ
المَطْرود، فكيف لهم أن يقبلوا القرآن؟ إنّ اللهَ سبحانه قد طرد الشيطان، ولذلك
نستعيذ عند تلاوة الكتاب الكريم من شرِّه. وهؤلاء السحرة يسجدون للشيطان المطرود
ويخضعون له، ثم يستغلّون مِن بين الجنِّ مَن هو جاهل ليوقعوا به في المعصية. والله
العليّ العظيم لا يُنزِل كتابَه على إبليسَ المطرود ولا على الشياطين، ولا يجعل
لهم نصيبًا من الخير، فهم مقضيٌّ عليهم بدخول النار أبدًا. أمّا بعضُ بني آدم،
فإنهم بسبب أهوائهم أو جهلهم يُصبحون سَحَرةً يسجدون لذلك الشيطان المحكوم عليه
بالنار؛ في تلك الحال يكونون غير مهتدين، ولا يستطيعون الدنوَّ من القرآن فضلاً عن
حفظه.
وفي سورة البقرة ذُكرتْ قِصَّةُ موسىٰ عليه السلام، وأُوجِزُها هنا: تآمر
إخوةٌ على قتل عمِّهم، ثم اتّهموا رجلًا صالحًا بقتله. وكان للعمِّ مالٌ كثير،
وهؤلاء الإخوةُ هم ورثته. فلمّا وقع القتل أراد اللهُ تعالى أن يُظهِر حكمَ
الشريعة في مثل هذه النازلة؛ فأُمِر موسىٰ عليه السلام أن يأمر بني إسرائيل بذبح
بقرة، ثم يمسّوا القتيلَ ببعضها فيحيا ويُسمي قاتله. وفي ذلك تشريعٌ بإسقاط حقِّ
القاتل من الميراث. ولمّا ألقى موسىٰ عليه السلام عصاه آمن جميعُ السحرة، بل صاروا
شهداء مقرَّبين؛ إذ فضّلوا تقوى الله على الخوف من فرعون الذي أمرهم بمواجهة موسىٰ
بالسحر. نعلم أن موسىٰ عليه السلام كان يحمل الحقَّ الهادي للضالين، بينما السحر
قائمٌ على تسخير الجن، وأهله منحرفون. والنَّاس، لجهلهم، يتبعون أهواءهم فيعبدون
الجنَّ وإبليس؛ لكن متى جاءهم الحقُّ وقبلوه رجعوا إلى الصراط المستقيم. أمّا
إبليسُ الذي يرضى بسجود الناس له فهو من أهل النار أبدًا؛ فإذا مارَسَ الإنسانُ
السحر ووالاهُ صار مطرودًا، لا يقرب القرآن. فالساحرُ الذي يُخالط الجنَّ ليلَ
نهارَ، إذا سُمِعَتْ سورةُ البقرة ولّى عنه الجنُّ الذين يُعينونه، فيبقى وحيدًا
عاجزًا عن مواصلة سِحره؛ وإذ يحيط به الجنُّ ويجرّونه إلى الإثم، فإنّه يعجز عن
حفظ القرآن، وهذا واضحٌ بيِّن.
لكن ينبغي أن نفهم لماذا تستطيع سورة البقرة طردَ الشياطين ومنعهم من دخول
البيوت، فهذه النقطة يجب توضيحها. كان موسى عليه السلام صاحبَ الألواح، وهي –على
وجه الدقة– شريعةُ الله عزَّ وجلَّ في الحلال والحرام؛ ولا يلتزم أيُّ شيطان مفسد
بأحكام شريعة الله تعالى. فأولُ شيطانٍ –إبليس– زعم أنه سيكون نصيرًا لآدمَ عليه
السلام ثم أغواه ليدنو من الشجرة المحرَّمة ويأكل من ثمرها؛ وهذه من أعمال
الشيطان. فإذا ذُكرت سورةُ البقرة وتُليَتْ، استُحضرَت معها قصة موسى عليه السلام
وألواحه التي طبَّق أحكامها بصرامة. وقد قال العلماء إن سورة البقرة اشتملت على
ألف أمرٍ وألف نهي؛ فإذا تلا المسلم هذه السورة وتعلَّم ما فيها من الأوامر
والنواهي، عصمه الله من وسوسة الشيطان ورفقته.
ومن جانب آخر، فإن سورة البقرة تحمل أوامرَ الله عزَّ وجلَّ ونواهيه؛
فالجنيُّ العاصي إذا سمعها فرَّ هاربًا لأنها تُخالف هواه، ولا يريد دخول البيت
الذي تُتلى فيه؛ إذ يضيق صدره بسماعها. وفي صحيح البخاري حديثٌ يدلّ على أن تلاوة
سورة البقرة تجتذب الملائكة: روى أبو سعيد الخدري أنه كان يقرأ سورة البقرة ليلًا،
فجعل فرسٌ له مربوطٌ قريبًا منه يجمح، فسكت فسكن الفرس، ثم قرأ فجمح، فسكت فسكن،
وكان ابنه يحيى قريبًا منه، فخشي أن تُصيبه الفرس، فلما أبعده ورفع رأسه إلى
السماء رأى مثل سحابة فيها مصابيح تلمع. فلما أصبح حدّث النبيَّ ﷺ، فقال: «اقرأ يا
ابن الخدري»؛ فقال: يا رسول الله، خشيت على يحيى، فرفعت رأسي فرأيت مثل سحابة فيها
أنوار حتى خرجت منها. فقال النبي ﷺ: «أتدري ما ذاك؟» قال: لا. قال: تلك الملائكة نزلت لصوتك، ولو قرأتَ لأصبحت
يراها الناس .
من هذا الحديث نفهمُ أن الملائكة تحرص على الاستماع لتلاوة «سورة البقرة»،
فإذا حضرتِ الملائكةُ انصرف الشياطينُ لا محالة، إذ لا يجتمع الخير والشر في طريق
واحد، بل إن الشياطين يُطردون بقوة الملائكة إن أبَوا الانصراف. وبما أنّ الإيمان
الحق يشمل الإيمانَ بالملائكة – وهم المنفّذون لأوامر الله تعالى على وجهٍ لا
يعصونه فيه أبداً – فإن مَن يَؤُوب إلى صحبة الملائكة لا تجد الشياطينُ سبيلاً إلى
بيته.
وتشير «سورة البقرة» إلى الافتراءات التي تردّدها الشياطين حول مُلك
سليمان عليه السلام، حيث بيّن اللهُ تعالى أن سليمان لم يكفر، وإنما الشياطين هم
الذين كفروا؛ إذ علّموا الناسَ السحرَ والتفريقَ بين الزوج وزوجه وإيذاء الخلق.
ولذلك يَتلو الرقاةُ – وهم العارفون بالكتاب – هذه الآية على المسحور لطرد
الشيطان، لأن الله قصّ فيها قصةَ سليمان الذي سَخّر اللهُ له الجنَّ بأمره، فكان
يقهرهم على فعل الخير ويمنعهم من الشرّ، بل يحبس المتمرّدين منهم في الأغلال. فأين
جندُ إبليس – زعيم الجن العصاة – من جند سليمان الذي أيّده الله بالملك والسلطان؟!
جند سليمان يعملون بالبرّ، حتى إنهم جاءوا بعرش بلقيس ملكة سبأ فأسلمت لربّ
العالمين، بينما جند إبليس يتبعون الباطل ويجرّون السحرة إلى المعاصي. من ثَمَّ،
حين تُتلى آية سليمان (الآية 102 من البقرة) يرتعد إبليس وجنوده ويولّون هرباً.
وتضمّ «سورة البقرة» كذلك «آية الكرسي» العظيمة، وقد ثبت في أحاديث كثيرة
أن تلاوتها تطرد الجنَّ الكاذبين. وفي «صحيح البخاري» أن الله خصّ نبيَّنا ﷺ
بنورَين لم يُعطهما نبيّاً قبله: فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة. فهذا نورٌ
ربّاني لا يُقاس بشمسٍ أو قمر؛ إنه نورُ القرآن الذي يهدي العالَمين ويرحمُنا،
ليحملنا على العمل الصالح والفوز بخيري الدنيا والآخرة. أمّا الشيطان فيريد جرَّنا
إلى الشر، فإذا تلونا كلام الله نِلنا الخير وانهزم الشرُّ وولّى الشيطان فراراً.
نسألُ ربَّنا أن يحفظنا من أذى السحر والشياطين، ونحثّ بعضَنا على الإكثار
من تلاوة «سورة البقرة» وختم القرآن الكريم. هذا ما تيسّر عرضه اليوم، فإن كان فيه
خطأ أو غموض فأسأل الله العفوَ والمغفرة، وأرجو من الإخوة العذر. وجزاكم الله
خيراً على حسن المتابعة.
تعليقات
إرسال تعليق