دروس سورة الفاتحه (1) الاستعاذة بالله – درع المؤمن ضد الوسوسة والانحراف
مقدمه :
الحمد لله رب
العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
في هذا الدرس الإيماني
نبحر في موضوع بالغ الأهمية لكل مسلم ومسلمة الا وهو الاستعاذة بالله من
الشيطان الرجيم، ولماذا أمرنا الله بها قبل تلاوة القرآن الكريم تحديدًا.
ففي ست آيات من كتاب
الله ورد الأمر بالاستعاذة، مما يدل على خطورة تأثير الشيطان على عقل الإنسان
وقلبه، خاصة حين يكون مقبلًا على مصدر الهداية والنور — القرآن الكريم.
يتناول الدرس بالشرح
الآيات التي أمر الله فيها بالاستعاذة، ويوضح كيف أن الشيطان يُفسد الفهم
والتدبّر، بل ويُلبّس الباطل بالحق، ويغوي الناس كما أغوى أبوينا آدم وحواء عليهما
السلام.
كما يُظهر الدرس أن
الشيطان لا يكلّ ولا يملّ من محاولاته لصرف المؤمن عن الطاعات، ولو كان من حفاظ
القرآن أو المداومين على تلاوته، ويُفسد عليه إخلاصه وثباته، بل ويسخّر أحيانًا من
حوله لإشغاله عن طريق الله.
وفي ختام الدرس، نؤكد
أن الاستعاذة بالله ليست فقط ترديدًا لفظيًا، بل هي تحصين حقيقي للروح والعقل
والقلب، وهي سلاح نبوي سنّه لنا رسول الله ﷺ، كما ورد في كتب السنن الأربعة.
فالشيطان عدو خفي، لا يُواجه إلا بسلاح قوي: الإيمان، والذكر، والاستعاذة الصادقة بالله .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إخوتي وأخواتي ، تحية طيبة .. نحمد الله العلي
العظيم، ونسأل له الصلاة والسلام على نبينا الخاتم محمد ﷺ عددًا لا يُحصى، ونسأل
الله أن يرضى عن جميع الصحابة الكرام.
اليوم حديثنا عن أهمية الاستعاذة قبل
تلاوة القرآن الكريم.
في القرآن الكريم، وردت ست آيات تذكر أهمية
الاستعاذة، ونحن جميعًا نعلم أن الله العلي العظيم أمرنا أن نلجأ إليه ونتعوذ به
من أذى الشيطان الرجيم المطرود، وهذا هو المعنى المقصود في اللغة الصينية.
ولأن القرآن يُتلى باللغة العربية، فإن كل من
يتعلم تلاوته يقرأ:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
ومعناه: أستعيذ بالله العلي العظيم من الشيطان
الرجيم المطرود، ليحمينا من شره.
قبل أن نقوم بتحليل أهمية الاستعاذة قبل تلاوة
القرآن الكريم بشكل مفصل، أود أولًا أن أقرأ الآيات الست التي ورد فيها في القرآن
الكريم وجوب الاستعاذة بالله العلي العظيم من شر الشيطان الرجيم المطرود.
في الآية 36 من سورة آل عمران نقرأ:
{فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي
وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ
كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ
وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران:36]
“فلما وضعتها قالت: رب إني وضعتها أنثى، والله
أعلم بما وضعت، وليس الذكر كالأنثى، وإني سميتها مريم، وإني أعيذها بك وذريتها من
الشيطان الرجيم.”
تُظهر هذه الآية أن علينا أن ندعو الله ونستعيذ
به لأجل ذريتنا، ونسأله أن يحفظهم من شر الشيطان الرجيم المطرود.
وفي الآية 200 من سورة الأعراف، نجد هذا المعنى
أيضًا، ولكن لنقرأ الآيات السابقة معها:
{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ
وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين} [الأعراف:199]
“خذ العفو، وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين.”
{وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ
نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيم} [الأعراف:200]
نحن نعلم جميعًا أن الشيطان يُغري الإنسان
بالغضب، ويدفعه إلى عدم التسامح مع الآخرين، وعدم الرغبة في النصح، كما أنه قد
يشارك السفهاء في السخرية من الإنسان. لذا، في مواجهة هذه الحالات، يجب علينا أن
نستعيذ بالله، ونسأله أن يحمينا من شر الشيطان.
في الآيتين 97 و98 من سورة المؤمنون نتعلم ما يلي:
{وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ
الشَّيَاطِين} [المؤمنون:97]
الآية توضح أن علينا أن نلجأ إلى الله ونتعوذ به
من وساوس الشياطين التي تُغري الإنسان بفعل الفواحش والمنكرات، كما أنها تدفعنا
لفعل كل ما لا يُرضي الله. ولذلك علَّمنا نبينا محمد ﷺ هذا الدعاء، حيث كان يقول:
"أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان
الرجيم، من همزه ونفثه ونفخه"، وهو
دعاء يطلب الحماية من أذى الشيطان، ووسوسته، وتأثيره في النفس والعقل.
وفي الآية التي تليها:
{وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُون}
[المؤمنون:98]
أي: أستعيذ بك يا رب أن يكونوا حاضرِين في شؤوني
وأموري. أي أن نطلب من الله أن يحمينا من حضور الشياطين وتدخلهم في حياتنا، في
الطعام، والمعاشرة، والذبح، وغير ذلك.
وقد ثبت في سنن أبي داود أن النبي ﷺ كان يدعو ربه
أن يعيذه من حضور الشيطان عند موته، لأن من أخطر اللحظات التي قد يتعرض فيها
الإنسان لوسوسة الشيطان هي لحظة الاحتضار، وإذا غُرَّ الإنسان في هذه اللحظة ولم
ينطق بالشهادتين، فقد تكون تلك مصيبة عظيمة.
حتى نبينا الكريم ﷺ كان يستعيذ من ذلك، فعلينا
نحن أن نكون أحرص، وألا نغفل عن هذه الاستعاذة.
وفي الآية 36 من سورة فصلت، نجد تأكيدًا آخر
{وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ
نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم} [فصلت:36]
أي: إذا شعرت بأي وسوسة أو تحريض من الشيطان،
فبادر بالاستعاذة بالله فورًا، لأن الله هو السميع العليم، يسمع دعاءك ويعلم ما في نحن
جميعًا نعلم أننا قد نواجه أعداء من البشر بوضوح، فعندما نواجه من يؤذينا من
الناس، نعرف أن هناك عداءً ظاهرًا. أما الشيطان من الجن، فهو عدو خفي لا نراه،
بينما هو يرانا. فماذا نفعل؟ لا نملك إلا أن نلجأ إلى الله السميع العليم، ونسأله
الحماية .
فالشيطان من الجن هو عدو مبين للإنسان، لا يهدأ
له بال حتى يُضلّه، ويمنعه عن فعل الخير، ويدفعه للضرر والهلاك. لذلك علّمنا نبينا
محمد ﷺ أن نستعيذ بالله من شره، وكان ﷺ كلما قام إلى الصلاة، يقول:
"أعوذ
بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه ونفثه ونفخه."
وهذا يدلّ على أن لا أحد يستطيع حمايتنا من
الشيطان إلا الله سبحانه وتعالى. فمع الاستعاذة
الصادقة، يصبح الشيطان ضعيفًا لا يستطيع أن يؤذينا.
ثم نأتي إلى الآية التي تُعدّ الأصل في أمر
الاستعاذة عند قراءة القرآن، وهي من سورة النحل، الآية 98:
{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ
بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم} [النحل:98]
معناها: عندما تبدأ بتلاوة القرآن، اطلب من الله
أن يحميك من وسوسة الشيطان، لأنه قد يُفسد عليك فهمك أو تدبرك، أو يُشغلك أثناء
التلاوة.
وقد بيّن العلماء في تفسير هذه الآية أن
الاستعاذة قبل قراءة القرآن تحمينا من الخطأ، والتشويش، والتلاوة بدون تفكر أو
خشوع. وهي باب من أبواب الأدب مع كتاب الله.
ومن أجل أن نفهم هذه المسألة بشكل أعمق، لا بد أن
نتأمل كيف ورد ذكر الشيطان في القرآن الكريم ست مرات في سياق الدعاء بالاستعاذة بالله
منه. وهذا التكرار ليس صدفة.
فالقرآن الكريم يوجّهنا إلى طريق الهداية،
والإيمان الصحيح، والعبادة الكاملة لله وحده دون شريك، ويعلمنا كيف نصل إلى القبول
من الله.
أما الشيطان، فإن خطره الحقيقي لا يقتصر على
الدنيا فقط، بل يمتد ليُهدد سعادتنا الأبدية في الآخرة. فلو أفسد
على الإنسان عقيدته، وضيّع عليه أركان الإيمان الستة، أو فَسَد توحيده، فإنه بذلك
يحرم نفسه من الجنة والنجاة، حتى وإن أتى ببعض أعمال الجوارح كالعبادات.
لذا، فإن أخطر ما يفعله الشيطان هو إفساد الإيمان
والدين، لا فقط إفساد سلوكيات أو أفعال. ومن هنا نفهم عُمق أهمية الاستعاذة، خاصة
قبل تلاوة كلام الله تعالى , كلمة الشيطان ذُكرت في القرآن الكريم 88
مرة، وهذا العدد ليس عشوائيًا. كل من تأمل في
أسرار الأعداد في القرآن يعلم أن الملائكة أيضًا ورد ذكرهم 88 مرة، وهذا
التساوي في العدد ليس من باب المصادفة، بل هو من تقدير الله الحكيم، الذي يُظهر
لنا التوازن بين الخير والشر، الحق والباطل، الهداية والضلال.
لفهم خطر الشيطان وتأثيره على الإنسان، لا بد من
إدراك المغزى من الرقم 88، لأنه يعكس تداخُل عوالم متعددة خلقها الله، والتي
للإنسان معها علاقات متبادلة تقوم على الابتلاء والجزاء.
العالم الذي يعيشه الإنسان ليس معزولًا:
الإنسان مخلوق مكرّم، لكن وجوده لا يقتصر على
المادة فقط، بل يتعامل مع:
- العالم المادي
(مثل: الهواء، النار، الماء، التراب، المغناطيسية، الكهرباء...) وهي من عالم
الجمادات.
- عالم النبات.
- عالم الحيوان.
كل هذه العوالم لها أثر وتفاعل مع الإنسان، وبما
أن الله جعل الإنسان خليفة في الأرض، فإن علاقته بها قائمة على الابتلاء والمحاسبة.
العلاقة مع العوالم الغيبية:
من ضمن هذه العوالم، هناك عالم الجن، والملائكة،
والملأ الأعلى، وهذه العوالم لها أيضًا علاقة مع الإنسان من حيث التفاعل الروحي
والقَدَري:
- عندما خلق الله
آدم، أمر الملائكة والجن بالسجود له، فدلّ ذلك على علو مقام الإنسان.
- لكن بقاء هذا
المقام مرتبطٌ بعلاقة الإنسان مع خالقه، هل يعبده أم لا؟ وهل يخلص له في
الإيمان والطاعة؟
الإنسان وربه: علاقة تكليف وجزاء
- الله خلق القلم
واللوح، وكتب فيهما المقادير. لكن الإنسان يملك أن يُغيّر قدره بالدعاء
والعمل الصالح، وهذا لا يحدث إلا إذا كان الإنسان عابدًا لله.
- في يوم القيامة،
يُحاسب الإنسان وتُوزن أعماله، ولا يثقل ميزانه إلا بالإيمان والعمل الصالح.
- من أراد أن ينجو
من الصراط، وأن يدخل الجنة، فعليه أن يعبد الله.
- من أراد أن يكون
ممن يُظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فعليه أن يكون من أصناف المؤمنين
السبعة الذين ذكرهم النبي ﷺ.
والنتيجة:
الإنسان لا يحصل على هذه النعم الغيبية، من الجنة
والعرش والكرسي والميزان واللوح والقلم إلا بـ العبودية لله، وترك طريق الشيطان.
لذلك، ذِكر الشيطان 88 مرة، مقابل ذكر الملائكة 88 مرة، يُظهر لنا أن الإنسان في
معركة بين قوتين، وأن طوق النجاة الوحيد هو عبادة الله والتوكل عليه، وأن الجزاء
الأخروي مربوط ارتباطًا وثيقًا بعلاقة الإنسان بربه.
فمن عبد الله، استحق الخير من جميع العوالم —
المادية والغيبية — ومن أعرض، خسر الدنيا والآخرة.
الآن سنتعرّف بشكلٍ محدد على
كيف يُوسوس الشيطان للإنسان في هذه الجوانب الثمانية، وكيف يُظهر الإنسان عدم عمله
الصالح من خلالها وعلى العكس، إذا استعاذ العبد بالله وتلقى حماية ربه، فإنه
سينتصر على الشيطان، وتظهر في نفسه ثمانية مظاهر من الخير.
إن ربنا العظيم، خالق العوالم، ومالك يوم الدين،
هو الذي أنزل علينا الكتاب، ليكون لنا هداية إلى الصراط المستقيم. إنه صراط الذين
أنعم الله عليهم من النبيين، والصدّيقين، والشهداء، والصالحين، وليس صراط المغضوب
عليهم ولا الضالين.
هذا الكتاب أنزله الله لهدايتنا، ولذلك، عند
تلاوته، ينبغي أولًا أن نستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، لأن وجود وسوسة الشيطان
أثناء قراءة القرآن يحجب القلب عن تدبّر الحقائق التي في الكتاب.
وحتى لو قرأ الإنسان القرآن قراءة ظاهرية، فإنه
لن يتمكّن من تنفيذ أحكامه، لأن هدفنا من تلاوة الكتاب هو أن نتلقّى من خلاله
هداية تطمئن بها قلوبنا بذكر الله، ونتزكى به، ونستقيم على أوامر الله.
أما إذا بدأ الإنسان قراءة القرآن بدون استعاذة،
وسمح للشيطان أن يتقدّمه، ويوسوس له، ويدفعه لفهم القرآن بفهم منحرف بعيد عن
الحقيقة، فإن النتيجة ستكون العكس تمامًا:
لن يحصل على الهداية، بل ستنشأ في نفسه انحرافات
فكرية، وسوء تأويل، وبالتالي سينعكس ذلك في سلوكه فلا يظهر فيه الخير ولا الالتزام.
ولكي نفهم طبيعة تفكير الشيطان بشكل أعمق، ينبغي
أن نرجع إلى أول حادثة وسوسة وقعت للإنسان، وهي وسوسته لأبوينا آدم وزوجته، عليهما
السلام.
لقد قال لهما الشيطان:
"اقتربا من تلك الشجرة، فإن أكلتما منها ستصيران
من الملائكة، أو تعيشان إلى الأبد."
وزاد على ذلك: "وإني لكما
لمن الناصحين."
وكأنه يُظهر النصيحة، بينما هو في الحقيقة عدو
مبين.
هذه الحادثة ذُكرت في سورتي الأعراف وطه، وهي
توضح أن آدم وزوجته كانا في الجنة، وقد أمرهما الله ألا يقتربا من تلك الشجرة، أي
أن هناك نهيًا صريحًا.
آدم عليه السلام كان يَرى الملائكة تسجد له، وكان
يعلم أن الجان مأمورون بذلك أيضًا. وكان الشيطان هذا من عالم الجن الروحي، يستطيع
أن يؤثر على الإنسان حتى في حالته بين النوم واليقظة، كما ثبت في الأحاديث النبوية
أن الشيطان يؤذي الإنسان بالكوابيس والرؤى السيئة.
فعندما وسوس الشيطان لآدم عليه السلام أن يأكل من
الشجرة، فقد كانت رؤيا الشجرة بالنسبة لآدم عليه السلام بمثابة اختبار. إذ لم يكن
قد نزل بعد إلى الأرض، وكان ما يزال في الجنة.
وكان أمر الله له بعدم الاقتراب من الشجرة
ابتلاءً واختبارًا لطاعته وامتثاله، لأن الله أراد أن يرى هل سيتّبع أمر ربه أم لا.
فالعبادة لا تكون عبادة حقيقية إلا حين يكون فيها
التزام وطاعة وخضوع.
أما الشيطان، فقد استغل حالته الروحية وقال له:
"هذه شجرة الخلد، وهذه مملكة لا تبلى."
لكن آدم عليه السلام، كإنسان مخلوق من طين، لم
يكن يدرك أن رؤيته للشجرة تتطلب تأويلاً روحانيًا (تأويل الأحلام والرؤى).
أي أنها قد تكون رمزًا لحالة من الذكر والسمو
والقرب من الله، وليست شجرة مادية تؤكل.
وهكذا نجد أن الشيطان، بطبيعة وسوسته، يُلبّس
الباطل بالحق، ويزيّن للإنسان ما يُخالف أمر الله، مستخدمًا الكلمات التي تُشبه
النصيحة بينما تُخفي السم.
إن الله سبحانه وتعالى قد أعطى لآدم هذا النهي عن
الاقتراب من الشجرة، ليكون هذا النهي بمثابة تذكير دائم له بأن عليه إذا ما راودته
الرغبة في الاقتراب منها، أن يتذكّر ربه. فذكر الله في قلبه كان من شأنه أن يجعله،
بعد الموت، يُبعث من جديد، وينال في الجنة شجرة الخلد.
لكن تفكير الشيطان كان يُغريه بأن يخرق هذا
النهي، ويُقنعه بأنه لا حاجة لذكر الله، وأنه يستطيع الحصول على الشجرة مباشرة،
وهذا هو تفكير الشيطان المنحرف.
كما أن إبليس — حين كان من الجن — رفض السجود
لآدم، وقال: "أنا خير منه، خلقتني من نار وخلقته من طين."
فقد اعتمد في حكمه على ظاهر المادة، فالنار تبدو
أرقى من الطين، لأنها نادرة وسريعة، أما الطين فهو مألوف موجود في كل مكان.
لكنه نسي أن أكرم الخلق عند الله هو من يتقيه،
وليس من يُقاس شرفه بمادته أو شكله.
هاتان الطريقتان في التفكير هما نموذجان للانحراف
الشيطاني:
1.
طريقة من
يُفسّر كل شيء رمزيًا فقط ويُفرّغ النص من معناه الظاهر.
2.
وطريقة من
يعتمد فقط على المعنى الظاهري والمادي دون إدراك الباطن والمقصد.
أما هداية الله وكتابه العزيز، ففيه الآيات
المحكمة (الواضحة) والمتشابهة (الرمزية أو الغيبية .
ولكي نفهم القرآن كما أراده الله، علينا أن نقرأه
ونفسّره اعتمادًا على:
- الظاهر والباطن
معًا.
- الكلمة والنور
الذي فيها.
- المعنى الظاهري
والمعنى الرمزي.
وكل هذا يجب أن يكون على أساس التوحيد:
- الإيمان بأن
الله هو الواحد الأحد.
- أن وجوده فريد
لا يشبهه شيء.
- أن ذاته وصفاته
وأسمائه الحسنى فريدة لا شبيه لها.
- أنه مصدر الخير
الأوحد، وهو الموصوف بجميع صفات الكمال.
فالقرآن الكريم يتضمن آيات واضحة وأخرى فيها
إشارات غيبية أو رمزية، ولذلك، لا يجوز أن نفصل بين الجانبين.
من يتّبع تفكير الشيطان، يقع في الانحراف:
- إما أن يتمسك
بالظاهر فقط ويهمل الرموز والمقاصد.
- أو يُفرغ النص
من ظاهره ويتمسك بالرمز فقط.
وفي الحالتين، يفقد المعنى الصحيح، ويضلّ عن الهداية.
ولهذا، فإننا عند تلاوة القرآن، يجب أن نلجأ إلى
الله، ونستعيذ به من الشيطان، حتى لا نقع ضحية لهذا التفكير المنحرف، أو نقرأ
القرآن بعقلية منحرفة أو نفسٍ مريضة.
حتى لو بقيت في القرآن أسرار كثيرة لم تُفتح لنا
بعد، وحتى لو كانت معارفنا قاصرة، فإن الله سيمنحنا نوره إن كنّا نقرأه بـ قلب
طاهر وروح نقية.
وكلما قرأنا وتعلّمنا القرآن بتلك النية الخالصة،
سنجني من ورائه الخير، وسنثبت على طريق الاستقامة، ونرتقي في مراتب الهداية بإذن
الله.
ينبغي علينا أيضًا أن ندرك أمرًا مهمًا: أن
الشيطان لا يريد للإنسان أن يثابر على عملٍ صالح.
فـالاستمرارية والثبات في العمل الصالح هي من
صفات الملائكة، لذلك يعمل الشيطان على جعل الإنسان متذبذبًا، يبدأ عملاً ولا
يُتمّه، يشرع في خيرٍ ثم يتركه، فيكون فعله كـ"رأس تنين وذيل أفعى" —
بداية قوية ونهاية منقطعة.
والقرآن الكريم هو كتاب الهداية الذي أنزله الله
تعالى ليكون لنا مرجعًا أساسيًا في كل مرحلة من مراحل الحياة، خصوصًا حين نتحمّل
مسؤوليات وتكاليف شرعية، إذ لا بد أن نجد في القرآن ضوءًا يُرشدنا، ويجب أن يُفهم
القرآن دائمًا بالاقتران مع سنة النبي محمد ﷺ، لأن السنة هي الطريق، والقرآن هو
الأصل والأصل الأصيل.
ولأن الشيطان يعرف هذا، فإنه لا يفتأ يُوسوس
ويُشغل الإنسان عن القرآن، ويُشجّعه على ترك الأصل، لأن من ترك الأصل، اعتمد على
عقله وحده في فعل الخير — لكن هذا الخير هل سيبقى خيرًا أبديًا؟
الشيطان لا ييأس، حتى ممن يظن نفسه على خير، فهو يُحاول
مع الجميع.
قد يكون الإنسان من الذين يواظبون يوميًا على
تلاوة القرآن، وربما جعل له وردًا من التفسير والتدبر، أو من الذين حفظوا كتاب
الله وراجعوه بإتقان، لكن الشيطان لا يتوقّف، بل يُغريه، ويُرسل له من حوله من
يُلهيه ويُعيقه، وربما يُثير المشاكل من أقرب الناس إليه، كي يصرفه عن هذا العمل
المبارك.
لذلك، يجب علينا أن نلجأ إلى الله وندعوه بإخلاص
أن يُعيننا على إتمام أعمالنا الصالحة، وأن يحمينا من وساوس الشيطان، ومن أن نصبح
من الغافلين أو المنحرفين عن الصراط المستقيم.
نختم حديثنا بهذا الحديث الشريف الذي ورد في كتب
السنن الأربعة ( سنن اي داود , سنن الترمذي , سنن ابن ماجه , سنن النسائي )
عن النبي ﷺ أنه كان إذا قام الليل ليُصلّي، كبّر
الله وقال:
"اللّهُ
أَكْبَر، اللّهُ أَكْبَر، اللّهُ أَكْبَر. رَبِّ، لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ نُورُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ قَيُّومُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ مَلِكُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، أَنْتَ الْحَقُّ، وَقَوْلُكَ
الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ،
وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ ﷺ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ"
وكان بعد ذلك يقول:
"أَعُوذُ
بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، مِنْ هَمْزِهِ
وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ"
فالشيطان من الجن حقيقي، وأذاه حقيقي.
ونبينا ﷺ نفسه كان يستعيذ بالله منه عند قيام
الليل.
فنحن أحقّ بالاقتداء به، وأولى بأن نطلب من الله
أن يحمينا من شر الشيطان الذي لا نراه، ولا يقدر على صده إلا الله السميع العليم.
إلى هنا نصل إلى نهاية مشاركتنا اليوم
فإن كان هناك خطأ في التعبير أو قصور في البيان،
فأسأل الله العفو والمغفرة، وألتمس منكم السماح.
جزاكم الله خيرًا جميعًا وبارك الله فيكم.
الحمد لله اولاً واخيراً
ردحذفما شاء الله...أبدعتي في الشرح ..دائما كان حلمي أفهم القرآن وافهم الدين بشكل صحيح...بارك الله فيكي .شكرا
حذف